وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ.
(111)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} أيْ أَمَرْتُهم في الإنْجيلِ على لِسانِكَ أوْ أَمَرْتُهم على أَلْسِنَةِ رُسُلي. والْوَحْيُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْنَاهُ الْإِلْهَامُ وَيَكُونُ عَلَى أَقْسَامٍ: وَحْيٌ بِمَعْنَى إِرْسَالِ جِبْرِيلَ إِلَى الرُّسُلِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَوَحْيٌ بِمَعْنَى الْإِلْهَامِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَيِ أَلْهَمْتُهُمْ وَقَذَفْتُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} النحل: 68. {وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى} القصص: 7. وَوَحْيٌ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ. و"أوحَيْتُ" بمَعنى أَمَرْتُ، وَقِيلَ: بَيَّنْتُ لَهُمْ. و"إِلَى" صِلَةٌ، يُقَالُ: وَحَى وَأَوْحَى بِمَعْنًى، قَالَ اللهُ تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها} الزَلْزَلَةُ: 5. وقالَ العَجَّاجُ:
بإذْنِهِ الأَرْضُ وما تَعَتَّتْ ....................... وحَى لَها القَرارَ فاسْتَقَرَّتِ
أَيْ أَمَرَ الأرض بِالْقَرَارِ فَاسْتَقَرَّتْ. وكلمةُ الحَوَارِيّ تُطْلَقُ على كُلِّ شيءْ نَقِيٍّ بِصفاءٍ خالِصٍ، و"الحَوَاري" هُنا تَعني المُخلِصَ والمُحِبَّ لِمِنْهَجِ الخَيرِ. وقيل من لِبْسِ البياضِ، وقد سَبَقَ لَنا تفصيلٌ في ذلك. وإنَّما خَصَّهم اللهُ بالوَحْيِ إلْهامًا وإكْرامًا لانْبِساطِ ضياءِ نَبيِّهِ عيسى عليهم.
والتعرُّضُ لِعُنْوانِ الرِّسالةِ للتَنْبيهِ على كَيْفِيَّةِ الإيمانِ بِهِ ـ عليْه الصَلاةُ والسلامُ ـ والرَمْزُ إلى عَدَمِ إخْراجِهِ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ عن حَدِّهِ حَطًّا ورَفْعًا.
قولُه: {وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ} أَيْ وَاشْهَدْ يَا رَبِّ. "بأنَّنا" عَلَى الْأَصْلِ، وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَحْذِفُ إِحْدَى النُّونَيْنِ، وَقِيلَ: الخطابُ منهم لنبيِّ اللهِ عيسى واشهدْ بأنَّنا مسلمون لله، مُخْلِصون في إيمانِنا مُنْقادون لِما أُمِرْنا بِهِ.
قولُه تعالى: {أَنْ آمِنُواْ} أَنْ" الأظهرُ أنَّها تَفسيريَّةٌ لأنَّها وَرَدتْ بَعدَما هو بِمَعنى القولِ لا حُروفِه. أو أنَّها مَصْدَرِيَّةٌ بِتَأويلٍ مُتَكَلَّفٍ أي: أَوْجَبْتُ إلِيْهِمُ الأَمْرَ بالإِيمان، وقيل قالوا: "آمنَّا" هنا فلم يُذْكر المُؤْمَنْ بِهِ، وفي آل عمران قال: {آمَنَّا بالله} الآية: 52. فَذَكَرَهُ، وذلك لأنَّه تقدَّمَ هناك ذِكْرُ اللهِ ـ تَعالى ـ فقط فأُعيدَ المؤمَنْ بِهِ فقيلَ: "بالله" وهُنا ذُكِر شيئانِ قبلَ ذلك وهُما: "أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي" فلم يُذْكَرْ لِيَشْمَلَ المَذكوريْنِ. وقال هنا "بأنَّنا" وقال هناك "بأنَّا" بالحَذْفِ، وإنَّما جِيءِ هُنا بالأَصْلِ لأنَّ المُؤْمَنَ بِهِ مُتَعَدِّدٌ فنَاسَبَه التَأكيدُ.