وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ
(146)
قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} تتميمٌ لِما قَبْلَهُ لأنَّهُ تعالى كما حَرَّمَ على اليَهودِ جَميعَ هذِه الأُمورِ فَكذلكَ حَرَّمَ البَحيرةَ والسائبَةَ والوصيلة ونحوَها، أمّا هذه المحرَّمات المذكورة هنا فقد كانت محرَّمةً على اليهودِ خاصَّة من دون بقية الأمم السابقة واللاحقة غضباً عليهم. فلَمَّا ذَكَرَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ مَا حَرَّمَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَا حَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ خاصَّةً لا على مَنْ عَداهُمْ مِنَ الأمَمِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللهَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا نَحْنُ حَرَّمْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا مَا حَرَّمَهُ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ مَعْنَى هَادُوا. وَهَذَا التَّحْرِيمُ عَلَى الَّذِينَ هَادُوا إِنَّمَا هُوَ تَكْلِيفُ بَلْوَى وَعُقُوبَةٍ. فَأَوَّلُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَيْهِمْ كُلُّ ذِي ظُفُرٍ. وَالْجَمْعُ أَظْفَارٌ وَأُظْفُورٌ وأظافير، قال الْجَوْهَرِيُّ. وَزَادَ النَّحَّاسُ عَنِ الْفَرَّاءِ أَظَافِيرُ وَأَظَافِرَةُ، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ رَجُلٌ أَظْفَرُ بَيِّنُ الظَّفَرِ إِذَا كَانَ طَوِيلَ الْأَظْفَارِ، كَمَا يُقَالُ: رَجُلٌ أَشْعَرُ لِلطَّوِيلِ الشَّعْرِ. قَالَ ابنُ عباس ومُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ والسديُّ وابنُ جُبيْرٍ ـ رضي اللهُ عنهم: "ذِي ظُفُرٍ" مَا لَيْسَ بِمُنْفَرِجِ الْأَصَابِعِ مِنَ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ، مِثْلَ الْإِبِلِ وَالنَّعَامِ وَالْإِوَزِّ وَالْبَطِّ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْإِبِلُ فَقَطْ. وَقِيلَ: يَعْنِي كُلَّ ذِي بخلب مِنَ الطَّيْرِ وَذِي حَافِرٍ مِنَ الدَّوَابِّ. وَيُسَمَّى الْحَافِرُ ظُفْرًا اسْتِعَارَةً. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ: الْحَافِرُ ظُفْرٌ، وَالْمِخْلَبُ ظُفْرٌ، إِلَّا أَنَّ هَذَا عَلَى قدره، وذاك على قدره وليس هاهنا اسْتِعَارَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ كِلَيْهِمَا يُقَصُّ وَيُؤْخَذُ مِنْهُمَا وَكِلَاهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ: عَظْمٌ لَيِّنٌ رِخْوٌ. أَصْلُهُ مِنْ غِذَاءٍ يَنْبُتُ فَيُقَصُّ مِثْلَ ظُفْرِ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ حَافِرًا لِأَنَّهُ يَحْفِرُ الْأَرْضَ بِوَقْعِهِ عَلَيْهَا. وَسُمِّيَ مِخْلَبًا لِأَنَّهُ يَخْلِبُ الطَّيْرَ بِرُءُوسِ تِلْكَ الْإِبَرِ مِنْهَا. وَسُمِّيَ ظُفْرًا لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْأَشْيَاءَ بِظُفْرِهِ، أَيْ يَظْفَرُ بِهِ الْآدَمِيُّ وَالطَّيْرُ.
وهذا كما تحقيقٌ لِما سَلَفَ مِنْ حَصْرِ المُحَرَّماتِ فيما فَصَلَ بإبْطالِ ما يٌخالِفُهُ مِنْ فِرْيةِ اليهودِ وكذِبِهم في ذلكَ، فإنَّهم كانوا يقولون: لَسْنا أَوَّلَ مَنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ، وإنَّما كانَتْ مُحرَّمةً على نُوحٍ وإبراهيمَ ـ عليهما السلام ـ ومَنْ بَعْدَهُما حتى انْتَهى التحريمُ إلينا.
