يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
(101)
قولُهُ تعالى شأنُه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} هو تأديبٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، وَنَهيٌ لهُمْ عَنْ أنْ يَسْألُوا عَنْ أشْيَاءَ لاَ فَائِدَةَ لَهُمْ فِي السُؤَالِ عَنْهَا، وَعَنِ التَّنْقِيبِ عَنْ خَفَايَاهَا، لأَنَّها إنْ ظَهَرَتْ لَهُمْ تِلْكَ الأشْيَاءُ رُبَّمَا سَاءَتْهُمْ، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ سَمَاعُهَا. قال ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ فيما روى مسلمٌ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه: ((..ذَروني ما تَرَكْتُم فإنَّما هَلَكَ مَنْ كان قبلَكم بِكَثْرَةِ سؤالِهم واخْتِلافِهم على أَنبيائهم فإذا أَمَرْتُكم بِشَيْءٍ فأْتُوا مِنْهُ ما استطعتم وإذا نَهيتُكم عن شيءٍ فدَعوه)). وجاء في الصحيحين عن سعد بن أبي وَقَّاصٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ أنَّ رسولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((إنَّ أعْظَمَ المُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَألَ عَنْ شَيءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أجْلِ مَسْألَتِه)). البخاري مسنَد سعد بن أبي وقاص. وقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: سَأَلْتُ نافعًا عن قولِه تعالى "لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" فَقَالَ: لَمْ تَزَلِ الْمَسَائِلُ مُنْذُ قَطُّ تُكْرَهُ. ورَوَى مُسْلِمٌ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنْعًا وَهَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ)). قَالَ كَثِيرٌ مِنَ العلماء: المُرادُ بِقَوْلِهِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ التَّكْثِيرُ مِنَ السُّؤَالِ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ تَنَطُّعًا، وَتَكَلُّفًا فِيمَا لَمْ يُنَزَّلْ، وَالْأُغْلُوطَاتُ وَتَشْقِيقُ الْمُوَلَّدَاتِ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَرَوْنَهُ مِنَ التَّكْلِيفِ، ـ أي لا يَجِبُ إلَّا بِبَيانٍ، قال ابنُ العربي قولُه تعالى: "وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ" يشهَدُ لكونِها مِنْ بابِ التَكليفِ الذي لا يُبَيِّنُه إلَّا نُزولُ القُرآنِ، وجعلَ نُزولَ القرآنِ سبَبًا لِوُجوبِ الجَوابِ ـ وَيَقُولُونَ: إِذَا نَزَلَتِ النَّازِلَةُ وُفِّقَ الْمَسْئُولُ لَهَا. قَالَ مَالِكٌ: أَدْرَكْتُ أَهْلَ هَذَا الْبَلَدِ وَمَا عِنْدَهُمْ عِلْمٌ غَيْرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِذَا نَزَلَتْ نَازِلَةٌ جَمَعَ الْأَمِيرُ لَهَا مَنْ حَضَرَ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنْفَذَهُ، وَأَنْتُمْ تُكْثِرُونَ الْمَسَائِلَ وَقَدْ كَرِهَهَا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ كَثْرَةُ سُؤَالِ النَّاسِ الْأَمْوَالَ وَالْحَوَائِجَ إِلْحَاحًا وَاسْتِكْثَارًا، وَقَالَهُ أَيْضًا مَالِكٌ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ السُّؤَالُ عَمَّا لَا يَعْنِي مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ بِحَيْثُ يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى كَشْفِ عَوْرَاتِهِمْ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَسَاوِئِهِمْ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} الحجرات: 12. قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مَتَى قُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ مِنْ أَيْنَ هَذَا أَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ شيءٍ يَشْتَرِيهِ لَمْ يَسْأَلْ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَحَمَلَ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى السَّلَامَةِ وَالصِّحَّةِ. وَالْوَجْهُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ تِلْكَ الْوُجُوهِ كُلِّهَا. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ (يَلْعَنُ مَنْ سَأَلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ)، ذَكَرَهُ الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَذُكِرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ يَقُولُ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْأَمْرِ: أَكَانَ هَذَا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ قَدْ كَانَ حَدَّثَ فِيهِ بِالَّذِي يَعْلَمُ، وَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَكُنْ قَالَ فَذَرُوهُ حَتَّى يَكُونَ. وَأَسْنَدَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مسألة فقال: هَلْ كَانَ هَذَا بَعْدُ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: دَعُونَا حَتَّى يَكُونَ، فَإِذَا كَانَ تَجَشَّمْنَاهَا لَكُمْ. قَالَ الدَّارِمِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ قَوْمًا كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا سَأَلُوهُ إِلَّا عَنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً حَتَّى قُبِضَ، كلُّهُنَّ في القرآن، منهن {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ} البقرة: 217، و{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} البقرة: 222. وَشِبْهُهُ مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ إِلَّا عَمَّا يَنْفَعُهُمْ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: السُّؤَالُ الْيَوْمَ لَا يُخَافُ مِنْهُ أَنْ يَنْزِلَ تَحْرِيمٌ وَلَا تَحْلِيلٌ مِنْ أَجْلِهِ، فَمَنْ سَأَلَ مُسْتَفْهِمًا رَاغِبًا فِي الْعِلْمِ وَنَفْيِ الْجَهْلِ عَنْ نَفْسِهِ، بَاحِثًا عَنْ مَعْنًى يَجِبُ الْوُقُوفُ فِي الدِّيَانَةِ عَلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَشِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، وَمَنْ سَأَلَ مُتَعَنِّتًا غَيْرَ مُتَفَقِّهٍ وَلَا مُتَعَلِّمٍ فَهُوَ الَّذِي لَا يَحِلُّ قَلِيلُ سُؤَالِهِ وَلَا كَثِيرُهُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الَّذِي يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ هُوَ بَسْطُ الْأَدِلَّةِ، وَإِيضَاحُ سُبُلِ النَّظَرِ، وَتَحْصِيلُ مُقَدِّمَاتِ الِاجْتِهَادِ، وَإِعْدَادُ الْآلَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى الِاسْتِمْدَادِ، فَإِذَا عَرَضَتْ نَازِلَةٌ أُتِيَتْ مِنْ بَابِهَا، وَنُشِدَتْ فِي مَظَانِّهَا، وَاللهُ يَفْتَحُ فِي صوابِها.
