فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى شأنُه: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} أي بِزَوالِ نورِ الشمسِ عنِ الحِسِّ، وهذا صريحٌ في أنَّه لم يَكنْ في ابتِداءِ الطُلوعِ بلْ كانتْ غيبتُه عنِ الحِسِّ بطريقِ الاضْمِحْلالِ بِنورِ الشَمْسِ، والتَحقيقُ أنَّه كان قريباً مِنَ الغُروبِ. و"جنَّ عليه الليلُ" أَيْ سَتَرَهُ بِظُلْمَتِهِ، وَمِنْهُ الْجَنَّةُ وَالْجِنَّةُ وَالْجُنَّةُ
وَالْجَنِينُ وَالْمِجَنُّ وَالْجِنُّ كُلُّهُ بِمَعْنَى السِّتْرِ.
قولُه: {رَأى كَوْكَباً} أيْ رَأَى نَجْماً عَظِيماً، مُمْتَازاً عَنْ سَائِرِ الكَوَاكِبِ، بِإشْرَاقِهِ وَبَرِيقِهِ، قِيلَ إنَّهُ كُوْكَبُ المُشْتَرِي الذِي عَبَدَهُ كَثِيرٌ مِنَ الأَقْوَامِ التِي عَبَدَتِ الكَوَاكِبَ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِقَوْمِهِ: هَذَا رَبِّي؛ فَلَمَا غَابَ وَغَرَبَ قَالَ لَهُمْ: إنِّي لاَ أُحِبُّ الآَفِلِينَ، إذْ أَدْرَكَ أنَّ رَبَّهُ حَاضِرٌ دَائِمٌ لاَ يَزُولُ. قَالَ هذا لِقَوْمِهِ فِي مَقَامِ المُنَاظَرَةِ وَالحِجَاجِ، تَمْهِيداً لِلإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ فَأَوْهَمَهُمْ أَوَّلاً أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُمْ عَلَى زَعْمِهِمْ أنَّ كَوْكَباً يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلهاً. ثُمَّ كَرَّ عَلَيْهِمْ بِالنَّقْضِ بَانِياً حُجَّتَهُ عَلَى الحِسِّ وَالعَقْلِ. كونَه مِنَ الرَّاسخين في المَعرِفَةِ، الواصلين إلى ذُروَةِ عَيْنِ اليَقينِ، ممّا يّقتَضي بِأَنْ يحكُمَ باسْتِحالَةِ أُلوهيَّةِ ما سِواهُ مِنَ الأصنامِ والكَواكِبِ التي كان يَعبُدُها قومُه، ويُحتَمَلُ أنْ يَكونَ تَفصيلاً لما ذُكِرَ مِنْ إراءةِ المَلَكوتِ وبياناً لِكَيْفِيَّةِ اسْتِدْلالِهِ، عليْه السلام، ووُصولِهِ إلى رُتْبَةِ الإيقانِ.
وهَذِهِ قِصَّةٌ أُخْرَى، غَيْرُ قِصَّةِ عَرْضِ الْمَلَكُوتِ عَلَيْهِ. فَقِيلَ: رَأَى ذَلِكَ مِنْ شِقِّ الصَّخْرَةِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى رَأْسِ السَّرَبِ الذي خبَّأَه فيه أَبوهُ. وَقِيلَ: لَمَّا أَخْرَجَهُ أَبُوهُ مِنَ السَّرَبِ، وَكَانَ وَقْتَ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ فَرَأَى الإِبِلَ وَالْخَيْلَ وَالْغَنَمَ فَقَالَ: لا بُدَّ لَهَا مِنْ رَبٍّ. وَرَأَى الْمُشْتَرِيَ أَوِ الزُّهْرَةَ ثُمَّ الْقَمَرَ ثُمَّ الشَّمْسَ، وَكَانَ هَذَا فِي آخِرِ الشَّهْرِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ. وَقِيلَ: لَمَّا حَاجَّ نُمْرُوذًا كَانَ ابْنَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قَوْلُهُ: {قالَ هَذَا رَبِّي} كان هذا القولُ مِنْه، عليْهِ السَّلامُ، تَعريضاً لِقومِهِ عنْدَ حَيْرَةِ قُلوبِهم، لأنَّه كانَ أُوتيَ رُشْدَهُ مِنْ قبلُ، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} الأنبياء: 51. وقالَ في الآيةَ السابقةَ لهذَهِ الآيةِ: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماواتِ والأرضِ}، واخْتَلَفَ العُلَماءُ فِي مَعْنَى "قالَ هَذَا رَبِّي" فَقِيلَ: كَانَ هَذَا مِنْهُ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ وَحَالِ الطُّفُولِيَّةِ وَقَبْلَ قِيَامِ الْحُجَّةِ، وَفِي تِلْكَ الْحَالِ لا يَكُونُ كُفْرٌ وَلا