قَوْلُهُ: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما} قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي الثُّرُوبَ وشَحْمَ الكليتين، وقال السُّدِّيُّ. وَالثُّرُوبُ جَمْعُ الثَّرْبِ، وَهُوَ الشَّحْمُ الرَّقِيقُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الْكَرِشِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حُرِّمَ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَحْمٍ غَيْرِ مُخْتَلِطٍ بِعَظْمٍ أَوْ عَلَى عَظْمٍ، وَأُحِلَّ لَهُمْ شَحْمُ الْجَنْبِ وَالْأَلْيَةِ، لِأَنَّهُ عَلَى الْعُصْعُصِ.
قَوْلُهُ: {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} الْمَعْنَى: حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ شُحُومُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، إِلَّا مَا حَمَلَتِ الظُّهُورُ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ. وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْكُلَ الشَّحْمَ حَنِثَ بِأَكْلِ شَحْمِ الظُّهُورِ، لِاسْتِثْنَاءِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ مَا عَلَى ظُهُورِهِمَا مِنْ جُمْلَةِ الشَّحْمِ. والاستثناءٌ بـ "إلاَّ" مِنَ الشحومِ هُنا مُنْقَطِعٌ أوْ مُتَّصِلٌ. وإلى الانْقِطاعِ ذَهَبَ الإمامُ الأعْظَمُ، أبو حنيفة النُعمان ـ رضي اللهُ تعالى عنْهُ ـ فقد نُقِلَ عنْه: لَوْ حَلَفَ لا يَأْكُلُ شَحْماً يَحْنُثُ بِشَحْمِ البَطْنِ فقط. وخالَفَهُ في ذلك صاحباهُ ـ محمد وأبو يوسف ـ فقالا يَحْنُثُ بِشَحْمِ الظَهْرِ أَيْضاً لأنَّهُ شَحْمٌ وفيهِ خاصِيَّةُ الذَوبِ بالنّار. وأُيِّدَ ذلك بهذا الاسْتِثْناءِ بناءً على أَنَّ الأَصْلَ فيه الاتِّصالُ. لكنَّ الاتِّصالَ وإنْ كانَ أَصْلاً في الاسْتِثناءِ إلاَّ أَنَّ هُنا ما يَدُلُّ على الانْقِطاعِ وهو قولُه تعالى: {أَوِ الحوايا} فإنَّه عَطْفٌ على المُسْتَثنى وليسَ بِشحْمٍ بَلْ هُو بمَعْنى المَباعِرِ كما رُويَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ومجاهد وغيرِهِما وهذا ما يرجّح قولَ الإمامِ الأعظم.
قَوْلُهُ: {أَوِ الْحَوايا}: الْحَوَايَا: هِيَ الْمَبَاعِرُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَهُوَ جَمْعُ مَبْعَرٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ الْبَعْرِ فِيهِ. وَهُوَ الزِّبْلُ. وَوَاحِدُ الْحَوَايَا حَاوِيَاءُ، مِثْلَ قَاصِعَاءَ وَقَوَاصِعَ. وَقِيلَ: حَاوِيَةٌ مِثْلُ ضَارِبَةٍ وَضَوَارِبَ. وَقِيلَ: حَوِيَّةٌ مِثْلُ سَفِينَةٍ وَسَفَائِنَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْحَوَايَا مَا تَحَوَّى مِنَ الْبَطْنِ أَيِ اسْتَدَارَ. وَهِيَ مُنْحَوِيَةٌ أَيْ مُسْتَدِيرَةٌ. وَقِيلَ: الْحَوَايَا خَزَائِنُ اللَّبَنِ، وَهُوَ يَتَّصِلُ بِالْمَبَاعِرِ وَهِيَ الْمَصَارِينُ. وَقِيلَ: الْحَوَايَا الْأَمْعَاءُ الَّتِي عَلَيْهَا الشُّحُومُ. وَالْحَوَايَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: كِسَاءٌ يُحَوَّى حَوْلَ سَنَامِ الْبَعِيرِ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
جَعَلْنَ حَوَايَا وَاقْتَعَدْنَ قَعَائِدًا ............... وَخَفَّفْنَ مِنْ حَوْكِ الْعِرَاقِ الْمُنَمَّقِ
فَأَخْبَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمَ هَذَا فِي التَّوْرَاةِ رَدًّا لِكَذِبِهِمْ. وَنَصُّهُ فِيهَا: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ" الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَكُلُّ دَابَّةٍ لَيْسَتْ مَشْقُوقَةَ الْحَافِرِ وَكُلُّ حُوتٍ لَيْسَ فِيهِ سَفَاسِقُ" أَيْ بَيَاضٌ. ثُمَّ نَسَخَ اللهُ ذَلِكَ كلَّهُ بِشريعةِ مُحَمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم. وَأَبَاحَ لَهُمْ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَأَزَالَ الْحَرَجَ، وَأَلْزَمَ الخليقةَ دينُ الإسلام بحِلِّهِ وحَرامِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.