قولُه: {وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} المعنى الظاهر من هذا أنَّ القرآنَ عندما يَنزلُ بها تحريمًا ومنْعًا أوْ إجازَةً وإباحةً تَكونُ النفسُ المُؤمِنَةُ قد استعدَّتْ لِتَلَقِّيها كما تُهَيَّأُ الأرضُ الخصبةُ للزِراعةِ فيَجيءُ البِذْرُ والماءُ في إبَّانِهما فتَنْبُتُ نَباتًا حَسَنًا بإذنِ ربِّها، وإنْ نَزَلَتْ في القرآنِ كان السؤالُ في وقتِه وفي موضِعِها استفساراتُها، ويكونُ بيانُ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ تفسيرًا، وعبَّرَ في حرفِ الشرْطِ بـ "إن" للإشارةِ بقِلَّةِ السؤالِ؛ لأنَّ البيانَ يَكونُ كامِلًا مِنْ كلامِهِ تعالى ومِنْ سُنَّةِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّم. وقيل الْمَعْنَى وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ غَيْرِهَا فِيمَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ الْحَذْفِ. قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: الْكِنَايَةُ فِي "عَنْها" تَرْجِعُ إِلَى أَشْيَاءَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} المؤمنون: 12. يَعْنِي آدَمَ، ثُمَّ قَالَ: {ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً} المؤمنون: 13. أَيِ ابْنَ آدَمَ، لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يُجْعَلْ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، لَكِنْ لَمَّا ذُكِرَ الْإِنْسَانُ وَهُوَ آدَمُ دَلَّ عَلَى إِنْسَانٍ مِثْلِهِ، وَعُرِفَ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ الْحَالِ، فَالْمَعْنَى وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ مِنْ تَحْلِيلٍ أَوْ تَحْرِيمٍ أَوْ حُكْمٍ، أَوْ مَسَّتْ حَاجَتُكُمْ إِلَى التَّفْسِيرِ، فَإِذَا سَأَلْتُمْ فَحِينَئِذٍ تُبْدَ لَكُمْ، فَقَدْ أَبَاحَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ السُّؤَالِ: وَمِثَالُهُ أَنَّهُ بَيَّنَ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا والحاملِ، وَلَمْ يَجْرِ ذِكْرُ عِدَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِذَاتِ قُرْءٍ وَلَا حَامِلٍ، فَسَأَلُوا عَنْهَا فَنَزَلَ {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} الطلاق: 4. فالنَهْيُ إذًا في شيءٍ لَمْ يَكُنْ بِهِمْ حَاجَةٌ إِلَى السُّؤَالِ فِيهِ، فَأَمَّا مَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فَلَا.
قَوْلُهُ: {عَفَا اللهُ عَنْها} أَيْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي سَلَفَتْ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: عَنِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي سَأَلُوا عَنْهَا مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا. وَقِيلَ: الْعَفْوُ بِمَعْنَى التَّرْكِ، أَيْ تَرَكَهَا وَلَمْ يُعَرِّفْ بِهَا فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهَا فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهُ فَلَعَلَّهُ إِنْ ظَهَرَ لَكُمْ حُكْمُهُ سَاءَكُمْ. وَكَانَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ أَحَلَّ وَحَرَّمَ، فَمَا أَحَلَّ فَاسْتَحِلُّوهُ، وَمَا حَرَّمَ فَاجْتَنِبُوهُ، وتَرَكَ بيْن ذلك أشياءَ لم يُحِلَّها وَلَمْ يُحَرِّمْهَا، فَذَلِكَ عَفْوٌ مِنَ اللهِ، ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ. وَخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا وَحَدَّدَ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ عَفَا اللهُ عَنْهَا إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، أَيْ أَمْسَكَ عَنْ ذِكْرِهَا فَلَمْ يُوجِبْ فِيهَا حُكْمًا. وَقِيلَ: لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ، بَلِ الْمَعْنَى قَدْ عَفَا اللهُ عَنْ مَسْأَلَتِكُمُ الَّتِي سَلَفَتْ وَإِنْ كَرِهَهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تَعُودُوا لِأَمْثَالِهَا. فَقَوْلُهُ: "عَنْها" أَيْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، أَوْ عَنِ السُّؤَالَاتِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
