وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ
(175)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} وَاقْصُصْ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَى اليَهُودِ قِصَّةَ ذَلِكَ الرَّجُلِ الذِي آتَيْنَاهُ حُجَجَ التَّوْحِيدِ، وَأَفْهَمْنَاهُ أَدِلَّتَهُ حَتَّى صَارَ عَالِماً بِهَا، والنَبَأُ هُو الخَبرُ المُهِمُّ ولَهُ جَدْوى اعْتِباريَّةٌ، ويُمْكِنُ أَنْ نَنْتَفِعَ بِهِ ولَيْسَ مُطْلَقَ خَبَرٍ. ولِذلك يَقولُ ـ سبحانَهُ وتَعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النبإ العظيم } سورة النبأِ، الآية: 1 و 2. فالنَبَأُ العظيمُ هنا هُوَ اليَوْمُ الآخِرُ.
وفي هذه الآية المباركةِ يَقولُ سبحانَه: "واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي آتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا"، وكأنَّ هذا النَبَأَ كانَ مَشْهُوراً جِداً، ويُقالُ: إنَّهُ قَدْ قِيلَ في (ابْنِ بَعُوراء) أو (بلعم) أَوْ أُمَيَّةُ بْنُ أَبي الصَلْتِ، أَوْ عامرٌ الراهِبُ، أوْ هُو واحدٌ مِنْ هؤلاءِ، والمهمُّ ليسَ اسمُهُ، إنّما المُهِمُّ أَنَّ إنْساناً آتاهُ اللهُ آياتِهِ ثمَّ انْسَلَخَ مِنَ الآياتِ، فَبَدَلاً مِنْ أَنْ يَنْتَفِع بها صِيانَةً لِنَفْسِهِ، ويتَقَرَّبَ إلى رَبِّهِ "فانسلخ مِنْهَا" واتْبَعَ هَواهُ ومالَ إلى الشَيْطان.
قولُهُ: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} فَانْسَلَخَ مِنْهَا، وَتَرَكَهَا وَرَاءَهُ ظِهْرِيّاً، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا لِيَهْتَدِيَ بِهَا. وحقيقةُ السَلْخِ كَشْطُ الجِلْدِ وإزالَتُهُ بالكُلِّيَّةِ عَنِ المَسْلوخِ عَنْهُ، ويقالُ لِكلِّ شيْءٍ فارَقَ شَيْئاً على أَتَمِّ وَجْهٍ: انْسَلَخَ مِنْهُ. وفي التَعبيرِ بِهِ مالا يَخْفى مِنَ المُبالَغَةِ، والانْسِلاخُ: التَعَرِّي مِنَ الشَيْءِ، ومنه: انْسِلاخُ جِلْدِ الحَيَّةِ. وليس في الآية قَلْبٌ؛ وأَنَّ أَصْلَه: فانْسلَخَتْ مِنْه، إذْ لا ضَرورَةَ تَدْعو إليْهِ، وإنْ زَعَمَهُ بعضُهم.
قولُهُ: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أَيْ: لَحِقَهُ الشَّيْطَانُ فَأَدْرَكَهُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الوَسْوَسَةِ إِلَيْهِ وَبَعْدَ أَنْ انْسَلَخَ مِنْهَا وَتَرَكَهَا وَرَاءَهُ بِاخْتِيَارِهِ، إِذْ لَمْ يَبْقَ لَدَيْهِ مِنْ نُورِ البَصِيرَةِ، وَلاَ مِنْ أَمَارَاتِ الهِدَايَةِ مَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَبُولِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وقيل تَبِعَهُ واتَّبَعَهُ بمعنى، وقال بعضُهم بأنَّ تَبِعَهُ مَشى في أَثَرِهِ، واتَّبَعَهُ إذا وازاهُ في المَشْيِ. وقيلَ: أتْبَعَهُ بمعنى اسْتَتْبَعَهُ. وهو من المبالغةِ في ذَمِّ هذا الإنسانِ وتحقيرِهِ، أنَّ جُعِلَ كأنَّهُ إمامٌ للشَيْطانِ والشَيطانُ يَتْبَعُهُ، فهُوَ عَلى حَدِّ قولِ الشاعِرِ:
وكان فتى مِنْ جُنْدِ إبْليسَ فارْتَقى...بِهِ الحالُ حتى صارَ إبْليسُ مِنْ جُنْدِهِ
قولُهُ: {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} فَصَارَ مِنَ الضَّالِّينَ. والغاوي والغَوِِيُّ هُوَ مَنْ يَضِلُّ عَنِ الطَريقِ وهُوَ المُمْعِنُ في الضَلالِ، ونَعْلَمُ أَنَّ الهُدى هُوَ الطريقُ المُوصِلُ للغايَةِ، ومَنٍْ يَشِذُّ عَنِ الطَريقِ المُوصِلِ للغايَةِ يَضِلُّ أو يَتوهُ في الصَحْراءِ. وهو الذي يُسَمَّى (الغاوي).