وهنا تعرض مسألة بأنهم لَوْ ذَبَحُوا أَنْعَامَهُمْ فَأَكَلُوا مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَتَرَكُوا مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فَهَلْ يَحِلُّ لَنَا أن نأكُلَ ما تركوه؟ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: هِيَ مُحَرَّمَةٌ. وَقَالَ في سَماعِ المَبسوط: بل مُحَلَّلَةٌ وَبِهِ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَكْرَهُهُ. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُمْ يَدِينُونَ بِتَحْرِيمِهَا وَلَا يَقْصِدُونَهَا عِنْدَ الذَّكَاةِ، فَكَانَتْ مُحَرَّمَةً كَالدَّمِ. وَوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ رَفَعَ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ بِالْإِسْلَامِ، وَاعْتِقَادُهُمْ فِيهِ لَا يُؤَثِّرُ، لِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ فَاسِدٌ، قَالَهُ ابْنُ العربي. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ مَا رَوَاهُ الصَّحِيحَانِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ، فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ فَنَزَوْتُ لِآخُذَهُ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ. لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُغَفَّلٍ: أَصَبْتُ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ فَالْتَزَمْتُهُ وَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا، قَالَ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُتَبَسِّمًا. قَالَ العُلَمَاءُ: تَبَسُّمُهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ إِنَّمَا كَانَ لِمَا رَأَى مِنْ شِدَّةِ حِرْصِ ابْنِ مُغَفَّلٍ عَلَى أَخْذِ الْجِرَابِ وَمِنْ ضِنَتِهِ بِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِطَرْحِهِ وَلَا نَهَاهُ. وَعَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا كَرِهَهُ لِلْخِلَافِ فِيهِ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكٍ تَحْرِيمَهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كُبَرَاءُ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَمُتَمَسَّكُهُمْ مَا تَقَدَّمَ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ ذَبَحُوا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ قَالَ أَصْبَغُ: مَا كَانَ مُحَرَّمًا فِي كِتَابِ اللهِ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ بِتَحْرِيمِهَا. وَقَالَهُ أَشْهَبُ وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَجَازَهُ ابْنُ وَهْبٍ. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ، وَعَلِمْنَا ذَلِكَ مِنْ كِتَابِنَا فَلَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، وَمَا لَمْ نَعْلَمْ تَحْرِيمَهُ إِلَّا مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ فَهُوَ غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْنَا مِنْ ذَبَائِحِهِمْ.
قَوْلُهُ: {ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ} ذلِكَ: أَيْ ذَلِكَ التحريم. أَو الْأَمْرُ ذَلِكَ. "جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ" أَيْ بِظُلْمِهِمْ، عُقُوبَةً لَهُمْ لِقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَاسْتِحْلَالِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ إِنَّمَا يَكُونُ بِذَنْبٍ، لِأَنَّهُ ضِيقٌ فَلَا يُعْدَلُ عَنِ السَّعَةِ إِلَيْهِ إِلَّا عِنْدَ الْمُؤَاخَذَةِ. "وَإِنَّا لَصادِقُونَ" فِي إِخْبَارِنَا عَنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ عَمَّا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ اللُّحُومِ وَالشُّحُومِ.
قولُهُ تعالى: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حرّمنا كلَّ ذي ظُفُرٍ} الجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقان بِحَرَّمْنا، وتقديمَ المعمول على عامله هنا يفيد التخصيص عند بعض النُحاةِ. وقرأ عامَّةُ القراءِ "ظُفُر"، وهي أعلى اللُّغات فيها، وقرأ أبو بكرٍ والأعرج والحسنُ في روايةٍ عنه"ظُفْر" بِسُكونِ العيْنِ وهي تخفيفٌ لِمَضمومِها، وقرأ أبو السمّال، فيما نسب إليه الواحديُّ "ظِفِر" بكسر الظاء والفاء، وقرأ الحسنُ أيضاً فيما نُسِبَ إليه: "ظِفْر" بكسر الظاء وسكون الفاءِ وهي تخفيفٌ لِمكسورِها، وهناك لغةٌ خامسةٌ لم يُقرأْ بها وهي "أُظْفور"، وأَنْشَدوا عليها قولَ الشاعر:
ما بين لُقْمَتِها الأولى إذا انحدَرَتْ ........ وبين أخرى تليها قِيْدُ أُظْفورِ
وجُمْعُ الثُلاثيّ أَظفارٌ، وجَمْعُ أُظفورٍ أَظافيرٌ وهو القياسُ، وأَظافِرُ مِنْ غيرِ مَدٍّ وليسَ بِقياسٍ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذه الصيغةِ مفصَّلاً عند قوله تبارك وتعالى: {وعنده مفاتحُ الغيبَ} سورة الأنعام، الآية: 59.