ومِمَّا جاءَ في أَسبابِ نُزولِ هذه الآية ما رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا ـ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ ـ عَنْ أَنَسٍ قَالَ، قَالَ رَجُلٌ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَنْ أَبِي؟ قَالَ: ((أَبُوكَ فُلَانٌ)) قَالَ فَنَزَلَتْ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَفِيهِ: ((فَوَاللهِ لَا تَسْأَلُونِي عن شيءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا)) فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْنَ مَدْخَلِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((النَّارُ)). فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: ((أَبُوكَ حُذَافَةُ)) وَذَكَرَ الْحَدِيثُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَهَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ، وَكَانَ رَسُولُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَرْسِلْهُ إِلَى كِسْرَى بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ، وَلَمَّا قَالَ مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((أَبُوكَ حُذَافَةُ)) قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: مَا سَمِعْتُ بِابْنٍ أَعَقَّ مِنْكَ آمَنْتَ أَنْ تَكُونَ أُمُّكُ قَارَفَتْ مَا يُقَارِفُ نِسَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَفْضَحُهَا عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ! فَقَالَ: وَاللهِ لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ أَسْوَدَ لَلَحِقْتُ بِهِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} آل عمران: 97. قَالَ سُراقَةُ بْنُ مالك: يَا رَسُولَ اللهِ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ، فَقَال: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: ((لَا وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ))، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" إِلَى آخِرِها. وَاللَّفْظُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ. وسُئِلَ الْبُخَارِيُّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّهُ مُرْسَلٌ، فأَبُو الْبَخْتَرِيِّ لَمْ يُدْرِكْ عَلِيًّا، وَاسْمُهُ سَعِيدٌ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي عِيَاضٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ)) فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: فِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: فِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: ((وَمَنِ الْقَائِلُ))؟ قَالُوا: فُلَانٌ، قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَوْ وَجَبَتْ مَا أَطَقْتُمُوهَا وَلَوْ لَمْ تُطِيقُوهَا لَكَفَرْتُمْ)) فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" الْآيَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: سَأَلُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي عَفَا اللهُ عَنْهَا، وَلَا وَجْهَ لِلسُّؤَالِ عَمَّا عَفَا اللهُ عَنْهُ. وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَهُ: {مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ} المائدة: 103. وَفِي الصَّحِيحِ وَالْمُسْنَدِ كِفَايَةٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْجَمِيعِ، فَيَكُونُ السُّؤَالُ قَرِيبًا بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
قوله تعالى: {عَنْ أَشْيَاءَ} متعلِّقٌ بـ "تَسْألوا" واخْتَلَفَ النَّحْويُّون في "أشياء" على خمسةِ مَذاهِبَ، أَحَدُها ـ وهو رَأْيُ الخليلِ وسِيبَوَيْهِ والمازِنِيِّ وجمهورِ البَصْرِيِّين: أنَّها اسْمُ جَمْعٍ مِنْ لَفْظِ "شيءٍ" فيه مُفرَدةٌ لفظًا جمعٌ معنًى، كطَرْفاء وقَصْباء وأصلُها: شَيْئاء بهمزتين بينَهما أَلِفٌ ووَزْنُها فَعْلاء ك "طَرْفاء" فاستثقلوا اجتماعَ همزتيْن بينَهما ألفٌ، لا سيَّما وقد سَبَقها حرفُ عِلَّةٍ وهي الياءُ، وكَثُر دَوْر هذه اللفظةِ في لسانِهم فَقَلبوا الكلمةَ بأَنْ قَدَّموا لامَها، وهي الهمزةُ الأولى على فائها وهي الشين فقالوا أَشْياءَ فصارَ وزنُها لَفْعاء، ومُنِعتْ مِنَ الصَرْفِ لأَلِفِ التأنيثِ الممدودةِ. ورُجِّحَ هذا المَذهبُ بأنَّه لم يَلْزَمْ منهُ شيءٌ غيرُ القَلْبِ، والقلبُ في لسانِهم كثيرٌ كالجَاه والحادي والقِسِيّ وناءَ وآدُرٌ وآرام وضِئاء في قراءة قُنْبُل وأَيسَ. والأصلُ: وَجُهَ وواحَدَ وقُووسَ ونَأَى وأَدْوُرُ وأَرْآم وضياء ويَئِس. واعتَرَضَ بعضُهم على هذا بأنَّ القلبَ على خلافِ الأصلِ، وأنَّه لم يَرِدْ إلَّا ضرورةً أو في قليلٍ مِنَ الكلامِ، وهذا مردودٌ بما قَدَّمْتُه من الأمثلةِ، ونحن لا نُنْكِرُ أنَّ القلبَ غير مُطَّرِدٍ، وأمَّا الشاذٌّ القليلُ فنحو قولِهم: "رَعَمْلي" في "لَعَمْري" و"شَواعي" في "شوايع" قالَ الأجدعُ بْنُ مالِكٍ:
وكان أَوْلاها كِعابُ مُقامِرٍ ................. ضُرِبَتْ على شَزَنٍ فهنَّ شَواعِي
يريدُ شَوائِعَ.
وأمَّا المذاهبُ الآتيةُ فإنَّه يَرِدُ عليها إشكالاتٌ، هذا المذهبُ سالمٌ منها فلذلك اعتبره الجمهورُ دونَ غيره.