إِيمَانٌ. فَاسْتَدَلَّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهم، قَالَ: "فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي" فَعَبَدَهُ حَتَّى غَابَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ والقمرُ، فلمَّا تمَّ نَظَرُهُ قال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} إبراهيم: 35. وَاسْتَدَلَّ بِالأُفُولِ، لأَنَّهُ أَظْهَرُ الآيَاتِ عَلَى الْحُدُوثِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هَذَا لا يَصِحُّ، وَقَالُوا: غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ للهِ تَعَالَى رَسُولٌ يَأْتِي عَلَيْهِ وَقْتٌ مِنَ الأَوْقَاتِ إِلاَّ وَهُوَ للهِ تَعَالَى مُوَحِّدٌ، وَبِهِ عَارِفٌ، وَمِنْ كلِّ مَعْبودٍ سِواهُ بَريءٌ. وقَالُوا: وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُتَوَهَّمَ هَذَا عَلَى مَنْ عَصَمَهُ اللهُ وَآتَاهُ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ، وَأَرَاهُ مَلَكُوتَهُ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِالْخُلُوِّ عَنِ الْمَعْرِفَةِ، بَلْ عَرَفَ الرَّبَّ أَوَّلَ النَّظَرِ. وقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا الْجَوَابُ عندي خطأٌ وغَلَطٌ ممَّنْ قالَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنامَ} إبراهيم: 35. أو قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الصافّات: 84. أَيْ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ قَطُّ. قَالَ: وَالْجَوَابُ عِنْدِي أَنَّهُ قَالَ: "هَذَا رَبِّي" عَلَى قَوْلِكُمْ، لأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَيْنَ شُرَكائِيَ} النحل: 27. وَهُوَ جَلَّ وعَلا واحدٌ لا شريكَ لَهُ. والمعنى: أين شُرَكَائِي عَلَى قَوْلِكُمْ. وَقِيلَ: لَمَّا خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ السَّرَبِ رَأَى ضَوْءَ الْكَوْكَبِ وَهُوَ طَالِبٌ لِرَبِّهِ، فَظَنَّ أَنَّهُ ضَوْءُهُ قَالَ: "هَذَا رَبِّي" أَيْ بِأَنَّهُ يَتَرَاءَى لِي نُورُهُ. "فَلَمَّا أَفَلَ" عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِرَبِّهِ. "فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً" وَنَظَرَ إِلَى ضَوْئِهِ قال: "هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي" وَلَيْسَ هَذَا شِرْكًا. إِنَّمَا نَسَبَ ذَلِكَ الضَّوْءَ إِلَى رَبِّهِ فَلَمَّا رَآهُ زَائِلاً دَلَّهُ الْعِلْمُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِذَلِكَ، فَنَفَاهُ بِقَلْبِهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ مَرْبُوبٌ وَلَيْسَ بِرَبٍّ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ: "هَذَا رَبِّي" لِتَقْرِيرِ الْحُجَّةِ عَلَى قَوْمِهِ فَأَظْهَرَ مُوَافَقَتَهُمْ، فَلَمَّا أَفَلَ النَّجْمُ قَرَّرَ الْحُجَّةَ وَقَالَ: مَا تَغَيَّرَ لا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَبًّا. وَكَانُوا يُعَظِّمُونَ النُّجُومَ وَيَعْبُدُونَهَا وَيَحْكُمُونَ بِهَا. وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا مَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {نُورٌ عَلى نُورٍ} النور: 35. قَالَ: كَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ يَعْرِفُ اللهَ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِقَلْبِهِ، فَإِذَا