فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(45)
قولُهُ تبارك وتعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} فَدَمَّرَ اللهُ تَعَالَى القَوْمَ الكَافِرِينَ جَمِيعًا، أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ، وَلَمْ يُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا أبدًا، و"دَابِرُ الْقَوْمِ" أيْ آخرهم. فالدابِرُ هو الآخرُ وإذا قُطِعَ الدابرُ، فإنَّ معنى ذلك أنْ القَطْعَ سَرَى مِنَ الأوَّلِ حتى وَصَلَ إلى الدابرِ، ومِنْ ذلكَ قولُ بعضِهم: "إنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لا يَأتي الصَلاةِ إلاّ دابرًا" أي آخر الوَقْتِ والدَابِرُ تجيءُ أيضًا بمعنى الأَصْلِ، ومِنْهُ قَطَعَ اللهُ دابرَهُ أيْ أَصْلَهُ. والمؤدَّى واحدٌ في النَصِّ الكريمِ، أيْ قَطَعَ الذين ظَلَموا عنْ آخرِهِم، فالمُرادُ أنهمُ اسْتُؤصِلوا بالعَذابِ ولم يَبْقَ منهم أَحَدٌ، ووَضَعَ الظاهرَ مَوْضِعَ الضَميرِ للإشْعارِ بِعِلَّةِ الحُكمِ، فقد كان ذلكَ بسببِ ظُلمِهم، وظُلْمهم إشْراكُهم بالله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، ومَنْ كان مُشرِكًا بِرَبِّ العِبادِ لا بُدَّ أَنْ يَظلمَ العبادَ، وهو ظالمٌ لِنَفْسِهِ أَوَّلاً بحَجْبِها عنْ باريها وخالِقِها ومِنْ ثمَّ تًعريضِها لِعذابِ اللهِ وعُقوبتِه، ومنْ كان كافرًا بالله فمن الذي يتقي من بعدِه وما الذي يخافُه ليردعه خوفه عن الظلم؟. لذلك فقدِ اسْتحقَّ الكَفَرَةُ عذابَ اللهِ تعالى وعقابَه.
قولُه: {وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يُعَلِّمُنا ربّنا سبحانَه أن نحمدَه عندَ زوالِ الظالمين، فهلاكُ الظَلَمَةِ والطُغاةِ نِعْمَةٌ تَستَوجِبُ الحمدَ والثَناءَ، فهلاكِ الظَلَمَةِ، مِنْ أَجَلِّ النِعَمِ وأَجْزَلِ القِيَمَ. فإنَّ تخليصَ أهلِ الأرضِ مِنْ شُؤْمِ عقائدِهمُ الفاسدَةِ وأَعمالهمُ الخبيثةِ نِعْمَةٌ جَليلةٌ يحقُّ أنْ يُحمَدَ عليها، فهذا تعليمٌ مِنه تعالى لعبادِهِ أنْ يحمَدوهُ على مِثلِ ذلك، وقال العلامةُ الطَبَرْسِيُّ: إنَّهُ حمْدٌ مِنْهُ عَزَّ اسْمُهُ لِنَفْسِهِ على فعلِ ذلك.
ونظيرُ هذا النَصِّ الكريمِ قولُهُ تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ * قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُون} النمل: 58 و 59. ووصفُه سبحانَه بـ "رَبِّ الْعَالَمِينَ" إيذانٌ بأنَّ القَضاءَ على الذين ظلموا بعدَ أَنْ اخْتُبروا بالبأساءِ والضَرَّاءِ، ثمّ بالسَرَّاءِ والنَعْماءِ هو مِنْ تقديرِ الرُّبوبِيَّةِ، وتَدبيرِ رَبِّ العالمين سبحانَه وتعالى.
قولُه تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} الفاءُ هنا للتَفْريعِ على
ما قبلها، و"فَقُطِعَ" قرأ الجمهورُ "فَقُطِعَ" مَبْنيًّا للمَفعولِ. و"دابرُ" مرفوعاً به. وقرأَ عِكرِمَةُ: "قَطَعَ" مَبْنِيًّا للفاعل وهو الله تعالى، و"دابرَ" مفعول به، وفيه الْتِفاتٌ، إذْ هو خُروجٌ مِنَ تَكَلُّمٍ في قولِه: "أخذناهم" إلى غيبةٍ. والدابِرُ: التابعُ مِنْ خلفٍ، يُقالُ: دَبَر الولدُ والدَه، ودَبَر فلانٌ القومَ يَدْبُرُهم دُبُورًا ودَبْرًا. وقيل: الدابِر: الأصلُ، يُقالُ: قَطَعَ اللهُ دابِرَه أي: أصلَه، و"دابرُ القومِ آخرُهم"، وأَنشدوا لأميَّةَ بْنِ أبي الصَلْتِ:
فاستُؤْصِلوا بعذابٍ حَصَّ دابِرَهُمْ ... فما استطاعوا له صَرْفاً ولا انتصروا
ومنه: دَبَرَ السهمُ الهدفَ أي: سقَطَ خلفَه.