روضة الشاعر عبد القادر الأسود
بعد الصلاة على الرحمة المهداة

أهلا وسهلا بك في روضتنا

يسرنا تسجيلك

روضة الشاعر عبد القادر الأسود
بعد الصلاة على الرحمة المهداة

أهلا وسهلا بك في روضتنا

يسرنا تسجيلك

روضة الشاعر عبد القادر الأسود
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

روضة الشاعر عبد القادر الأسود

منتدى أدبي اجتماعي يعنى بشؤون الشعر والأدب والموضوعات الاجتماعي والقضايا اللإنسانية
 
مركز تحميل الروضةالرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
بسـم الله الرحمن الرحيم  :: الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم ولا الضــالين ....  آميـــن

 

 فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 2

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عبد القادر الأسود

¤° صاحب الإمتياز °¤
¤° صاحب الإمتياز °¤
عبد القادر الأسود


عدد المساهمات : 3986
تاريخ التسجيل : 08/09/2011
العمر : 76
المزاج المزاج : رايق
الجنس : ذكر
فيض العليم ... سورة المائدة، الآية:  2 Jb12915568671



فيض العليم ... سورة المائدة، الآية:  2 Empty
مُساهمةموضوع: فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 2   فيض العليم ... سورة المائدة، الآية:  2 I_icon_minitimeالأربعاء أغسطس 07, 2013 9:11 am