المذهبُ الثاني ـ وبه قال الفرَّاءُ: أنَّ "أَشياءَ" جمعٌ لـ "شيء" والأصل في شيءٍ: شَيِّئ على فَيْعِل ك "لَيِّن" ثم خُفِّف إلى "شيء" كما خففوا لَيِّنًا وهَيّنًا ومَيّتًا إلى لَيْنٍ وهَيْنٍ ومَيْتٍ، ثمَّ جَمَعَه بعد تخفيفِه، وأصلُه أَشْيِئاء بهمزتيْن بينَهما أَلِفٌ بعد ياءٍ بِزِنَةِ أَفْعِلاء فاجتَمَع همزتان: لامُ الكَلِمَةِ والتي للتأنيث، والألفُ تُشبِهُ الهمزةَ والجمعُ ثقيلٌ: فَخَفَّفُوا الكلمة بأن قلبوا الهمزة الأولى ياءً لانكسار ما قبلها، فيجتمع ياءان أولاهما مكسورة، فحذفوا الياء التي هي عينُ الكلمة تخفيفاً فصارت أَشْياء، ووزنها الآن بعد الخلاف أَفْلاء، فمَنْعُ الصرفِ لأجل ألف التأنيث، وهذه طريقة بعضِهم في تصريف هذا المذهب كمكي بن أبي طالب. وقال بعضهم كأبي البقاء: لَمَّا صارت إلى أَشْيئاء حُذِفت الهمزة الثانية التي هي لامُ الكلمةِ لأنَّها بها حَصَلَ الثِّقَلُ، وفُتِحَتِ الياءُ المسكورةُ لتسلمَ ألفُ الجمعِ فصار وزنُها: أَفْعاء. المذهب الثالث: ـ وبه قال الأخفشُ: انَّ أَشْياء جمعُ "شَيْء" بزنة فَلْس، أي: ليس مخففاً من شَيِّئ كما يقوله الفراء، بل جمع شيءٍ وقال "إن فَعْلاً يجمع على أَفْعِلاء فصار أَشِيئاء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء، ثم عُمِل فيه ما عُمِل في مذهب الفقراء، والطريقان المذكوران عن مكي وأبي البقاء في تصريف هذا المذهب جاريان هنا، وأكثر المصنفين يذكرون مذهب الفراء عنه وعن الأخفش قال مكي: وقال الفراء والأخفش والزيادي: أَشْياء وزنها أَفْعِلاء، وأصلها أَشْيِئاء، كهيِّن وأَهْوِناء، لكنَّه خُفِّفَ ثم ذَكر تصريفَ الكملةِ إلى آخر. وقيل أصلُ الكلمةِ شَيِّئٌ مثلُ هَيِّنٍ، ثمَّ خُفِّفَ بالحَذْفِ، قال الواحدي: وذهبَ الفرَّاءُ في هذا الحرفِ مذهبَ الأخفشِ غيرَ أنَّه خَلَطَ حين ادَّعى أنَّها كَهَيْنٍ ولَيْنٍ حين جُمِعا على أَهْوناء وأَلْيِناء، وهَيْن تخفيف "هيِّن" فلذلك جاز جمعُه على أَفْعِلاء، وشَيء ليس مخفَّفًا من "شَيِّئ" حتَّى يُجْمع على أَفْعِلاء، وهذان المذهبان ـ أعني مذهب الفراء والأخفش ـ وإن سَلِما مِنْ منعِ الصَرْفِ بغيرِ عِلَّةٍ فقد رَدَّها الناس، فقالَ الزَجّاجُ: وهذا القولُ غَلَطٌ لأنَّ "شَيْئًا" فَعْل، وفَعْل لا يُجمَعُ على أَفْعِلاء، فأما هَيِّن ولَين فأصلُه: هَيين ولَيين، فجُمع على أَفْعِلاء، كما يُجمع فَعيل على أَفعْلاء مثل: نصيب وأَنْصباء، وهذا غريبٌ جدًّا، أَعني كونَه جَعَلَ أنَّ أَصْلَ هيِّن هَيين بزنةَ فَعِيل، وكذا لَيّن ولَيِين، ولذلك صرح بتشبيهِهِما بِنَصيبٍ، ويقولون: إن هَيِّنًا أصلُه هَيْوِنٌ، كَمَيِتٍ أَصْلُهُ مَيْوِتٌ ثمَّ أُعِلَّ الإِعلالَ المعروفَ، وأَصْلُ لَيِّنٍ: لَيْيينٌ بياءيْن، الأُولى ساكنةٌ والثاينةُ مكسورةٌ، فأُدْغمتِ الأُولى، والاشْتِقاقُ يُساعدُهم، فإنَّ الهَيِّنَ مِنْ هانَ يَهونُ، ولأنَّهم حينَ جَمَعوهُ على أَفْعِلاءَ أَظهَروا الواوَ فقالوا: أَهْوِناء. وقال الزَجّاجُ: إنَّ المازِنيَّ ناظرَ الأَخْفَشَ في هذه المسألةِ فقالَ له: كيفَ تُصَغِّرُ أشياءَ؟ قال: أَقولُ فيها أُشَيَّاء. فقال المازنيُّ: لو كانت أَفْعالًا لَرُدَّتْ في التَصغيرِ إلى واحدِها وقيلَ: شُيَئْاتٌ مثلُ شُعَيْعاتٍ، وإجماعُ البَصْريّين أَنَّ تَصغيرَ أَصدِقاءَ إنْ كانَ لِمؤنَّثٍ "صُدَّيَّقات"، وإنْ كان لِمُذَكَّرٍ: "صُدَيِّقون" فانْقَطَعَ الأَخْفَشُ. وبَسْطُ هذا أَنَّ الجَمْعَ المُكَسَّرَ إذا صُغِّرَ: فإمَّا أنْ يَكونَ مِنْ جُموعِ القِلَّةِ وهي أَرْبَعٌ على الصحيحِ: أَفْعِلَةٌ وأَفْعُلٌ وأَفْعالٌ وفِعْلَةٌ، فيُصَغَّرُ على لَفْظَهِ، على الصحيح، وإنْ كانَ مِنْ جُموعِ الكَثْرَةِ فلا يُصَغَّرُ على لَفْظِهِ، وإنْ وَرَدَ منْه شيءٌ عُدَّ شاذًّا ك "أُصَيْلان" تصغير "أُصْلان" جمعِ "أَصيلٍ" بلْ يُرَدُّ إلى واحدِه. فإنْ كان مِنْ غيرِ العُقَلاءِ صُغِّرَ وجُمِعَ بالألِفِ والتاءِ فتَقولُ في تَصغيرِ حُمُرٍ جَمْعِ حِمارٍ: "حُمَيْرات"، وإنْ كان مِنَ العُقلاءِ صُغِّرَ وجُمِعَ بالواوِ والنُّونِ، فتَقول في تصغيرِ "رجالٍ": "رُجَيْلون"، وإنْ كان اسْمَ جمعٍ ك "قومٍ" و"رَهْطٍ" أو اسْمَ جِنْسٍ ك "قمر" و"شجر" صُغِّرَ على لَفظِهِ كسائرِ المُفردات.