قولُه: {ومِنَ البَقَرِ والغَنَمِ حَرَّمْنا عَليهم شُحومَهُما} ومَنَ البَقَرِ: معطوفٌ على "كلَّ ذي" فتَتعلَّقُ "مِنْ" بحرَّمْنا الأُولى لا الثانية، وإنَّما جِيءَ بالجُملَةِ الثانيةِ مُفَسِّرَةً لِما أُبْهِمَ في "مِنْ" التَبْعيضيَّةِ مِنَ المُحَرَّمِ، فقال: "حَرَّمْنا عليهم شحومهما" أو يَتَعَلَّقَ بِـ "حَرَّمْنا" المتأخرةِ والتَقديرُ: وحَرَّمْنا على الذين هادوا مِنَ البَقَرِ والغَنَمِ شُحومَهما، فلا يَجِبُ هُنا تقديمُ المَجرورِ بِها على الفِعْلِ، بَلْ يَجوزُ تَأْخيرُه كما تَقَدَّمَ، ولكنْ لا يَجوزُ تأخيرُهُ عَنِ المَنصوبِ بالفِعْلِ فَيُقال: حَرَّمْنا عليهم شُحومَهما مِنَ البَقَرِ والغَنَمِ لِئَلاَّ يَعودَ الضَميرُ على مُتَأَخِّرٍ لَفْظاً ورُتْبَةً. وقال أَبو البَقاءِ: ولا يَجُوزُ أَنْ يَكونَ "مِن البقر" مُتَعَلِّقاً بـ "حَرَّمنا" الثانية. قال الشيخ التوحيديّ: وكأنَّه تَوَهَّم أَنَّ عَوْدَ الضَميرِ مانعٌ مِنَ التَعَلُّقِ، إذْ رُتْبَةُ المَجْرورِ بـ "مِنْ" التَأْخير لكن عَن ماذا التأخيرُ؟ أَمَّا عَنِ الفِعْلِ فمُسَلَّمٌ، وأَمَّا عَنِ المَفعولِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ. يَعني أَنَّهُ إنْ أَرادَ أَنَّ رُتْبَةَ قولِهِ "مَنَ البَقَرِ" التَأْخيرُ عَنْ شُحومِهِما فيَصيرُ التَقديرُ: حرَّمْنا عَليْهِم شُحومَهُما مِنَ البَقَرِ، فغَيْرُ مُسَلَّم. ثمَّ قال الشيخ: وإنْ سَلَّمْنا أَنَّ رُتْبَتَهُ التَأْخيرُ عَنِ الفِعْلِ والمَفْعولِ فليسَ بِمَمْنوعٍ بَلْ يَجوزُ ذلك كما جازَ: "ضَرَبَ غُلامَ المَرأةِ أَبوها" و"غُلامَ المرأةِ ضَرَبَ أَبوها"، وإنْ كانَتْ رُتْبَةُ المَفعولِ التَأْخيرُ، لكنَّهُ وَجَبَ هُنا تَقديمُهُ لِعَوْدِ الضَميرِ الذي في الفاعِلِ الذي رُتْبَتُهُ التَقديمُ عليهِ فَكيْفَ بالمَفْعولِ الذي هو والمَجْرورُ في رُتْبَةٍ واحدةٍ؟ أَعْني في كونِهِما فَضْلَةً فَلا يُبالى فيهِما بتَقديمِ أَيِّهِما شِئْتَ على الآخَرِ، قال امْرُؤُ القَيْسِ:
وقد رَكَدَتْ وسطَ السماء نجومُها ....... رُكُوداً بِوَادِي الرَّبْرَب المُتَفَرِّقِ
فقدَّمَ الظَرْفَ وُجوباً لِعَوْدِ الضَميرِ الذي اتَّصَلَ بالفاعِلِ على المَجْرورِ بالظَرْفِ. ولِقائلٍ أَنْ يَقولَ لا نُسَلِّم أَنَّ أَبا البَقاءِ إنَّما مَنَعَ ذلك لِما ذَكَرَهُ حتّى يُلْزَمَ بما ألزمته بل قد يكون منعه لأمر معنوي. والإِضافةُ في قولِهِ: "شحومهما" تُفيدُ الدَّلالةُ على تَأكيدِ التَخصيصِ والرَّبْطِ، إذْ لَوْ أَتى في الكَلامِ "من البقر والغنم حرَّمْنا عليهم الشحوم" لكانَ كافياً في الدَلالةِ على أَنَّهُ لا يُرادُ إلاَّ شُحومُ البَقَرِ والغَنَمِ.