عَرَفَهُ ازْدَادَ نُورًا عَلَى نُورٍ، وَكَذَا إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلامُ، عَرَفَ اللهَ، عَزَّ وَجَلَّ، بِقَلْبِهِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِدَلائِلِهِ، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا وَخَالِقًا. فَلَمَّا عَرَّفَهُ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، بِنَفْسِهِ ازْدَادَ مَعْرِفَةً فَقَالَ: {أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ} الأنعام: 80. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى مَعْنَى الاسْتِفْهَامِ وَالتَّوْبِيخِ، مُنْكِرًا لفعلهم. والمعنى: أَهذا ربِّي؟! أوْ أمثلُ هَذَا يَكُونُ رَبًّا؟ فَحَذَفَ الْهَمْزَةَ. وَفِي التَّنْزِيلِ: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ} الأنبياء: 34. أَيْ أَفَهُمُ الْخَالِدُونَ. وقال عمرُ بْنُ أبي رَبيعةَ:
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا ............ بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ
وَقَالَ أبو خِراشٍ الْهُذَلِيُّ:
رَفَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لا تُرَعْ ......... فَقُلْتُ وأَنْكَرْتُ الوُجوهَ: هُمُ هُمُ
قولُه رَفَوْني: أي سَكَّنوني. وكان أبو خِراشٍ أحدَ الفَرَّارينَ فلا يُلْحَقُ، وممَّا ذكر مِنْ شِدَّةِ حُضْرِهِ وخِفَّتِهِ في فّرَّةٍ فَرَّها مِنَ الخُزاعيِّينَ، وكانوا يَطْلُبونَه بِثَأْرٍ، فقال:
رَفَوني وقالوا يا خويلدُ لا تُرَعْ ........... فقلتُ وأنكرتُ الوجوهَ: هُم هُمُ
تذكَّرتُ ما أين المفَرّ وإنَّني .......... بغرْزِ الَّذي يُنجي من الموتِ مُعصِمُ
فو الله ما رَبْداءُ أو عَير عانةٍ .............. أقَبُّ وما أن تَيسُ رَملٍ مُصمِّمُ
بأسرعَ منِّي إذ عرفتُ عدِيَّهم .............. كأنِّي لأُولاهم من القربِ توأمُ
أوائلُ بالشَّدِّ الذليق وجُنَّتي .......... لدى المتنِ مشبوحُ الذّراعين خَلجمُ
فلولا دِراكُ الشَّدِّ ظلَّت حَليلَتي .............. تخيَّرُ في خطَّابها وهي أيِّمُ
فتسخَطُ أو ترضَى مكاني خليفةً .............. وكانَ خراش يوم ذاكَ تيتَّمُ
وَقِيلَ: الْمَعْنَى هَذَا رَبِّي عَلَى زَعْمِكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} القصص: 62 و 74. وَقَالَ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} الدخان: 49. أَيْ عِنْدَ نَفْسِكَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَيْ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ هَذَا رَبِّي، فَأُضْمِرَ الْقَوْلُ، وَإِضْمَارُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فِي هَذَا
رَبِّي، أَيْ هَذَا دَلِيلٌ على رَبِّي.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ} جملةُ "جنَّ" معطوفةٌ نَسَقاً على قولِه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} في الآية السابقةِ للتدليلِ على مَدْلُولِه، وعليه فجملةُ "وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ" معترضةٌ كما تقدَّمَ، ويجوزُ أنْ تكونَ مَعطوفةً على جملةِ: وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ" فالفاءُ من "فلمَّا" رابطةٌ ما بعدَها بما قبلَها، وهي ترجِّحُ أَنَّ المُرادَ بالمَلَكوتِ التَفصيلُ المَذْكورُ في هذه الآيةِ. لكن الوجهَ الأوَّلَ أَحْسَنُ.