أمّا أَشياءُ فتَصيغرُهم لها على لفظِها يَدُلُّ على أنَّها اسْمَ جَمعٍ، لأنَّ اسْمَ الجمعِ يُصَغَّرُ على لَفظِه نحو: "رُهَيْط" و"قُوَيْم" وليستْ بِجمعِ تَكسرٍ إذْ هي مِنْ جُموعِ الكَثْرَةِ ولَمْ تُرَدَّ إلى واحدِها، وهذا لازمٌ للأخفشِ لأنَّه بَصْرِيٌّ، والبَصْرِيُّ لا بُدَّ وأَنْ يَفعلَ ذلك، وأُصَيْلان عندهُ شاذٌّ فلا يُقاسُ عليه، وفي عبارةِ مَكِيٍّ قال: "وأيضًا فإنَّه يَلْزمُهم أنْ يُصَغِّروا أشياءَ على شُوَيَّاتٍ أو على شُيَيْئاتٍ وذلك لم يَقُلْهُ أحدٌ. أمَّا قولُهُ "شُوَيَّات" ليس بجيِّدٍ، فإنَّه هذا ليس مَوضِعَ قلْبِ الياءِ واوًا، أَلا تَرى أنَّك إذا صَغَّرتَ بيتًا قلتَ: بُيَيْتًا لا بُوَيْتًا، إلَّا أَنَّ الكُوفِيِّينَ يُجيزون ذلك فيُمْكِنُ أنْ يُرى رأيُهم، وقد ردَّ مَكِيٌّ أيْضًا مَذْهَبَ الفَراءِ والأَخْفَشِ بِشيْئَيْنِ، أحدُهما: أنَّه يَلْزَمُ منْه عدمُ النَّظيرِ إذْ لم يَقَعْ أَفْعِلاءُ جَمْعًا لـ فَيْعِلٍ فيكون هذا نظيرَه، وهَيّنٌ وأَهْوناءُ شاذٌّ لا يُقاسُ عليه. والثاني: أنَّ حذفَه واعْتِلالَه مُجْرى على غيرِ قياسٍ، فهذا القولُ خارجٌ في جمعِ اعْتِلالِه عنِ القياسِ والسَماعِ.
المذهبُ الرابعُ: ـ وهو قولُ الكسائيِّ وأَبي حاتِمٍ ـ أنَّها جمعُ شيءٍ على أَفْعالٍ ك "بَيْتٍ" و"أبيات" و"ضيفٍ" و"أضيافٍ" واعتُرضَ هذا القولُ بأنَّه يَلْزَمُ منه مَنعُ الصَرْفِ بغيرِ عِلَّتِه إذْ لو كان على "أَفْعالٍ" لا نْصَرَفَ كأَبياتٍ. قالَ الزَجَّاجُ: "أجمعَ البَصْرِيُّونَ وأَكثرُ الكُوفِيّين على أَنَّ قولَ الكسائيِّ خَطَأٌ، وأَلزَموه أَلاَّ يَصْرِفَ أَنباءَ وأَسماءَ. والكسائيُّ قد اسْتَشْعَرَ بهذا الرَدِّ فاعْتَذَرَ عنْه ولكنْ بما لا يُقبَلُ، قال ـ رَحِمَهُ الله: أَشْياءُ على وزْنِ أَفْعالٍ ولكنَّها كَثُرت في الكلامِ فَأَشْبَهَتْ فَعْلاءَ فلم تُصْرَفْ كما لم يُصْرَفْ حَمْراء، وجَمَعوها أَشاوَى كما جمعوا عَذْراء وعذارى، وصَحْراء وصحارى، وأَشْياوات كما قيل حَمْراوات. يعني أنَّهم عامَلوا "أَشْياء" وإن كانت على أفعالٍ مُعاملةَ حَمْراءَ وعَذْراءَ في جَمْعَيْ التَكسيرِ والتَصحيحِ. إلَّا أنَّ الفَرَّاءَ والزَجَّاجَ اعْتَرَضا على هذا الاعْتِذارِ، فقال الفراءُ: لو كان كما قال لكان أمْلَكَ الوَجْهيْنِ أَنْ تُجْرَى، لأنَّ الحرفَ إذا كَثُر في الكلامِ خَفَّ وجازَ أنْ يُجْرَى كما كَثُرتْ التَسميةُ بـ "يزيد"، وأَجْرَوْه في النَكِرَةِ وفيهِ ياءٌ زائدةٌ تَمْنَعُ مِنَ الإِجراءِ. ويَعني بـالإِجراءِ الصرفَ. وقالَ الزَجَّاجُ: "أَجمَعَ البَصْريُّونَ وأَكثَرُ الكُوفيّينَ" وقد تقدَّمَ آنِفًا. وقال مَكِيٌّ: وقال الكسائيُّ وأبو عُبيد: لم تَنْصَرف ـ أي أشياء ـ لأنَّها أَشْبَهتْ "حمراء" لأنَّ العَرَبَ تقول: أَشْياوات كما تقول: حَمْراوات، قال: ويَلْزَمُهُما ألاَّ يَصْرِفا في الجمعِ "أَسماء" و"أبناء"، لِقولِ العَرَبِ فيهما: أَسماوات وأبناوات. وقد تقدم شرحُ هذا، ثمَّ إنَّ مكّيّاً بعدَ أنْ ذَكَرَ عنِ الكسائيِّ ما قَدَّمْتُه ونقل مذهبَ الأخفشِ والفراء قال: قال أبو حاتم: أَشْياء أَفْعال جَمعُ شيءٍ كأَبيات. فهذا يُوهم أنَّ مَذهَبَ الكسائي ِّالمُتقدِّمِ غيرُ هذا المذهب، وليس كذلك بل هو هو. وقد أجابَ بعضُهم عن الكسائيِّ بأنَّ النَّحْويينَ قد اعْتَبروا في بابِ ما لا يَنْصَرِفُ الشبهَ اللفظيَّ دون المعنوي، يَدُلُّ على ذلك مسألةُ سَراويل في لغةِ مَنْ يَمْنَعُه فإنَّ فيه تأويلين، أحدُهُما: أنَّه مُفرَدٌ أَعجَمِيٌّ حُمِلَ على مُوازِنه في العربية، أيْ صيغةِ مَصابيحٍ مثلًا، ويَدُلُّ له أيضًا أنَّهم أَجْرَوا أَلِفَ الإِلْحاقِ المَقصورةِ مُجْرى ألفِ التأنيثِ المَقصورةِ، ولكن مع العَلَمِيَّةِ، فاعتَبَروا مُجَرَّدَ الصُورةِ، ولولا خوفُ الإِطالةِ لذكرت له نظائرَ كثيرةً.