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوانًا وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ} خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ حَقًّا، أَلَّا يَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ. أو يَستبيحوا حُرماتِه فيُحِلوا ما حَرَّمَ مِن شعائرَ، وَالشَّعَائِرُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ عَلَى وَزْنِ فَعِيلَةٍ. وَيُقَالُ لِلْوَاحِدَةِ شِعَارَةٌ. وَالشَّعِيرَةُ الْبَدَنَةُ تُهْدَى، وَإِشْعَارُهَا أَنْ يُجَزَّ سَنَامُهَا حَتَّى يَسِيلَ مِنْهُ الدَّمُ فَيُعْلَمُ أَنَّهَا هَدْيٌ. وَالْإِشْعَارُ الْإِعْلَامُ مِنْ طَرِيقِ الْإِحْسَاسِ، يُقَالُ: أَشْعَرَ هَدْيَهُ أَيْ جَعَلَ لَهُ عَلَامَةً لِيُعْرَفَ أَنَّهُ هَدْيٌ، وَمِنْهُ الْمَشَاعِرُ الْمَعَالِمُ، وَاحِدُهَا مَشْعَرٌ وَهِيَ الْمَوَاضِعُ الَّتِي قَدْ أُشْعِرَتْ بِالْعَلَامَاتِ. وَمِنْهُ الشِّعْرُ، لِأَنَّهُ يَكُونُ بِحَيْثُ يَقَعُ الشُّعُورُ، وَمِنْهُ الشَّاعِرُ، لِأَنَّهُ يَشْعُرُ بِفِطْنَتِهِ لِمَا لَا يَفْطِنُ لَهُ غَيْرُهُ، وَمِنْهُ الشَّعِيرُ لِشَعْرَتِهِ الَّتِي فِي رَأْسِهِ، فَالشَّعَائِرُ عَلَى قَوْلٍ مَا أُشْعِرَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ لِتُهْدَى إِلَى بَيْتِ اللهِ، وَعَلَى قَوْلٍ جَمِيعُ مَنَاسِكِ الْحَجِّ. الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ وَالْهَدْيُ وَالْبُدْنُ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الشَّعَائِرِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ الكُمَيْتُ:
نُقَتِّلُهُمْ جِيلًا فَجِيلًا تَرَاهُمُ ..................... شَعَائِرَ قُرْبَانٍ بِهَا يُتَقَرَّبُ
وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ وَيُهْدُونَ فَأَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: "لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ". وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: شَعَائِرُ اللهِ جَمِيعُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: دِينُ اللهِ كُلُّهُ، كَقَوْلِهِ: {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} الحج: 32. أي دينَ اللهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الرَّاجِحُ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ لِعُمُومِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِشْعَارِ الْهَدْيِ، فَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ جِهَةٍ يُشْعَرُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: يَكُونُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهم ـ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَشْعَرَ نَاقَتَهُ فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ أَشْعَرَ بَدَنَةً مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا عِنْدِي حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ غَيْرُهُ. وَصَفْحَةُ السَّنَامِ جَانِبُهُ، وَالسَّنَامُ أَعْلَى الظَّهْرِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَكُونُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَمَنَعَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ: إِنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ، وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْوَسْمِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْمِلْكُ كَمَا تَقَدَّمَ. وقد نَصَّتْ كُتُبُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ على أنَّ الْإِشْعَارَ مَكْرُوهٌ عندَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَلَا سُنَّةٍ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ، لِأَنَّ الْإِشْعَارَ لَمَّا كَانَ إِعْلَامًا كَانَ سُنَّةً بِمَنْزِلَةِ التَّقْلِيدِ، وَمِنْ حَيْثُ أَنَّهُ جَرْحٌ وَمُثْلَةٌ كَانَ حَرَامًا، فَكَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَجُعِلَ مُبَاحًا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِشْعَارَ مُثْلَةٌ وَأَنَّهُ حَرَامٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ فَكَانَ مَكْرُوهًا، وَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الِابْتِدَاءِ حِينَ كَانَتِ الْعَرَبُ تَنْتَهِبُ كُلَّ مَالٍ إِلَّا مَا جُعِلَ هَدْيًا، وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الْهَدْيَ إِلَّا بِالْإِشْعَارِ ثُمَّ زَالَ لِزَوَالِ الْعُذْرِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَحُكِيَ عَنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ـ أَنَّهُ قَالَ: يَحْتَمِلُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ كَرِهَ إِشْعَارَ أَهْلِ زَمَانِهِ وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْبَضْعِ عَلَى وَجْهٍ يُخَافُ مِنْهُ السَّرَايَةُ (من سَرى الجَرْحُ إلى النفسِ أيْ دامَ أَلَمُهُ حتّى حَدَثَ منْه الموت)، أَمَّا مَا لَمْ يُجَاوِزِ الْحَدَّ، كَمَا كَانَ يُفعَلُ في عهدِ رسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَهُوَ حَسَنٌ، وَهَكَذَا ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ. فَهَذَا اعْتِذَارُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي وَرَدَ فِي الْإِشْعَارِ، فَقَدْ سَمِعُوهُ وَوَصَلَ إِلَيْهِمْ وَعَلِمُوهُ، قَالُوا: وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ لَا يَصِيرُ بِهِ أَحَدٌ مُحْرِمًا، لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْمَكْرُوهِ لَا تُعَدُّ مِنَ الْمَنَاسِكِ.