ومعنى "جَنَّ" سَتَر، وَجَنَانُ اللَّيْلِ ادْلِهْمَامُهُ وَسِتْرُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ دريدُ بْنُ الصِّمَّة:
وَلَوْلا جَنَانُ اللَّيْلِ أَدْرَكَ رَكْضَنَا ..... بِذِي الرَّمْثِ وَالأَرْطَى عِيَاضِ بْنِ نَاشِبِ
وقيلَ: هذا البيت هو لخُفافِ بْنِ نُدْبَةَ. والرِّمْثُ: مَرْعًى مِنْ مَراعى الإبِلِ فيه حموضةٌ، واسْمُ وادٍ لبَنى أَسَدٍ. والأَرْطى، جمعُ أَرْطاةٍ: وهي شَجَرٌ يَنْبُتُ في الرَمْلِ.
وَيُقَالُ: جُنُونُ اللَّيْلِ أَيْضًا. وَيُقَالُ: جَنَّهُ اللَّيْلُ وَأَجَنَّهُ اللَّيْلُ لُغَتَانِ. وهنا خصوصيَّةٌ لِذِكْرِ الفِعْلِ المُسْنَدِ إلى اللَّيْلِ، يُقالُ: جَنَّ عليْه الَّليلُ وأَجَنَّ عَليْهِ، بمَعنى أَظْلَمَ، فيُكونُ لازِماً، وجَنَّهُ وأَجَنَّهُ مُتَعَدِّياً، فهذا ممَّا اتَّفَقَ فيهِ "فَعَلَ وأَفْعَل" لُزُوماً وتَعَدِّياً، إلاَّ أَنَّ الأَجْوَدَ في الاسْتِعْمالِ: جَنَّ عليْه اللَّيلُ وأَجَنَّهُ اللَّيلُ، فيَكونُ الثُلاثيُّ لازِماً، ويكونُ الرُباعيُّ على وَزْنِ "أَفْعَلَ" مُتَعَدِّياً. ومِن مجيءِ الثلاثيِّ مُتَعَدِّياً قولُ الهُذَليِّ وهو مِنْ قصيدتِهِ السابقةِ:
وماءٍ وَرَدَتْ قُبَيْلَ الكَرَى ..................... وقد جَنَّهُ السَّدَفُ الأَدْهَمُ
السَّدَفُ: الظلامُ المختلطُ بالضوءِ، والسُّدَفُ: جمعُ سُدْفَةٍ: ظُلْمَةٌ مخْتَلِطَةٌ بِضَوْءٍ يَشوبُها. وهي في لُغَةِ قَيْسٍ: الضَوْءُ، وفي لُغَةِ تميمٍ: الظُلْمَةُ، وقيل هي مِنَ الأضْدادِ.
ومصدُرُ "جَنَّ": جَنٌّ وجَنَانٌ وجُنُونٌ، فتقول: جَنَّ جَنّاً، وجَنَّ جناناً، وجَنَّ جُنوناً، وفرَّقَ الرَّاغبُ بين جَنَّهُ وأَجَنَّهُ، فقال: جَنَّهُ إذا سَتَرَهُ، وأَجَنَّهُ إذا جَعَلَ لَهُ ما يَجُنُّهُ، كقولِكَ: قَبَرْتُهُ وأَقْبًرْتُهُ وسَقَيْتُهُ وأَسْقَيْتُهُ. وقدْ تقدَّمَ شيءٌ مِنْ هذا عندَ ذِكْرِ حَزَنَ وأَحْزَنَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكونَ "جنَّ" في الآيةِ الكريمةِ مُتَعَدِّياً حُذِفَ المَفْعولُ منْهُ تقديرُه: جَنَّ عَلَيْهِ الأشياءَ والمُبْصَراتِ.