رُوِيَ أنَّ هذِهِ القصَّةَ هِيَ قِصَّةُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، لا يَسْأَلُ اللهُ شَيْئاً إلاَّ أعْطَاهُ إيَّاهُ، فَلَمَّا أرَادَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، الذِي تَسَلَّمَ أمْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى، أنْ يُحَارِبَ الجَبَّارِينَ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ، انْسَلَخَ هذا الرَّجُلُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَرَاحَ إلى الجَبَّارِينَ يُحَرِّضُهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ إذَا خَرَجْتُمْ لِقِتَالِ بَنِي إسْرَائِيلَ فَإنِّي أدْعُو عَلَيْهِمْ فَأُهْلِكُهُمْ.
قالَ عبدُ اللهِ بْنُ مَسْعودٍ: هو رَجُلٌ مِنْ بَني إسْرائيلَ بَعَثَهُ مُوسى ـ عليهِ السلامُ ـ إلى مَلِكِ مَدْيَنَ، داعيًا إلى اللهِ، فَرَشاهُ المَلِكُ، بأنْ أَعْطاهُ المُلْكَ على أَنْ يَتْرك دِينَ مُوسى، ويُتابِعَ المَلِكَ عَلى دينِهِ، فَفَعَلَ وأَضَلَّ النّاسَ عَلى ذَلِكَ.
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ رَجُلٌ مِنَ الكَنْعانِيّينَ، اسمُهُ: (بلعم)، كان عِنْدَهُ الاسْمُ الأَعْظَمُ، فلَمَّا أَرادَ مُوسى قَتْلَ الكَنْعانِيّينَ، وهُمُ الجَبَّارونَ، سَأَلوهُ أَنْ يَدْعُو عَلى مُوسَى باسْمِ اللهِ الأَعْظَمِ، فأبى، فأَلحّوا عَلَيْهِ حَتى دَعا أَلاَّ يَدْخُلَ المَدينةَ، ودَعا مُوسى عَلَيْهِ. فقد جاء فيما أخرجَ ابْنُ المَنذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، عَنِ ابْنِ عبّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ في قوله تعالى: "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا . . .". الآية. قال: هو رَجُلٌ مِنْ مَدينةِ الجَبّارينَ يُقالُ لَهُ (بلعم)، تَعَلَّمَ اسْمَ اللهِ الأَكْبَرَ، فلَمَّا نَزَلَ بهم مُوسى أَتاهُ بَنو عَمِّهِ وقومُهُ فَقالوا: إنَّ مُوسى رَجُلٌ جَديدٌ ومَعَهُ جُنودٌ كَثيرةٌ، وإنَّهُ إنْ يَظْهَرْ عَلَيْنا يُهْلِكْنا، فادْعُ اللهَ أَنْ يَرُدَّ عَنا مُوسى ومَنْ مَعَهُ. قال: إني إنْ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يَرُدَّ مُوسى وَمَنْ مَعَهُ مَضَتْ دُنيايَ وآخِرتي، فلَم يَزالوا بِهِ حتى دَعا عَليْهم، فَسُلِخَ مما كانَ فِيه. وفي قولِهِ: {إنْ تحمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلَهَثْ} قال: إنَّ حملَ الحِكْمَةِ لم يَحْمِلْها وإنْ تَرَكَ لمْ يَهْتَدِ لِخَيرٍ، كالكَلْبِ إنْ كان رابضاً لَهَثَ وإنْ طَرَدَ لَهَثَ.