قَوْلُهُ: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ } الشَّهْرَ الْحَرامَ: اسْمٌ مُفْرَدٌ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ فِي جَمِيعِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: وَاحِدٌ فَرْدٌ هو رَجَبٌ، وَثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وهي: ذو القعدة وذو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ، وَالْمَعْنَى: لَا تَسْتَحِلُّوهَا لِلْقِتَالِ وَلَا لِلْغَارَةِ وَلَا تُبَدِّلُوهَا، فَإِنَّ اسْتِبْدَالَهَا اسْتِحْلَالٌ، وَذَلِكَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ من النَسيءِ. و"وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ" أَيْ لَا تَسْتَحِلُّوا الهَدْيَ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ "وَلَا الْقَلائِدَ" أَيْ وَلَا ذَوَاتِ الْقَلَائِدِ، والقلائدُ جَمْعُ قِلَادَةٍ. فَنَهَى ـ سُبْحَانَهُ ـ عَنِ اسْتِحْلَالِ الْهَدْيِ جُمْلَةً، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقَلَّدَ مِنْهُ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَةً فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْحُرْمَةِ فِي التَّقْلِيدِ. والْهَدْيُ مَا أُهْدِيَ إِلَى بَيْتِ اللهِ تَعَالَى مِنْ نَاقَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ، الْوَاحِدَةُ هَدْيَةٌ وَهَدِيَّةٌ وَهَدْيٌ. فَمَنْ قَالَ: أَرَادَ بِالشَّعَائِرِ الْمَنَاسِكَ قَالَ: ذَكَرَ الْهَدْيَ تَنْبِيهًا عَلَى تَخْصِيصِهَا. وَمَنْ قَالَ: الشَّعَائِرُ هي الْهَدْيُ قَالَ: إِنَّ الشَّعَائِرَ مَا كَانَ مُشْعَرًا أَيْ مُعَلَّمًا بِإِسَالَةِ الدَّمِ مِنْ سَنَامِهِ، وَالْهَدْيُ مَا لَمْ يُشْعَرْ، اكْتُفِيَ فِيهِ بِالتَّقْلِيدِ. وَقِيلَ: الْفَرْقُ أَنَّ الشَّعَائِرَ هِيَ الْبُدْنُ مِنَ الْأَنْعَامِ. وَالْهَدْيُ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالثِّيَابُ وَكُلُّ مَا يُهْدَى. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الهَدْيُ عامًا فِي جَمِيعِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ مِنَ الذَّبَائِحِ وَالصَّدَقَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((الْمُبَكِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً)) إِلَى أَنْ قَالَ: ((كَالْمُهْدِي بَيْضَةً)). فَسَمَّاهَا هَدْيًا، وَتَسْمِيَةُ الْبَيْضَةِ هَدْيًا لَا مَحْمَلَ لَهُ إِلَّا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصَّدَقَةَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِذَا قَالَ جَعَلْتُ ثَوْبِي هَدْيًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، إِلَّا أَنَّ الْإِطْلَاقَ إِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَى أَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَسَوْقُهَا إِلَى الْحَرَمِ وَذَبْحُهَا فِيهِ، وَهَذَا إِنَّمَا تُلُقِّيَ مِنْ عُرْفِ الشَّرْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} البقرة: 196. وَأَرَادَ بِهِ الشَّاةَ، وَقَالَ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بالِغَ الْكَعْبَةِ} المائدة: 95. وقال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} البقرة: 196. وَأَقَلُّهُ شَاةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا قَالَ ثَوْبِي هَدْيٌ يَجْعَلُ ثَمَنَهُ فِي هَدْيٍ. و"الْقَلائِد" مَا كَانَ النَّاسُ يَتَقَلَّدُونَهُ أَمَنَةً لَهُمْ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَلَا أَصْحَابَ الْقَلَائِدِ، أو التعرُّضِ لِنَفسِ القَلائدِ مُبالَغَةً في النَهْيِ عنِ التَعَرُّضِ لِذواتِها كما في قولٍه ـ تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} سورة النُور: 31. فإنَّهُنَّ إذا نُهِينَ عن إظهارِ الزِينةِ كالخَلْخالِ والسِوارِ، عُلِمَ النَهيُ عن إبداءِ مَحَلِّها بالطريقِ الأَوْلى، ثُمَّ نُسِخَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آيَتَانِ نُسِخَتَا مِنَ "الْمَائِدَةِ" آيَةُ الْقَلَائِدِ وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ جاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} المائدة: 42. فَأَمَّا الْقَلَائِدُ فَنَسَخَهَا الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ كَانُوا وَفِي أَيِّ شَهْرٍ كَانُوا. وَأَمَّا الْأُخْرَى فَنَسَخَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ} المائدة: 49. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْقَلَائِدِ نَفْسَ الْقَلَائِدِ، فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ أَخْذِ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ حَتَّى يُتَقَلَّدَ بِهِ طَلَبًا لِلْأَمْنِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَمُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَقِيقَةُ الْهَدْيِ كُلُّ مُعْطًى لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ عِوَضٌ. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: للهِ عَلَيَّ هَدْيٌ أَنَّهُ يَبْعَثُ بِثَمَنِهِ إِلَى مَكَّةَ. وَأَمَّا الْقَلَائِدُ فَهِيَ كُلُّ مَا عُلِّقَ عَلَى أَسْنِمَةِ الْهَدَايَا وَأَعْنَاقِهَا عَلَامَةً أَنَّهُ للهِ ـ سُبْحَانَهُ، وَهِيَ سُنَّةٌ إِبْرَاهِيمِيَّةٌ بَقِيَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ، وَهِيَ سُنَّةُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ. قَالَتْ السيدةُ عَائِشَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَهْدَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَرَّةً إِلَى الْبَيْتِ غَنَمًا فَقَلَّدَهَا، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَإِلَى هَذَا صَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ حَبِيبٍ، وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ فِي تَقْلِيدِ الْغَنَمِ، أَوْ بَلَغَ لَكِنَّهُمْ رَدُّوهُ لِانْفِرَادِ الْأَسْوَدِ بِهِ عَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، والْقَوْلُ بِهِ أَوْلَى. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْبَقَرُ فَإِنْ كَانَتْ لَهَا أَسْنِمَةٌ أُشْعِرتْ كالبُدْنِ، قالَه ابْنُ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُقَلَّدُ وَتُشْعَرُ مُطْلَقًا وَلَمْ يُفَرِّقُوا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: تُقَلَّدُ وَلَا تُشْعَرُ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ إِذْ لَيْسَ لَهَا سَنَامٌ، وَهِيَ أَشْبَهُ بِالْغَنَمِ مِنْهَا بِالْإِبِلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاتَّفَقُوا فِيمَنْ قَلَّدَ بَدَنَةً عَلَى نِيَّةِ الْإِحْرَامِ وَسَاقَهَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: "لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ" إِلَى أَنْ قَالَ: "فَاصْطادُوا" وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِحْرَامَ لَكِنْ لَمَّا ذَكَرَ التَّقْلِيدَ عُرِفَ أنَّه بِمَنزِلَةِ الإحرامِ.
فَإِنْ بَعَثَ بِالْهَدْيِ وَلَمْ يَسُقْ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، لِحَدِيثِ أمِّ المؤمنين عَائِشَةَ، قَالَتْ ـ رضيَ اللهُ عنها: أَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا بِيَدَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ شيءٌ أَحَلَّهُ اللهُ لَهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: يَصِيرُ مُحْرِمًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ حَتَّى يُنْحَرَ الْهَدْيُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ جَالِسًا فَقَدَّ قَمِيصَهُ مِنْ جَيْبِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ مِنْ رِجْلَيْهِ، فَنَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: ((إِنِّي أُمِرْتُ بِبُدْنِي الَّتِي بَعَثْتُ بِهَا أَنْ تُقَلَّدَ وَتُشْعَرَ عَلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا فَلَبِسْتُ قَمِيصِي وَنَسِيتُ فَلَمْ أَكُنْ لِأُخْرِجَ قَمِيصِي مِنْ رَأْسِي)) وَكَانَ بَعَثَ بِبُدْنِهِ وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ. وفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي لَبِيبَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ الْكُوفِيُّونَ: فَإِنْ قَلَّدَ شَاةً وَتَوَجَّهَ مَعَهَا لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، لِأَنَّ تَقْلِيدَ الشَّاةِ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ وَلَا مِنَ الشَّعَائِرِ، لِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهَا الذِّئْبُ فَلَا تَصِلُ إِلَى الْحَرَمِ بِخِلَافِ الْبُدْنِ، فَإِنَّهَا تُتْرَكُ حَتَّى تَرِدَ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ وَتَصِلَ إِلَى الْحَرَمِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلَائِدَهَا مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدِي. والْعِهْنُ الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}: القارعة: 5.
