قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ
(109)
قولُهُ ـ جلَّ شأنُهُ: {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} فَقَالَ جُمْهُورُ الكُبَرَاءِ وَالسَّادَةُ وَأَهْلُ الرَّأْيِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَونَ نِفَاقاً وَرِيَاءً، مُرَدِّدِينَ قَوْلَ فِرْعَونَ: إِنَّ هذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ، أَيْ ذُو مَعْرِفَةٍ بِالسِّحْرِ عَالِيَةٍ. والملأُ أيضاً هُمُ القومُ الذين يَتَصَدَّرونَ المجالِسَ، ويملؤونها، أو الذين يملؤون العيونَ هيبةً، والقلوبَ مَهابةً، وهُمْ هُنا السادةُ الأشرافُ والزعماءُ القادةُ المقرَّبونَ مِنْ فِرعون. فأسند القولَ إليهم. وفي قال في سورة الشعراء: {قال للملأ} فأسْنَدَ القولَ إلى فرعون. فيحتمَلُ أَنْ يَكونَ هذا الكلامُ صادراً مِنْهُ ومِنْهم، فحكى هنا عنهم وفي سورة الشعراء حكى عنه. ويحتمَلُ أنَّهُ قالَهُ ابْتِداءً وتَلَقَّنَه عَنْه خاصَّتُه فقالوهُ ثمَّ بَلِّغوهُ لِعامَّتِهم.
قولُهُ: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} يعنون أنّه يأخذ بأعين الناس بخِداعِهِ إيّاهم حتّى خُيِّلَ إليهم أنَّ العصا حَيَّةٌ والأُدْمةَ بياضٌ، فرأوا الشيءَ بخلافِ ما هو بِه، كما قيلَ سَحَرَ المطَرُ الأرضَ إذا جاءها فقَطَعَ نَباتَها من أَصلِها وقلبَ الأرضَ على البَطْنِ فهوَ يَسْحَرُها سَحْراً، والأرضُ مسحورةٌ، فشُبِّهَ سِحْرُ الساحرِ بِهِ لِتَخِييلِهِ إلى مَنْ سَحَرهُ أنّه يَرى الشيءَ بخِلافِ ما هُوَ بِهِ. فقرَّروا أن يحكموا على سيدنا موسى ـ عليه السلامُ ـ بأنَّهُ ساحرٌ مؤكِّدين ذلك ب "إن" وباللامِ، ولمّا كانَ السحرُ على مراتبَ شأنُهُ في ذلك شأنُّ غيرِه من العلومُ فقد حكموا يأنَّ سيدنا موسى على درجة عاليةٍ من العلم والتعمق، متفوِّقٌ في هذا المجال، واستعملوا صيغة المبالغة "عليم" على وزن "فعيل" أي بالغ الغاية في علم السّحر وخدعه وخيالاته وفنونه، لبيان حكمهم، وتأكيده. وإنما قالوا هذا الكلام على وجهِ الشورى مع فرعون واستنباطِ الاعتِذارِ لأنْفُسِهم عن قيام حجَّةِ موسى في وجوههم، فاعْتَلّوا لأنفُسِهم، بعضُهم لِبعضٍ، بأنَّ موسى إنما هُو ساحرٌ عليم بالسحر، أظهر لهم ما لا عَهْدَ لهم بمثلِه من أعمال السحرة، وهذا القولُ قد أعرَبَ عنْ رأيِ جميعِ أهلِ مجلسِ فِرْعون، ففِرْعونُ كانَ مشاركاً لهم في هذا لأنَّ القرآن حكى عن فرعون في غير هذه السورة أنَّه قالَ للمَلأِ حولَه {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}، كما تقدَّم.
وقولُهُ: {لَسَاحِرٌ} قرأَ عامَّةُ القرّاءِ هنا: "ساحر" وقرأ الأخَوانِ (حمزةُ والكسائيُّ) هنا وفي يونس الآية: 79. {بكلِّ سَحَّارٍ}. ولا خلافَ أنَّ الذي في سورة الشعراء: {بكل سَحَّارٍ} الآية: 37. وساحرٌ وسَحَّار مثلُ عالم وعَلاَّم، وقد عُرِف أن فعَّالاً صيغةُ مُبالَغَةٍ. ويُرَجِّح "سَحَّار" أنَّه مجاوزٌ لِعليم، وكلاهما مثالُ مُبالغةٍ.