وعلى هذا فالآياتُ التي أُعْطِيَها هي: اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ، وعَلى قَوْلِ ابْنِ مَسْعودٍ: هُوَ ما عَلَّمَهُ مُوسى مِنَ الشَريعَةِ. وقيل: كانَ عِنْدَهُ مِنْ صُحُفِ إبْراهيمَ.
وقالَ عبدُ اللهِ ابْنُ عَمْرٍو بِنِ العاصِ ـ رضي اللهُ عنهما ـ فيما أخرج عبدُ بْنُ حميدٍ، والنَسائيُّ، وابْنُ جَريرٍ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني وابن مردوَيْهِ: هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبي الصَّلْتِ الثَقَفِيِّ، وكانَ قدْ أُوتيَ عَلْمًا وحِكْمَةً، وقَرأ الكُتُبَ، وخالَطَ الرُهْبانَ، وسمِعَ مِنْهم أَنَّ اللهَ تَعالى مُرْسِلٌ رَسُولاً في ذلكَ الزَمانِ، فَرَجَا أَنْ يَكونَ هُوَ، وَرَفَضَ عِبادةَ الأَصنامِ، وحرَّمَ الخَمْرَ، وذَكَرَ في شِعرِهِ أَخْباراً مِنْ قِصَصِ التَوراةِ، ويُروى أَنَّهُ كانتْ لَهُ إلهاماتٌ ومُكاشفاتٌ وكان يَقولُ:
كلُّ دينٍ يَوْمَ القيامةِ عِنْدَ .............. اللهِ ـ إلاِّ دينَ الحنيفيَّةِ ـ زُورُ
ولَهُ شِعرٌ كثيرٌ في أُمورِ الإلهيَّةِ، فَلَمَّا بَعثَ اللهُ محمَّدًا ـ صَلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ حَسَدَهُ، وأَرادَ أَنْ يُسْلِمَ قبلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، ثمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وقالَ: ما كُنْتُ لأُؤمِنَ لِرَسُولٍ مِنْ ثَقيفٍ، وماتَ كافرًا.
وأَخرج عبدُ بْنُ حميدٍ، والنَسائيُّ، وابْنُ جريرٍ الطبريُّ، وابْنُ المنذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأبو الشَيْخِ، والطَبرانيُّ، وابْنُ مَردوَيْهِ عَنْ عَبدِ اللهِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضي اللهُ عنهما ـ أنه أميَّةُ ابنُ أبي الصلت.
وأَخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ عَنْ سَعيدٍ بْنِ المُسَيّبِ قال: (قَدِمَتِ الفارِغَةُ أُخْتُ أُمَيِّةَ بْنِ أَبي الصّلْتِ على رَسولِ اللهِ ـ صلى الله عليهِ وسَلَّمَ ـ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، فقال لها: ((هلْ تحفظينَ مِنْ شِعْرِ أَخيكِ شيئاً؟)). قالتْ: نَعَم. فقالَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلَّم: يا فارِعَةُ إنَّ مَثَلَ أَخيكِ كَمَثَلِ الذي آتاهُ اللهُ آياتِهِ فانْسَلَخَ مِنْها)). وهذا لا يعني أنَّه هو المقصودُ بالآية، إذ لم يَقُلْ أنَّ المقصودَ بالآيةِ أخوها، وإنما شَبَّهَهُ بِهِ.
قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ الشيطانُ} إمَّا هو مُتَعَدٍّ لِواحِدٍ بمعنى أَدْرَكَهُ ولَحِقَهُ وهُوَ مُبالَغَةٌ في حَقِّهِ، حَيْثُ جُعِل إماماً للشيطان. وإمّا هو متعدٍّ لاثنينِ لأنَّه مَنْقولٌ بالهمزةِ مِنْ تَبِعَ، والمَفْعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُهُ: أَتْبَعَهُ الشيطانُ خُطواتِهِ، أَيْ: جَعَلَهُ تابعاً لها. ومِنْ تعدِّيهِ لاثْنينِ قولُهُ تَعالى في سورةِ الطور: {وأَتْبعناهم ذرياتهم بإيمان} الآية: 21.
قرأَ الجمهورُ: {فأتبعه} رباعيّاً، وقرأَ الحَسَنُ: "فَتَبِعَهُ" وقرأَ طَلْحَةُ بخلافٍ عَنْهُ "فاتَّبَعَهُ" بِتَشْديدِ التاءِ.