قولُه: {رأى كوكباً} جَوابُ "لمَّا"، وللقُرَّاءِ فيهِ وفيما بَعْدَهُ مِنَ الفِعْلين خِلافٌ كَبيرٌ بالنِسْبَةِ إلى الإِمالَةِ وعَدَمِها، فأَمَّا "رَأَى" الثابتُ الأَلِفِ فأَمَالَ راءَهُ وهمزتَهُ إمالةً محْضَةً الأَخَوانِ وأبو بَكْرٍ عنْ عاصِمٍ وابْنُ ذَكْوانَ عن ابْنِ عامرٍ، وأَمَالَ الهَمزةَ منْه فقطْ دونَ الرَّاءِ أَبو عَمْرٍو بِكمالِهِ، وأَمَالَ السُّوسِيُّ بخِلافٍ عنْه عن أَبي عَمْرٍو الرَّاءَ أَيْضاً، فالسُوسِيُّ يُوافِقُ الجَماعةَ المُتَقَدِّمين في أَحَدِ وجَهَيْهِ، وأَمَالَ وَرْشٌ الرَّاءَ والهَمْزَةَ بَيْنَ بَيْنَ مِنْ هذا الحرْفِ حيثُ وَقَعَ هذا كُلُّهُ ما لم يَتَّصلْ بِهِ ضَميرٌ نحوَ ما تَقَدَّمَ، فأمَّا إذا اتَّصَلَ بِهِ ضَميرٌ نحوَ: {فَرَآهُ فِي سَوَآءِ} الصافات: 55. ونحو: {فَلَمَّا رَآهَا} النمل: 10. ونحو: {وَإِذَا رَآكَ الذين} الأنبياء: 36. فابْنُ ذَكْوانَ عنْه وجهانِ، والباقونَ على أُصُولِهِمُ المُتَقَدِّمَةُ.
وأمَّا "رأى" إذا حُذِفَتْ أَلِفُهُ فهو على قسْمين: قِسْمٍ لا تَعودُ فيه البَتَّةَ لا وَصْلاً ولا وَقفاً نحو: {رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ} الفرقان: 12. {رَأَوُاْ العذاب} يونس: 54. فلا إمالةَ في شيءٍ مِنْهُ، وكذا ما انقلبتْ ألفُهُ ياءً نحو: {رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} الإِنسان: 20، وقسمٍ حُذِفَتْ ألفُهُ لالْتِقاءِ السَّاكنين وَصْلاً، وتعودُ وَقْفاً نحو: {رَأَى القمر} الأنعام: 77. ونحو: {رَأَى الشمسَ} الأنعام: 78. ونحو: {ورَأَى المجرمون النارَ} الكهف: 53. ونحو: {وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ} النحل: 85. فهذا فيهِ خِلافٌ أَيْضاً بين أَهْلِ الإِمالَةِ اعْتِباراً باللَّفظِ تارةً وبالأصْلِ أُخْرى، فأَمالَ الرَّاءَ وحدَها مِنْ غيرِ خِلافٍ حمزةُ وأبو بَكْرٍ عن عاصِمٍ والسُوسِيِّ بخلافٍ عنْه وحْدَهُ. وأَمَّا الهمزةُ فأَمالها معَ الراءِ أبو بكرٍ والسُوسِيُّ بخلافٍ عنْهُما. هذا كلُّه إذا وُصِلْتَ، أمَّا إذا وَقَفْتَ عليها فإنَّ الأَلِفَ تَرْجِعُ لِعَدَم المُقْتَضِي لحَذْفِها، وحُكمُ هذا الفِعْلِ حينئذٍ حُكْمُ ما لم يَتَّصِلْ بِهِ ساكنٌ فيَعودُ فيهِ التَفْصيلُ المُتَقَدِّمُ، كما إذا وَقَفْتَ على "رأى" مِنْ نحوِ: {رَأَى القمرَ} الأنعام: 77. فأمَّا إمالَةُ الراءِ مِنْ "رَأى" فلإٍِتْباعِها لإِمالَةِ الهَمْزَةِ، هكذا عِبارَتُهم، وفي الحقيقةِ الإِمالةُ إنما هي للألفِ لانْقِلابها عنِ الياءِ، والإِمالةُ كَما عَرَفْتَ أنْ تَنْحى بالألِفِ نحوَ الياءِ، وبالفَتْحَةِ قبلَها نحوَ الكَسْرَةِ، فمِنْ ثَمَّ صَحَّ أنْ يُقالَ: أُمِيلَتْ الراءُ لإِمالةِ الهَمزةِ.
وأمَّا تفصيلُ ابْنِ ذَكوانَ بالنسبة إلى اتِّصالِهِ بالضَميرِ وعَدَمِهِ، فوَجْهُهُ أنَّ الفعلَ لمَّا اتَّصلَ بالضَميرِ بَعُدَتْ ألفُهُ مِنَ الطَرَفِ فلَمْ تُمَلْ، ووَجْهُ مَنْ أَمالَ الهَمْزَةَ في "رأى القمرَ" مُراعاةُ الأَلِفِ وإنْ كانتْ محذوفةً إذْ حَذْفُها عارضٌ، ثمَّ مِنْهم مَنِ اقْتَصَرَ على إِمالَةِ الهَمْزَةِ لأنَّ اعْتِبارَ وُجودِها ضَعيفٌ، ومِنْهم مَنْ لم يَقْتَصِرْ إعْطاءً لها حُكْمَ المَوجودَةِ حقيقةً، فأتْبَعَ الرَّاءَ للهَمْزَةِ في ذلك.
والكَوْكَبُ: النَّجْمُ، ويُقالُ فيهِ كَوْكَبَةٌ، وقالَ الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ: لا يُقالُ فيهِ، أيْ في النَّجْمِ كَوكَبٌ إلاَّ عندَ ظُهورِهِ. وفي اشْتِقاقِه ثلاثةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُها: أَنَّهُ مِنْ مادَّةِ "وكب" فتَكونُ الكافُ زائدةً، وهذا القولُ قالَهُ الشيخ رضي الدين الصَّغاني، قال رَحمَهُ اللهُ: حَقُّ "كوكب" أَنْ يُذْكَرَ في مادَّةِ "وَكَبَ" عندَ حُذَّاقِ النَّحْويِّين، فإنها وَرَدَتْ بكافٍ زائدةٍ عندَهم، إلاَّ أنَّ الجَوْهَرِيَّ أَوْرَدَها في تَركيبِ "ك و ك ب"، ولَعَلَّهُ تَبِعَ في ذلك اللَّيْثَ فإنَّهُ ذَكَرَهُ في الرُّباعيِّ، ذاهباً إلى أنَّ الواوَ أَصْلَِيَّةٌ، فهذا تصريحٌ مِنَ الصَّغانيِّ بزِيادةِ الكافِ، وزيادةُ الكافِ عندَ النَّحْويِّين لا تجوزُ، وحُروفُ الزيادةِ محصورةٌ في تلكَ العَشَرَةِ. فأمَّا قولُهم "هِنْدِيٌّ وهِنْدِكيٌّ" بمعنًى واحدٍ وهو المنسوبُ إلى الهِنْدِ، وقولُ الشاعرِ كُثَيِّرُ عَزَّةَ يَصِفُ خيلاً:
ومُقْرَبةٍ دُهْمٍ وكُمْتٍ كأنَّها ................. طَماطِمُ من فوق الوفازِ هَنادِكُ
فظاهرُه زيادةُ الكافِ، ولكنْ خَرَّجَها النَّحْوِيُّونَ على أَنَّهُ مِنْ بابِ "سَبْط" و"سِبَطْر" أي مما جاء فيه لَفْظانِ أَحَدُهما أَطْوَلُ مِنَ الآخَرِ وليسَ بأصلٍ لَهُ، فكَما لا يُقالُ الرَّاءُ زائدةٌ باتِّفاقٍ، كذلكَ هذهِ الكافُ، ولذلكَ قال الشيخُ، ولَيْتَ شِعْري: مِنْ حُذَّاقِ النَّحْويِّين الذين يَرَوْنَ زِيادَتَها لا سِيَّما أَوَّلَ الكلمةِ. والثاني: أنَّ الكلمةَ كُلَّها أُصولٌ رُباعيَّةٌ، ممّا كُرِّرَتْ فيها الفاءُ فَوَزْنُها "فَعْفَل" ك "فَوْفَل" وهو بِناءٌ قليلٌ. والثالثُ: ساقَ الرَّاغِبُ أنَّهُ مِنْ مادَّةِ: "كَبَّ" و"كَبْكَبَ" فإنَّه قال: والكَبْكَبَةُ تَدَهْوُرُ الشيءِ في هُوَّةٍ، يُقالُ: كَبَّ وكَبْكَبَ نحو: كفَّ وكَفْكَفَ، وصَرَّ الريحُ وصَرْصَرَ، والكَواكِبُ النُّجومُ الباديَةُ، فظاهرُ هذا السِياقِ أنَّ الواوَ زائدةٌ والكافَ بَدَلٌ مِنْ إحْدى الياءيْن، وهذا غريبٌ جِدّاً.