أمّا أَشياءُ فتَصيغرُهم لها على لفظِها يَدُلُّ على أنَّها اسْمَ جَمعٍ، لأنَّ اسْمَ الجمعِ يُصَغَّرُ على لَفظِه نحو: "رُهَيْط" و"قُوَيْم" وليستْ بِجمعِ تَكسرٍ إذْ هي مِنْ جُموعِ الكَثْرَةِ ولَمْ تُرَدَّ إلى واحدِها، وهذا لازمٌ للأخفشِ لأنَّه بَصْرِيٌّ، والبَصْرِيُّ لا بُدَّ وأَنْ يَفعلَ ذلك، وأُصَيْلان عندهُ شاذٌّ فلا يُقاسُ عليه، وفي عبارةِ مَكِيٍّ قال: "وأيضًا فإنَّه يَلْزمُهم أنْ يُصَغِّروا أشياءَ على شُوَيَّاتٍ أو على شُيَيْئاتٍ وذلك لم يَقُلْهُ أحدٌ. أمَّا قولُهُ "شُوَيَّات" ليس بجيِّدٍ، فإنَّه هذا ليس مَوضِعَ قلْبِ الياءِ واوًا، أَلا تَرى أنَّك إذا صَغَّرتَ بيتًا قلتَ: بُيَيْتًا لا بُوَيْتًا، إلَّا أَنَّ الكُوفِيِّينَ يُجيزون ذلك فيُمْكِنُ أنْ يُرى رأيُهم، وقد ردَّ مَكِيٌّ أيْضًا مَذْهَبَ الفَراءِ والأَخْفَشِ بِشيْئَيْنِ، أحدُهما: أنَّه يَلْزَمُ منْه عدمُ النَّظيرِ إذْ لم يَقَعْ أَفْعِلاءُ جَمْعًا لـ فَيْعِلٍ فيكون هذا نظيرَه، وهَيّنٌ وأَهْوناءُ شاذٌّ لا يُقاسُ عليه. والثاني: أنَّ حذفَه واعْتِلالَه مُجْرى على غيرِ قياسٍ، فهذا القولُ خارجٌ في جمعِ اعْتِلالِه عنِ القياسِ والسَماعِ.
المذهبُ الرابعُ: ـ وهو قولُ الكسائيِّ وأَبي حاتِمٍ ـ أنَّها جمعُ شيءٍ على أَفْعالٍ ك "بَيْتٍ" و"أبيات" و"ضيفٍ" و"أضيافٍ" واعتُرضَ هذا القولُ بأنَّه يَلْزَمُ منه مَنعُ الصَرْفِ بغيرِ عِلَّتِه إذْ لو كان على "أَفْعالٍ" لا نْصَرَفَ كأَبياتٍ. قالَ الزَجَّاجُ: "أجمعَ البَصْرِيُّونَ وأَكثرُ الكُوفِيّين على أَنَّ قولَ الكسائيِّ خَطَأٌ، وأَلزَموه أَلاَّ يَصْرِفَ أَنباءَ وأَسماءَ. والكسائيُّ قد اسْتَشْعَرَ بهذا الرَدِّ فاعْتَذَرَ عنْه ولكنْ بما لا يُقبَلُ، قال ـ رَحِمَهُ الله: أَشْياءُ على وزْنِ أَفْعالٍ ولكنَّها كَثُرت في الكلامِ فَأَشْبَهَتْ فَعْلاءَ فلم تُصْرَفْ كما لم يُصْرَفْ حَمْراء، وجَمَعوها أَشاوَى كما جمعوا عَذْراء وعذارى، وصَحْراء وصحارى، وأَشْياوات كما قيل حَمْراوات. يعني أنَّهم عامَلوا "أَشْياء" وإن كانت على أفعالٍ مُعاملةَ حَمْراءَ وعَذْراءَ في جَمْعَيْ التَكسيرِ والتَصحيحِ. إلَّا أنَّ الفَرَّاءَ والزَجَّاجَ اعْتَرَضا على هذا الاعْتِذارِ، فقال الفراءُ: لو كان كما قال لكان أمْلَكَ الوَجْهيْنِ أَنْ تُجْرَى، لأنَّ الحرفَ إذا كَثُر في الكلامِ خَفَّ وجازَ أنْ يُجْرَى كما كَثُرتْ التَسميةُ بـ "يزيد"، وأَجْرَوْه في النَكِرَةِ وفيهِ ياءٌ زائدةٌ تَمْنَعُ مِنَ الإِجراءِ. ويَعني بـالإِجراءِ الصرفَ. وقالَ الزَجَّاجُ: "أَجمَعَ البَصْريُّونَ وأَكثَرُ الكُوفيّينَ" وقد تقدَّمَ آنِفًا. وقال مَكِيٌّ: وقال الكسائيُّ وأبو عُبيد: لم تَنْصَرف ـ أي أشياء ـ لأنَّها أَشْبَهتْ "حمراء" لأنَّ العَرَبَ تقول: أَشْياوات كما تقول: حَمْراوات، قال: ويَلْزَمُهُما ألاَّ يَصْرِفا في الجمعِ "أَسماء" و"أبناء"، لِقولِ العَرَبِ فيهما: أَسماوات وأبناوات. وقد تقدم شرحُ هذا، ثمَّ إنَّ مكّيّاً بعدَ أنْ ذَكَرَ عنِ الكسائيِّ ما قَدَّمْتُه ونقل مذهبَ الأخفشِ والفراء قال: قال أبو حاتم: أَشْياء أَفْعال جَمعُ شيءٍ كأَبيات. فهذا يُوهم أنَّ مَذهَبَ الكسائي ِّالمُتقدِّمِ غيرُ هذا المذهب، وليس كذلك بل هو هو. وقد أجابَ بعضُهم عن الكسائيِّ بأنَّ النَّحْويينَ قد اعْتَبروا في بابِ ما لا يَنْصَرِفُ الشبهَ اللفظيَّ دون المعنوي، يَدُلُّ على ذلك مسألةُ سَراويل في لغةِ مَنْ يَمْنَعُه فإنَّ فيه تأويلين، أحدُهُما: أنَّه مُفرَدٌ أَعجَمِيٌّ حُمِلَ على مُوازِنه في العربية، أيْ صيغةِ مَصابيحٍ مثلًا، ويَدُلُّ له أيضًا أنَّهم أَجْرَوا أَلِفَ الإِلْحاقِ المَقصورةِ مُجْرى ألفِ التأنيثِ المَقصورةِ، ولكن مع العَلَمِيَّةِ، فاعتَبَروا مُجَرَّدَ الصُورةِ، ولولا خوفُ الإِطالةِ لذكرت له نظائرَ كثيرةً.
المذهبُ الخامسُ: أنَّ وزنَها أَفْعِلاء أيضًا جمعًا لـ "شَيِيْءٌ" بزِنَةِ ظَريفٍ، وفَعيلٌ يُجْمَعُ على أَفعِلاءَ ك نَصيبٍ وأنْصِباءَ، وصَدِيقٍ وأَصْدِقاءَ، ثمَّ حُذِفَتْ الهَمزةُ الأولى التي هي لامُ الكَلِمَةِ، وفُتِحَتِ الياءُ لِتَسْلَمَ أَلِفُ الجَمْعِ فصارتْ أَشْياءَ ووَزْنُها بعدَ الحَذْفِ أَفْعاء، وجَعَلَهُ مَكْيٌّ في التَصريفِ كتَصريفِ مَذْهَبِ الأَخفشِ مِنْ حيثُ إنَّه تُبْدَلُ الهَمْزَةُ ياءً ثمَّ تُحْذَفُ إحْدى الياءيْن. قال: ـ رحِمَهُ اللهُ: "وحَسَّن الحذفَ في الجمعِ حَذْفُها في الواحدِ، وإنَّما حُذِفَتْ مِنَ الواحِدِ تَخفيفًا لِكَثْرَةِ الاسْتِعْمالِ إذْ "شيءٌ" يَقَعُ على كلِّ مُسَمًّى مِنْ عَرَضٍ أوْ جَوْهَرٍ أوْ جِسْمٍ فلمْ تَنْصَرِفْ همزةُ التأينثِ في الجَمْعِ. قال: "وهذا قولٌ حسنٌ جارٍ في الجَمْعِ وتُرِكَ الصَرْفُ على القياسِ، لولا أَنَّ التَصغيرَ يَعترضُه كما اعْتَرضَ الأخْفَشُ" وقولُه: "هذا قولٌ حَسَنٌ" فيه نَظَرٌ لِكَثْرَةِ ما يَرِدُ عليْه وهو ظاهرٌ ممَّا تقدَّمَ.
وقد تلخص القولُ في أشياءَ: أنَّها هل هي اسم جمع وأصلها شَيْئاء كطَرْفاء، ثم قُلِبت لامُها قبل فائِها فصارَ وزنُها لَفْعاء أو جمعٌ صريح؟ وإذا قيل بأنها جمع صريح فهل أصلها أَفْعِلاء، ثم تحذف، فتصير إلى أَفْعاء أو أَفلاء، أو أنَّ وزنَها أفعال كأبيات.