قولُهُ: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} ما: موصولَةٌ في مَحَلِّ نَصْبٍ على الاسْتِثْناءِ المُتَّصِلِ مِنَ الشُحومِ، أيْ: إنَّهُ لَمْ يُحَرِّمِ الشَّحْمَ المَحمولَ على الظَّهْرِ، ثمَّ إنْ شئتَ جَعلتَ هذا المَوصولَ نَعْتاً لِمَحذوفٍ، أيْ: إلاَّ الشَّحْمَ الذي حَمَلَتْهُ ظُهورُهُما، وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ مَوْصوفاً بِشيءٍ مَحذوفٍ، أَيْ: إلاَّ الذي حَمَلْتْهُ ظُهورُهُما مِنَ الشَّحْمِ، وهذا الجارُّ هُوَ وَصْفٌ مَعْنَوِيٌّ لا صِناعِيٌّ فإنَّهُ لَو أَظْهَرَ كذا لَكانَ إعرابُه حالاً. ويَحتملُ قولُه: "ظهورُهُما" أنْ يَكونَ مِنْ بابِ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} التحريم: 4. بالنِّسْبَةِ إلى ضَميرِ البَقَرِ والغَنَمِ مِنْ غيرِ نَظَرٍ إلى جَمعيتَهما في المعنى، ويُحتَمَلُ أَنْ يَكونَ جَمَعَ "الظهورِ" لأنَّ المُضافِ إليْه جَمْعٌ في المَعنى، فهو مِثلُ "قَطَعْتُ رُؤوسَ الكَبْشَيْنِ: فالتَثْنِيَةُ في مِثْلِ هذا مُمْتَنِعةٌ.
قولُهُ: {أَوِ الحوايا} الظاهرُ أَنَّهُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفاً على "ظُهورِهِما" أيْ: وإلاَّ الذي حَمَلَتْهُ الحَوايا مِنَ الشَّحْمِ فإنَّهُ أَيْضاً غيرُ مُحَرَّمٍ، أو أنَّها في مَحَلِّ نَصْبٍ نَسَقاً على "شُحومِهِما" أيْ: حَرَّمْنا عليهِمِ الحَوايا أَيْضاً أوْ ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ فتَكونُ الحَوايا والمُخْتَلِطُ مُحَرَّمَيْن، وسَيَأْتي تَفسيرُهُما، وإلى هذا ذَهَبَ جَماعةٌ قليلةٌ، وتَكونُ "أو" فيه كالتي في قولِهِ تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} يُرادُ بِها نَفْيُ ما يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِطَريقِ الانْفِرادِ كما تَقولُ: هَؤلاءِ أَهْلٌ أَنْ يُعْصَوا فاعْصِ هذا أوْ هذا. فالمَعنى: حَرَّمَ عَليهِم هذا وهذا. أوْ بِمَنْزِلَتِها في قولِهم: جالِسِ الحَسَنَ أوْ ابْنَ سِيرين.
قال الشيخ: وقالَ النَّحْويّونَ "أو" في هذا المِثالِ للإِباحَةِ فيَجوزُ لَهُ أَنْ يُجالِسَهُما وأَنْ يُجالِسَ أَحَدَهُما، والأَحْسَنُ في الآيةِ إذا قُلْنا إنَّ "الحوايا" معطوفٌ على "شحومهما" أَنْ تَكونَ "أو" فيه للتفصيلِ، فصَّلَ بِها ما حَرَّم عليهم مِنَ البَقَرِ والغَنَمِ.