قولُه: {قال هذا ربِّي} الأظهرُ في "قالَ" أنَّهُ اسْتِئْنافٌ أَخْبرَ بِذلكَ القولِ، أوِ اسْتَفْهَمَ عنْه على حَسَبِ الخِلافِ. أو أنَّهُ نَعْتٌ ل "كوكباً" فيكونُ في محلِّ نَصْبٍ، وكيفَ يَكونُ نَعْتاً ل "كوكباً" ولا يُساعِدُ مِنْ حيثُ الصِناعَةُ، ولا مِنْ حيثُ المعنى؟ أمَّا الصناعةُ فلِعَدَمِ الضَميرِ العائدِ مِنَ الجُملةِ الواقِعَةِ صِفَةً إلى مَوْصوفِها، ولا يُقالُ: إنَّ الرابِطَ حَصَلَ باسْمِ الإِشارةِ لأنَّ ذلك خاصٌّ ببابِ المُبتَدَأِ والخَبرِ، ولِذلكَ يَكْثُرُ حَذْفُ العائدِ مِنَ الصِفَةِ ويَقِلُّ مِنَ الخَبر، فلا يَلْزَمُ مِنْ جَوازِ شيءٍ في هذا جَوازُهُ في ذلك، وادِّعاءُ حذفِ ضميرٍ بَعيدٌ، أيْ: قالَ فيهِ: هذا رَبي. وأَمَّا المَعنى فلا يُؤدِّي إلى أنَّ التَقديرَ: رأى كوكباً مُتَّصِفاً بهذا القَوْلِ، وذلكَ غيرُ مُرادٍ قطعاً. والثالث: أنَّه جَوابُ "فلَمَّا جَنَّ"، وعلى هذا فَيَكونُ قولُه: "رأى كوكباً" في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ، أيْ: فلمَّا جَنَّ عليْه اللَّيْلُ رائياً كَوْكَباً. و"هذا رَبي" مَحْكِيٌّ بالقَوْلِ، فقيلَ: هو خَبرٌ مَحْضٌ بتأويلٍ ذَكَرَهُ أَهْلُ التَفسيرِ، وقيلَ: بَلْ هو على حَذْفِ همزةِ الاسْتِفْهامِ، أيْ: أَهذا ربي،
وأَنشَدوا لِعُمَرَ بْنِ أَبي رَبيعةَ البيتَ السابقَ:
لعَمْرَك ما أدري وإنْ كنتُ دارياً .............. بسبعٍ رَمَيْنَ الجمرَ أمْ بِثَمانِ
وقد تقدَّم.
وقولَ حَضْرمي بْنِ عامرٍ الأسَدِيِّ:
أفرحُ أن أُرْزَأ الكرامَ وأَنْ ...................... أُوْرَثَ ذَوْداً شصائِصاً نَبْلا
وقولَ الكُمَيْتِ بْنُ زيْدٍ:
طَرِبْتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ ....... ولا لَعِباً مني وذو الشيب يلعبُ
وكذلكَ قولُهُ تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيّ} الشعراء: 13. قالوا: التقديرُ: أَبِسَبْع، وأَأَفْرَح، وأَذُو، وأَتِلْكَ. قالَ ابْنُ الأنْباريِّ: وهذا لا يجوزُ إلاَّ حيثُ يَكونُ ثَمَّ فاصلٌ بين الخَبرِ والاسْتِفْهامِ، يَعني إنْ دَلَّ دَليلٌ لَفْظِيٌّ كَوُجودِ "أَمْ" في البيتِ الأوَّلِ بخِلافِ ما بعدَهُ. والأًُفُولُ: الغَيْبَةُ والذَهابُ، يُقالُ: أَفَلَ يأفُلُ أُفُولاً، قالَ ذُو الرِمَّة:
مصابيحُ ليسَتْ باللواتي تقودُها ............. نجومٌ ولا بالآفلاتِ الدَّوالِكِ
والإِفَالُ: صغارُ الغَنَمِ، والأَفيلُ: الفَصيلُ الضئيلَ، أيضاً.