قولُه تعالى: {إِن تُبْدَ لكم تسُؤْكم} إن تُبْدَ: شَرْطٌ، وجَوابُهُ "تَسُؤْكم"، وهذِه الجُمْلَةُ الشَرْطِيَّةُ في مَحَلِّ جَرٍّ صِفَةً لـ "أشياءَ"، وكذا الشَرْطِيَّةُ المَعطوفةُ أيْضًا. وقَرَأ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنها: "إن تَبدءُ لكم تَسُؤْكم" ببناءِ الفعلين للفاعلِ معَ كونِ حرفِ المُضارَعَةِ تاءً مُثنَّاةٍ مِنْ فَوْق، والفاعِلُ ضَميرُ "أَشْياءَ". وقرَأَ الشَعْبِيُّ ـ فيما نَقَلَهُ عنْه أَبو مُحَمَّدٍ ابْنُ عَطِيَّةَ: "إنْ يَبْدُ" بفتحِ الياءِ من تحت وضَمِّ الدالِ، "يَسُؤْكم" بفتحِ الياءِ مِنْ تحت، والفاعلُ ضميرٌ عائدٌ على ما يَليقُ تقديرُه بالمَعنى، أيْ: إنْ يَبْدُ لَكم سُؤالُكم أوْ سُؤْلُكم يَسُؤْكم، ولا يجوزُ أنْ تَعودَ على "أشياءَ" لأنَّه جارٍ مَجْرى المُؤنَّثِ المَجَازِيِّ، ومَتَى أُسْنِدَ فِعلٌ إلى ضميرٍ مؤنَّثٍ مُطلَقًا وَجَبَ لَحاقُ العَلامَةِ على الصَحيحِ، ولا يُلْتَفَتُ لِضرورةِ الشِعْرِ، ونَقَلَ غيرُهُ عنِ الشَعْبِيِّ أنَّه قرَأَ: "يُبْدَ لكم يَسُؤْكم" بالياءِ مِنْ تحت فيهما إلَّا أنَّه ضمَّ الياءَ الأُولى وفَتَحَ الثانيةَ، والمَعْنى إنْ يُبْدَ ـ أيْ يُظْهَرَ ـ السُؤالُ عنْها يَسُؤكم ذلك السؤالُ أيْ جوابُه، أو هو، لأنَّه سببٌ في ذلك، والمُبْدِي هو اللهُ تعالى. والضميرُ في "عنها" يُحتَمَلُ أنْ يَعودَ على نوعِ الأشياءِ المَنْهِيّ عنْها لا عَليْها نَفْسِها، قاله ابنُ عطيَّةَ، ونقلَه الواحديُّ ونَظَّرَهُ بقولِه تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ} المؤمنون: 12. يعني آدم، "ثمَّ جَعَلْناه" قالَ "يَعني ابنَ آدم" فعاد الضميرُ على ما دل عليْه الأَوْلُ، ويُحتَمَلُ أنْ يَعودَ عليْها نَفْسِها.
قولُه: {حِينَ يُنَزَّلُ القرآن} في هذا الظَرْفِ احْتِمالان، أحَدُهُما: أنَّهُ مَنصوبٌ بـ "تسألوا"، قال الزمخشري: وإنْ تَسْألوا عنها: عن هذه التَكاليفِ الصَّعْبَةِ، حينَ يُنَزَّلُ القرآن: في زمانِ الوَحْيِ، وهو ما دامَ الرَسولُ بيْن أَظْهُرِكم يُوحى إليه تَبْدُ لكم تلك التَكاليفُ التي تَسُؤكم وتُؤْمروا بتحمُّلها. فَتُعَرِّضوا أنفسَكم لِغَضَبِ اللهِ لِتفريطِكم فيها" ومن هنا فإنَّ الضميرَ في "عَنْها" عائدٌ على الأشياءِ الأوَلِ لا على نوعِها. والثاني: أنَّ الظرفَ منصوبٌ بـ "تُبْدَ لكم" أيْ: تَظْهَر لكم تلك الأشياءُ حين نُزولِ القرآن. قال بعضُهم: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، لأنَّ التقديرَ: عَنْ أشياء إنْ تُسْأَلوا عنها تُبْدَ لكم حيْن نُزولِ القُرآنِ، وإنْ تُبْدَ لَكم تَسُؤْكم. ولا شَكَّ أنَّ المَعْنى على هذا الترتيبِ، إلَّا أنَّه لا يُقالُ في ذلك تقديمٌ وتأخيرٌ، فإنَّ الواوَ لا تَقتَضي تَرتيبًا فلا فرقَ، ولكنْ إنَّما قُدِّمَ هذا أوَّلًا على قولِه: "وَإِن تَسْأَلُواْ" لفائدةٍ وهي الزجرُ عن السؤالِ فإنَّه قَدَّمَ لَهم أنَّ سؤالَهم عن أشياءَ متى ظهرتْ أَساءَتْهم قبلَ أنْ يُخْبرَهم بأنَّهم إنْ سألوا عنها بَدَتْ لهم لينزجِروا، وهو معنًى لائقٌ.
قولُه: {عَفَا الله عَنْهَا} في محلِّ جَرٍّ لأنَّه صفةٌ أُخرى لـ "أشياء" والضميرُ على هذا في "عنها" يعودُ على "أشياء" ولا حاجةَ إلى ادِّعاء التقديمِ والتأخيرِ في هذا كما قال بعضُهم، قال: تقديرُه: لا تَسْأَلوا عنْ اشياءَ عَفا اللهُ عنها إنْ تُبْدَ لكم إلى آخرِ الآية، لأنَّ كلًّا مِنَ الجُملتيْن الشَرطيَّتيْن وهذه الجُملةِ صِفَةٌ لـ "أشياء" فمِن أيْنَ أَنَّ هذه الجُملةُ مُسْتَحِقَّةٌ للتَقديمِ على ما قبلَها؟ وكأَنَّ هذا القائلَ إنَّما قَدَّرَها مُتَقَدِّمَةً لِيَتَّضِحَ أنَّها صِفَةٌ لا مُسْتَأْنَفَةٌ. أو أنَّها لا مَحَلَّ لَها لاسْتِئنافِها، والضميرُ في "عنها" على هذا يَعودُ على المسأَلةِ المَدلولِ عَلَيْها بـ "لا تَسْألوا" ويَجوزُ أَنْ تَعودَ على "أشياء" وإنْ كان في الوجهِ الأوَّلِ يَتَعَيَّنُ هذا لِضَرورَةِ الرَّبْطِ بيْن الصِفَةِ والمَوصوفِ.