وقال قومٌ: حُرِّمَتْ عَليهِمُ الثُروبُ وأُحِلَّ لهم ما حَمَلَتِ الظُهور، وصارت الحوايا أو ما اختلط بعظْمٍ نَسَقاً على ما حرَّمَ لا على الاسْتِثناءِ، والمَعنى على هذا القولِ: حُرِّمَتْ عليهم شحومُهُما أوِ الحَوايا أوْ ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ إلاَّ ما حَمَلَتِ الظُهورُ فإنَّه غيرُ مُحَرَّمٍ، وأُدخِلَتْ "أو" على سبيل الإِباحةِ كما قالَ تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} سورة الإِنسانَ، الآية: 24، والمعنى: كلُّ هؤلاءِ أَهْلٌ أَنْ يُعْصَى فاعْصِ هذا أوْ اعْصِ هذا، و"أو" بَليغةٌ في هذا المعنى لأنَّك إذا قلتَ: "لا تُطع زيداً وعمراً" فجائزٌ أَنْ تَكونَ نَهَيْتَني عن طاعتِهِما مَعَاً في حالةٍ، فإذا أَطَعْتُ زَيْداً على حِدَتِه لَم أَكُنْ عاصِياً، وإذا قلتَ: لا تُطِعْ زيداً أو عَمْراً أوْ خالداً. فالمَعنى: أنَّ كلَّ هؤلاءِ أَهْلٌ أَنْ لا يُطاعَ فلا تُطِعْ واحداً مِنْهم ولا تُطِعِ الجَماعَةَ، ومِثْلُهُ: جالِسِ الحَسَنَ أوِ ابْنَ سِيرين أوْ الشَعْبِيَّ، فليس المعنى: أَنّي آمُرُكَ بمَجالَسَةِ واحدٍ مِنْهم، فإنْ جالَسْتَ واحداً منهم فأَنْتَ مُصيبٌ، وإنْ جالَسْتَ الجماعةَ فأَنْتَ مُصيبٌ. وأَمَّا قولُهُ: فالأَحْسَنُ أَنْ تَكونَ "أو" فيهِ للتَفصيلِ فقدْ سَبَقَهُ إلى ذلك أَبو البقاءِ فإنَّهُ قالَ: و"أو" هُنا بمعنى الواو لِتَفْصيلِ مَذاهِبِهم أَوْ لاخْتِلافِ أَماكِنِها. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ رَدَّاً على هذا القولِ، أَعْني كَوْنَ الحَوايا نَسَقاً على شُحومِهِما: وعلى هذا تَدخُلُ الحوايا في التَحريمِ، وهذا قولٌ لا يَعْضُدُهُ لا اللفظُ ولا المُعنى بُلْ يَدْفَعانِهِ، ولم يُبيِّنْ وَجْهَ الدَفعِ فيهِما. ويُمْكِنُ أنْ يكون "الحوايا" في مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفاً على المُسْتَثنى وهو ما حَمَلَتْ ظهورُهُما كأنَّه قيلَ: إلاَّ ما حَمَلَتِ الظُهورُ أَوْ إلاَّ الحوايا أوْ إلاَّ ما اخْتَلَطَ، نَقَلَهُ مَكِّيٌّ، وأَبو البَقاءِ بَدَأَ بِهِ ثمَّ قال: وقيل: هو معطوفٌ على الشحومِ. ونقلَ الواحديُّ عنِ الفَرّاءِ أَنَّه قالَ: يَجوزُ أَنْ يَكونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بتقديرِ حَذْفِ المُضافِ على أنْ يُريدَ أو شُحومَ الحَوايا فيَحذِفُ الشّحومَ ويَكْتفي بالحَوايا كما قال تعالى: {وَسْئَلِ القرية} يوسف: 82. يريد أهلَها، وحكى ابْنُ الأنباري عن أبي عُبَيْدٍ أَنَّه قالَ: قلتُ للفَرّاءِ: هُوَ بمَنْزِلَةِ قولِ الأَعْشى مَيمون بْنِ قَيْسٍ:
لا يَسْمعُ المرءُ فيها ما يُؤَنِّسُهُ ................ بالليل إلا نئيمَ البُوْمِ والضُّوَعا
فقال لي: نَعَمَ، يَذْهَبُ إلى أَنَّ "الضَّوْعَ" عَطْفٌ على "النَّئيمِ" ولَمْ يُعْطَفْ على "البُومِ"، كما عُطِفتِ الحَوايا على "ما" ولَم تُعطَفْ على الظُهورِ. فمُقْتَضى ما حَكاه ابْنُ الأَنْباري أَنْ تَكونَ "الحَوايا" عَطْفاً على "ما" المُسْتَثْناةِ، وفي مَعْنى ذلك قَلَقٌ بَيِّنٌ.
أَمَّا مدلولُ الحوايا فقيل: هي المَباعِرُ، وقيلَ: المَصارينُ والأَمْعاءُ، وقيلَ: كلُّ ما تَحويهِ البَطْنُ فاجْتَمَعَ واسْتَدارَ، وقيلَ: هي الدوارة التي في بَطْنِ الشاةِ. و"الحوايا" جمعُ: حاويةٍ كَضاربَةٍ، وقيلَ: حَوِيَّة كَطريفةٍ، وقيلَ: حاوياء كقاصِعاء. وقد جوَّز الفارسي أنْ يَكونَ جَمْعاً لِكُلِّ واحدٍ مِنَ الثلاثةِ، يَعني أَنَّهُ صالحٌ لذلك. وقال ابن الأعرابي: هي الحَوِيَّةُ والحاويةُ ولم يَذْكُرِ الحاوياء. وذَكرَ ابْنُ السِّكِّيتِ، يُقالُ: حاويةٌ وحَوايا مِثْل زاوية وزوايا، وراوية وروايا" ومنهم من يقولُ حَوِيَّة وحوايا مثل الحَوِيَّة التي تُوضَعُ على ظَهْرِ البَعيرِ ويُرْكَبُ فوقَها، ومِنهم مَنْ يَقولُ لِواحِدَتِها "حاوياء" وأَنْشَدَ قولَ جَريرٍ:
تَضْغُو الخَنانيصُ والغُول التي أكلَتْ ........... في حاوِيَاءِ رَدُومِ الليل مِجْعارِ
وأَنْشَدَ له أيضاً أبو بَكْرٍ ابْنُ الأَنْباري:
كأنَّ نقيق الحَبّ في حاويائه ............... فحيحُ الأفاعي أو نقيقُ العقارب
فإنْ كانَ مُفردَها حاويةٌ فوَزنُها فَواعِلٌ كَضارِبَةٍ وضَوارِبٍ ونَظيرُها في المُعْتَلِّ: زاوية وزوايا وراوية وروايا، والأصلُ حَواوي، كضوارِبٍ فقُلِبَتِ الواوُ التي هي عَيْنُ الكَلِمَةِ هَمْزَةً لأنَّها تالي حَرْفَيْ لِينٍ اكْتَنفا مَدَّةَ مَفاعِلٍ، فاسْتُثقِلتْ هَمزةٌ مَكسورةٌ فقُلِبَتْ ياءً فاسْتُثْقِلَتِ الكَسْرَةُ على الياءِ فَجُعِلَتْ فتحةً، فتَحَرَّكَ حرفُ العِلَّةِ، وهو الياءُ التي هي لامُ الكَلِمَةِ بَعدَ فَتْحَةٍ فقُلِبَتْ أَلِفاً فَصارَتْ حَوايا، أو قُلِبَتْ الواوُ هَمْزةً مفتوحةً فتَحَرَّكَتِ الياءُ وانْفَتَحَ ما قبلَها فقُلِبَتْ أَلِفاً، فصارتْ هَمْزَةً مَفْتوحَةً بَيْنَ أَلفَيْنِ يُشْبِهانِها فَقُلِبَتِ الهَمْزةُ ياءً، وقدْ تَقَدَّمَ تَحقيقُ هذا في قولِهِ: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} البقرة: 58. واختلافُ أهلِ التَصريفِ في ذلك، وكذلك إذا قلْنا مفردَها "حاوياء" كان وزنُها فواعلَ أَيضاً كقاصِعاء وقواصِع وراهِطاء ورواهِط، والأصلُ حواوي أَيْضاً فَفُعِل به ما فُعل فيما قبلَه، وإنْ قُلْنا إنَّ مُفرَدَها حَوِيَّة فَوَزْنُها فعائلُ كطرائف، والأصلُ حوائي فقُلِبت الهمزةُ ياءً مفتوحةً، وقُلبت الياءُ التي هي لام ألفاً فصارَ اللفظُ "حوايا" أيضاً فاللفظُ متَّحدٌ والعملُ مختلفٌ.
وقوله: {أو ما اختلط بعظم} فيه ما تقدَّم في حَوايا، ورأى الفراءُ فيهِ أَنَّه منصوبٌ نَسَقاً على "ما" المستثناةِ في قولِه: "إلا ما حَمَلَتْ ظهورهما" والمرادُ به الأَلْيَة وقيلَ: هو كلُّ شَحْمٍ في الجَنْبِ والعينِ والأُذُنِ والقوائمِ.
قولُه: {ذلك جَزَيْنَاهُم} خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أيْ: الأمرُ ذلك، أو الخبرُ ما بعدَه، والعائدُ مَحذوفٌ، أيْ: ذلك جزيناهموه، وفيه ضعف، مِنْ حيثُ إنَّه حَذَفَ العائدَ المنصوبَ وقد تقدَّمَ ما في ذلك في المائدة عندَ قولِه {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُون} الآية: 50، وأيضاً فقدِّرَ العائدُ مُتَّصلاً، ويَنبغي ألاّ يُقَدَّرَ إلاّ منفصلاً ولكنَّه يُشْكِلُ حَذْفُه وقد تَقدَمّ تحقيقُه أَوَّلَ سورةِ البقرةِ.
وقال ابن عطية: "ذلك" في مَوْضِعِ رَفعٍ" ولم يُبيِّنْ على أيِّ الوَجْهيْن المُتقدِّميْن ويَنبغي أَنْ يُحْمَلَ على الأوَّل لِضَعْفِ الثاني. وقيلَ بأنَّه مَنصوبٌ على المَصدر، إلاَّ أنَّ هذا قدْ ينخدش بما نَقَلَهُ ابْنُ مالكٍ وهو أنَّ المصدرَ إذا أُشيرَ إليه وَجَبَ أنْ يُتْبع بـ "ذلك" المصدرُ فيقال: "ضربت ذلك الضرب" و"قمت هذا القيام" ولو قلت: "ضربت زيداً ذلك" و"قمت هذا" لم يَجُزْ، ذكر ذلك في الرَدِّ على مَنْ أَجابَ عَنْ قولِ المُتنبي:
هذي بَرَزْتِ فَهِجْتِ رسيسا ................. ثم انصرفْتِ وما شَفَيْتِ نسيسا
فإنهم لَحَّنوا المتنبي مِنْ حيثُ إنَّه حَذَفَ حَرْفَ النداءِ مِنِ اسْمِ الإِشارةِ إذِ الأصلُ: يا هذي، فأجابوا عنه بأنَّا لا نُسَلِّم أنَّ "هذي" مُنادى بل إشارةٌ إلى المصدرِ كأنَّه قال: بَرَزْتِ هذي البَرْزة. فردَّ ابنُ مالكٍ هذا الجوابَ بأنَّه لا يَنْتَصِبُ اسْمُ الإِشارة مشاراً بِه إلى المَصدرِ إلاَّ وهو مَتبوعٌ بالمَصدرِ. وإذا سُلِّم هذا فيكون القولً بأنَّهُ مَنصوبٌ على المصدرِ مردوداً بما رُدَّ به الجوابُ عن بيت أبي الطيّبِ، إلا أنَّ رَدَّ ابْنَ مالكٍ ليسَ بصحيحٍ لِوُرودِ اسْمِ الإِشارةِ مُشاراً به إلى المَصْدَرِ غيرَ مَتبوعٍ بِه، قال الشاعر:
يا عمرُو إنك قد مَلِلْت صَحابتي .............. وصحابَتيك إخالُ ذاك قليلُ
قال النَّحْويّون: "ذاك" إشارة إلى مصدر "خال" المؤكِّد له، وقد أنشده هو على ذلك.
ويمكنُ أَنَّه منصوبٌ على أَنّه مفعولٌ ثانٍ قُدِّم على عامله لأنَّ "جزى" يتعدَّى لاثنين، والتقدير: جَزَيْناهم ذلك التحريم. وقال أبو البقاء ومكي: إنه في موضع نصب بجَزَيْناهم، ولم يُبَيِّنا على أي وجه انتصب: هل على المفعول الثاني أو المصدر؟
وقوله: {لَصَادِقُونَ} معمولُه محذوفٌ أي: لصادقون في إتمام جزائهم في الآخرة إذ هو تعريضٌ بكذبهم. والضميرُ في "كذَّبوك" الظاهر عَوْدُه على اليهود لأنهم أقرب مذكور. وقيل: يعود على المشركين لتقدُّم الكلام معهم في قوله: {نَبِّئُونِي بِعِلْم} الأنعام: 143. و{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء} الأنعام: 144.