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْهَدْيِ وَلَا هِبَتُهُ إِذَا قُلِّدَ أَوْ أُشْعِرَ، لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ، وَإِنْ مَاتَ مُوجِبُهُ لَمْ يُوَرَّثْ عَنْهُ وَنَفَذَ لِوَجْهِهِ، بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا بِالذَّبْحِ خَاصَّةً عِنْدَ مَالِكٍ إِلَّا أَنْ يُوجِبَهَا بِالْقَوْلِ، فَإِنْ أَوْجَبَهَا بِالْقَوْلِ قَبْلَ الذَّبْحِ فَقَالَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً تَعَيَّنَتْ، وَعَلَيْهِ، إِنْ تَلِفَتْ ثُمَّ وَجَدَهَا أَيَّامَ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدَهَا ذَبَحَهَا وَلَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهَا، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً غَيْرَهَا ذَبَحَهُمَا جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَدَلَ عَلَيْهِ إِذَا ضَلَّتْ أَوْ سُرِقَتْ، إِنَّمَا الْإِبْدَالُ فِي الْوَاجِبِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا ضَلَّتْ فقدْ أَجْزَأَتْ. ومَنْ مَاتَ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يُضَحِّيَ كَانَتْ ضَحِيَّتُهُ مَوْرُوثَةً عَنْهُ كَسَائِرِ مَالِهِ بِخِلَافِ الْهَدْيِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: تُذْبَحُ بِكُلِّ حَالٍ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: تُذْبَحُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَا وَفَاءَ لَهُ إِلَّا مِنْ تِلْكَ الْأُضْحِيَّةِ فَتُبَاعُ فِي دَيْنِهِ. وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ ذَبْحِهَا لَمْ يَرِثْهَا عَنْهُ وَرَثَتُهُ، وَصَنَعُوا بِهَا مِنَ الْأَكْلِ وَالصَّدَقَةِ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهَا، وَلَا يَقْتَسِمُونَ لَحْمَهَا عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ. وَمَا أَصَابَ الْأُضْحِيَّةَ قَبْلَ الذَّبْحِ مِنَ الْعُيُوبِ كَانَ عَلَى صَاحِبِهَا بَدَلُهَا بِخِلَافِ الْهَدْيِ، هَذَا تَحْصِيلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَقَدْ قِيلَ فِي الْهَدْيِ عَلَى صَاحِبِهِ الْبَدَلُ، وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ} جمعُ "آمّ" من الأَمِّ وهو القَصْدُ المُستقيمُ. يَعْنِي الْقَاصِدِينَ لَهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ أَمَمْتُ كَذَا أَيْ قَصَدْتُهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: "وَلَا آمِّي الْبَيْتِ الْحَرَامِ" بِالْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ: "غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ" وَالْمَعْنَى: لَا تَمْنَعُوا الْكُفَّارَ الْقَاصِدِينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ عَلَى جِهَةِ التَّعَبُّدِ وَالْقُرْبَةِ، وَعَلَيْهِ فَقِيلَ: مَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ نَهْيٍ عَنْ مُشْرِكٍ، أَوْ مُرَاعَاةِ حُرْمَةٍ لَهُ بِقِلَادَةٍ، أَوْ أَمِّ الْبَيْتِ فَهُوَ كُلُّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ فِي قولِه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} التوبة: 5. وَقَوْلِه: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا} التوبة: 28. فَلَا يُمَكَّنُ الْمُشْرِكُ مِنَ الْحَجِّ، وَلَا يُؤَمَّنُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَإِنْ أَهْدَى وَقَلَّدَ وَحَجَّ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَمْ تُنْسَخْ وَهِيَ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ نَهَى اللهُ عَنْ إِخَافَةِ مَنْ يَقْصِدُ بَيْتَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَالنَّهْيُ عَامٌّ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ خَصَّ الشَّهْرَ الْحَرَامِ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا وَتَفْضِيلًا، وَهَذَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ عَطَاءٍ، فَإِنَّ الْمَعْنَى لَا تُحِلُّوا مَعَالِمَ اللهِ، وَهِيَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَمَا أَعْلَمَهُ النَّاسُ فَلَا تُحِلُّوهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا إِلَّا "الْقَلائِدَ" وَكَانَ الرَّجُلُ يَتَقَلَّدُ بِشَيْءٍ مِنْ لِحَاءِ الْحَرَمِ فَلَا يُقْرَبُ فَنُسِخَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هَذِهِ الْآيَةُ نَهْيٌ عَنِ الْحُجَّاجِ أَنْ تُقْطَعَ سُبُلُهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتِ الْآيَةُ عَامَ الْفَتْحِ وَرَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِمَكَّةَ، وجَاءَ أُنَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّمَا هَؤُلَاءِ مُشْرِكُونَ فَلَنْ نَدَعَهُمْ إِلَّا أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ "وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ". وقيلَ: كَانَ هَذَا لِأَمْرِ شُرَيْحِ بْنِ ضُبَيْعَةَ الْبَكْرِيِّ ـ ويُلقَّبُ بالخَطيم ـ أخذتْه جُنْدُ رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ فِي عُمْرَتِهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، كما جاءَ في أسبابِ النُزولِ للواحِدِيِّ. ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَدْرَكَ الْخَطيمُ هَذَا رِدَّةَ الْيَمَامَةِ فَقُتِلَ مُرْتَدًّا، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ خَبَرِهِ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْمَدِينَةِ، وَخَلَّفَ خَيْلَهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: إِلَامَ تَدْعُو النَّاسَ؟ فَقَالَ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم: ((إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ)). فَقَالَ: حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّ لِي أُمَرَاءَ لَا أَقْطَعُ أَمْرًا دُونَهُمْ وَلَعَلِّي أُسْلِمُ وَآتِي بِهِمْ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: ((يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ شَيْطَانٍ)). ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَقَالَ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ((لَقَدْ دَخَلَ بِوَجْهِ كَافِرٍ وَخَرَجَ بِقَفَا غَادِرٍ وَمَا الرَّجُلُ بِمُسْلِمٍ)). فَمَرَّ بِسَرْحِ (المالُ السائمُ) الْمَدِينَةِ فَاسْتَاقَهُ، فَطَلَبُوهُ فَعَجَزُوا عَنْهُ، فَانْطَلَقَ وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ  ................... لَيْسَ بِرَاعِي إِبِلٍ وَلَا غَنَمْ
وَلَا بِجَزَّارٍ عَلَى ظَهْرٍ وَضَمْ  .................. بَاتُوا نِيَامًا وابنُ هِنْدٍ لَمْ يَنَمْ
باتَ يُقاسيها غُلامٌ كالزَلَمْ .................. خَذَلَّجُ السَّاقَيْنِ خَفَّاقُ الْقَدَمْ
يُقالُ رجلٌ حُطَمٌ وحُطَمَةٌ: إذا كان قليلَ الرَّحمةِ للمَاشِيَةِ. الوَضم: كلُّ شيءٍ يُوضَعُ عليْه اللَّحْمُ خشبًا كان أو حَصيرًا. الزَلَمُ: (بفتحِ الزايِ وضمِّها) القِدْحُ، والجَمْعُ أَزْلامٌ وهي السهامُ التي كان أهلُ الجاهليَّة يَسْتَقْسِمون بها. خَذَلَّجُ الساقيْنِ: سريعُهما
فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَامَ الْقَضِيَّةِ (أي العام الذي تلا صلحَ الحديبية) سَمِعَ تَلْبِيَةَ حُجَّاجِ الْيَمَامَةِ فَقَالَ: ((هَذَا الْحُطَمُ وَأَصْحَابُهُ)). وَكَانَ قَدْ قَلَّدَ مَا نَهَبَ مِنْ سَرْحِ الْمَدِينَةِ وَأَهْدَاهُ إِلَى مَكَّةَ، فَتَوَجَّهُوا فِي طَلَبِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، أَيْ لَا تُحِلُّوا مَا أُشْعِرَ للهِ وَإِنْ كَانُوا
مُشْرِكِينَ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَعَلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: "لَا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ" يُوجِبُ إِتْمَامَ أُمُورِ الْمَنَاسِكِ، وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا دَخَلَ فِي الْحَجِّ ثُمَّ أَفْسَدَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ شَيْئًا مِنْهَا وَإِنْ فَسَدَ حَجُّهُ، ثُمَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى: "وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ" مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}. وَقَوْلُه: "وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ" مُحْكَمٌ لَمْ يُنْسَخْ فَكُلُّ مَنْ قلَّدَ الهَدْيَ وَنَوَى الْإِحْرَامَ صَارَ مُحْرِمًا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحِلَّ بِدَلِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ مَعْطُوفٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بَعْضُهَا مَنْسُوخٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مَنْسُوخٍ.
قَوْلُهُ: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوانًا} نَكَّرَ "فضلًا" و"رِضوانًا" للتفخيم، أيْ فضلًا كائنًا من ربِّهم ورِضوانًا كذلك، والتَعَرُّضُ لِعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم لِتَشريفِهم والإشعارِ بِحُصولِ مُبتَغاهم، والمُرادُ بهم المُسلمون خاصَّةً، والآية محكمة. وفي الجُملةِ إشارةٌ إلى تعليلِ النَهي، واعْتُرِضَ بأنَّ التَعَرَّضَ للمُسْلمين حرامٌ مُطْلَقًا سواءً أكانوا آمِّين أمْ لا، فلا وجْهَ لِتَخصيصِهم بالنَهْيِ عن الإحْلالِ، ولذا قال الحَسَنُ وغيرُه: المُرادُ بالـ "آمين" همُ المُشركون خاَصَّةً، والمُرادُ مِن الفَضْلِ حِينئذٍ الربحُ في تِجاراتِهم، ومِنَ الرِضْوانِ ما في زَعْمِهم، ويَجوزُ إبقاءُ الفَضْلِ على ظاهرِهِ إذا أُريدَ ما في الزَّعْمِ أيضًا، لكنَّه لمَّا أَمْكَنَ حَمْلُه على ما هو في نفسِ الأَمْرِ كان حَملُه عليْه أَوْلى، ويُؤيِّدُ هذا القولَ أنَّ الآيةَ نَزَلَتْ كما قال السُّدِّيُّ وغيرُه في الخطيم بْنِ هِنْدٍ مِن بَني رَبيعة، وتقدَّم ذِكْرُ قِصَّتِه. وقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ يَبْتَغُونَ الْفَضْلَ وَالْأَرْبَاحَ فِي التِّجَارَةِ، وَيَبْتَغُونَ مَعَ ذَلِكَ رِضْوَانَهُ فِي ظَنِّهِمْ وَطَمَعِهِمْ. وَقِيلَ: كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَبْتَغِي التِّجَارَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ بِالْحَجِّ رِضْوَانَ اللهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَنَالُهُ، وَكَانَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَعْتَقِدُ جَزَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ يُبْعَثُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ نَوْعُ تَخْفِيفٍ فِي النَّارِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذِهِ الْآيَةُ اسْتِئْلَافٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِلْعَرَبِ وَلُطْفٌ بِهِمْ، لِتَنْبَسِطَ النُّفُوسُ، وَتَتَدَاخَلُ النَّاسُ، وَيَرِدُونَ الْمَوْسِمَ فَيَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، وَيَدْخُلُ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ وَتَقُومُ عِنْدَهُمُ الْحُجَّةُ كَالَّذِي كَانَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ عَامَ الْفَتْحِ فَنَسَخَ اللهُ ذَلِكَ كُلَّهَ بَعْدَ عَامٍ سَنَةَ تِسْعٍ، إِذْ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَنُودِيَ النَّاسُ بِسُورَةِ "بَرَاءَةٌ".
قَوْلُهُ: {وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا} أَمْرُ إِبَاحَةٍ ـ بِإِجْمَاعِ النَّاسِ ـ رَفَعَ مَا كَانَ مَحْظُورًا بِالْإِحْرَامِ، حَكَاهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ صِيغَةُ "أَفْعَلِ" الْوَارِدَةُ بَعْدَ الْحَظْرِ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْوُجُوبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْوُجُوبِ قَائِمٌ وَتَقَدُّمَ الْحَظْرِ لَا يَصْلُحُ مَانِعًا، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} التوبة: 5. فَهَذِهِ "أَفْعَلُ" عَلَى الْوُجُوبِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْجِهَادُ، وَإِنَّمَا فُهِمَتِ الْإِبَاحَةُ هُنَاكَ وَمَا كَانَ مِثْلُهُ مِنْ قَوْلِهِ: {فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا} الجمعة: 10. و{فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى وَالْإِجْمَاعِ، لَا مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} أي لَا يَحْمِلَنَّكُمْ،. وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، يُقَالُ: جَرَمَنِي كَذَا عَلَى بُغْضِكَ أَيْ حَمَلَنِي عَلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِرُ أبو أَسماءَ بْنُ الضَّرِيبةِ:
وَلَقَدْ طَعَنْتُ أَبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً .............. جَرَمَتْ فَزَارَةَ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ وَلَا يُحِقَّنَّكُمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ: مَعْنَى "لَا يَجْرِمَنَّكُمْ" أَيْ لَا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ أَنْ تَعْتَدُوا الْحَقَّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَالْعَدْلَ إِلَى الظُّلْمِ، قَالَ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)). رَوَاهُ أَبُو دَاوُودَ وَاَلتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِم. كما رواه البخاري في التاريخ، والطبراني في الجامع الصغير والجامع الكبير. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} البقرة: 194. وَيُقَالُ: فُلَانٌ جَرِيمَةُ أَهْلِهِ أَيْ كَاسِبُهُمْ، فَالْجَرِيمَةُ وَالْجَارِمُ بِمَعْنَى الْكَاسِبِ. وَأَجْرَمَ فُلَانٌ أَيِ اكْتَسَبَ الْإِثْمَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ هو أبو خِراشٍ الهذلي يَذكُرُ عُقابًا شَبَّهَ فرسَه بها:
جَرِيمَةُ نَاهِضٍ فِي رَأْسِ نِيقٍ ................. تَرَى لِعِظَامِ مَا جَمَعَتْ صَلِيبَا
الناهضُ: فَرْخُ العُقابِ والنِيقُ أرْفعُ مَوْضِعٍ في الجَبَلِ، ومَعْنَاهُ كَاسِبُ قُوتٍ، وَالصَّلِيبُ الْوَدَكُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي بِنَاءِ "جَ رَ مَ". قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: يُقَالُ جَرَمَ وَأَجْرَمَ، وَلَا جَرَمَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: لَا بُدَّ وَلَا مَحَالَةَ، وَأَصْلُهَا مِنْ جَرَمَ أَيِ اكْتَسَبَ، قَالَ أبو أَسماءَ بْنُ الضَّرِيبةِ:
يا كُرْزُ إنَّكَ قد مُنِيتَ بفارسٍ ............... بطَلٍ إذا هابَ الكُماةُ مَجرَّبُ
ولقد طعنتَ أَبا عُيَيْنَةَ طَعنةً ............... جَرَمَتْ فَزارةَ بَعدَها أنْ يَغضَبوا
أي أَحَقَّتْ لهم الغَضَبَ أو حَمَلَتْهم على أنْ يَغْضَبوا، وجَرَمَ مصدرٌ منْه، وكُرْزُ: رَجلٌ مِن بَني عُقَيْلٍ؛ وأبو عُيَيْنَة حِصْن بْنُ حُذَيفةَ بْنِ بَدْرٍ الفَزاري.
وَقَالَ الفرزدقُ:
يَا أَيُّهَا الْمُشْتَكِي عُكْلًا وَمَا جَرَمَتْ .......... إِلَى الْقَبَائِلِ مِنْ قَتْلٍ وَإِبْآسِ
عُكْل: هو أبو قبيلةٍ فيهم غَباوَةٌ اسْمُه عَوْفٌ بْنُ عبدِ مَناةَ حَضَنَتْه أَمَةٌ تُدْعى عُكْل فَلُقِّبَ بها.
وَيُقَالُ: جَرَمَ يَجْرِمُ جَرْمًا إِذَا قَطَعَ، قَالَ الرُّمَّانِيُّ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: وَهُوَ الْأَصْلُ، فَجَرَمَ بِمَعْنَى حَمَلَ عَلَى الشَّيْءِ لِقَطْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَجَرَمَ بِمَعْنَى كَسَبَ لِانْقِطَاعِهِ إِلَى الْكَسْبِ، وَجَرَمَ بِمَعْنَى حَقَّ لِأَنَّ الْحَقَّ يُقْطَعُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: {لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} النحل: 62. لَقَدْ حَقَّ أَنَّ لَهُمُ الْعَذَابَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: جَرَمَ وَأَجْرَمَ لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيِ اكْتَسَبَ. وَلَا يَعْرِفُ الْبَصْرِيُّونَ الضَّمَّ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: جَرَمَ لَا غَيْرَ. وَالشَّنَآنُ الْبُغْضُ. يُقَالُ: شَنِئْتُ الرَّجُلَ أَشْنَؤُهُ شَنْأً وشَنَأَةً وشَنَآنًا وَشَنْآنًا بِجَزْمِ النُّونِ، كُلُّ ذَلِكَ إِذَا أَبْغَضْتُهُ، أَيْ لَا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُ قَوْمٍ بِصَدِّهِمْ إِيَّاكُمْ أَنْ تَعْتَدُوا، وَالْمُرَادُ بُغْضُكُمْ قَوْمًا، فَأَضَافَ الْمَصْدَرَ إِلَى الْمَفْعُولِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَمَّا صُدَّ الْمُسْلِمُونَ عَنِ الْبَيْتِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مَرَّ بِهِمْ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُونَ الْعُمْرَةَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَصُدُّهُمْ كَمَا صَدَّنَا أَصْحَابُهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، أَيْ لَا تَعْتَدُوا عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَا تَصُدُّوهُمْ "أَنْ صَدُّوكُمْ" أَصْحَابُهُمْ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ لِأَنْ صَدُّوكُمْ. قالَ بعضُ السَلَفِ الصالحِ ما عاملتَ مَنْ عَصى اللهَ فيكَ بمثلِ أنْ تُطيعَ اللهَ فيه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى} أَمْرٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، أَيْ لِيُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَتَحَاثُّوا عَلَى مَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى وَاعْمَلُوا بِهِ، وَانْتَهُوا عَمَّا نَهَى اللهُ عَنْهُ وَامْتَنِعُوا مِنْهُ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا روى البزارُ وغيرُه عن عبدِ اللهِ ابنِ ابْنِ مسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ: ((الدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ)) وقد صحَّحَه بعض أهلِ العِلمِ، ولَه شاهدٌ في صحيحٍ مسلمٍ بِمَعناه. فقد روى مُسْلِمٌ عنِ أبي مَسعودٍ الأنصاريِّ قال: (جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ فقال: يا رَسولَ اللهِ إنِّي أُبْدِعَ بِي ـ أي: هَلَكَتْ دابَّتي التي أَركبُها ـ فاحْمِلْني، فقال ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((ما عندي)). فقال رجلٌ: يا رَسولَ اللهَ، أنَا أَدُلُّهُ على مَنْ يَحْمِلُهُ، فقالَ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ: ((مَنْ دَلَّ على خيرٍ فلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فاعِلِهِ)). وروى مُسلِمٌ ـ أيضًا ـ عنْ أبي هُريرةَ قال، قالَ رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ: ((مَنْ دَعا إلى هُدًى كان لَه مِنَ الأَجْرِ مثلُ أُجورِ مَنْ تَبِعَه لا يُنْقِصُ ذلك مِنْ أُجورِهم شيئًا. ومَنْ دَعا إلى ضَلالَةٍ كان عليْه مِنَ الإِثْمِ مِثلُ آثامِ مَنْ تَبِعَهُ. لا يُنْقِصُ ذلك مِنْ آثامِهم شيئًا)). وَقَدْ قيل: الدَّالُّ عَلَى الشَّرِّ كَصَانِعِهِ. وقالوا: البِرُّ معناهُ التَوَسُّعُ في فعلِ الخيرِ، وإسْداءِ المَعروفِ إلى الناسِ. والتقوى تصفيةُ النفسِ وتطهيرُها وإبعادُها عنْ كلِّ ما نَهى اللهُ عنه. ثُمَّ قِيلَ: الْبِرُّ وَالتَّقْوَى لَفْظَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَكُرِّرَ بِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ تَأْكِيدًا وَمُبَالَغَةً، إِذْ كُلُّ بِرٍّ تَقْوَى وَكُلُّ تَقْوَى بِرٌّ. وَالْعُرْفُ فِي دَلَالَةِ هَذَيْنَ اللَّفْظَيْنِ أَنَّ الْبِرَّ يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ إِلَيْهِ، وَالتَّقْوَى رِعَايَةُ الْوَاجِبِ، فَإِنْ جُعِلَ أَحَدُهُمَا بَدَلَ الْآخَرِ فَبِتَجَوُّزٍ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: نَدَبَ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ ـ إِلَى التَّعَاوُنِ بِالْبِرِّ وَقَرَنَهُ بِالتَّقْوَى لَهُ، لِأَنَّ فِي التَّقْوَى رِضَا اللهِ تَعَالَى، وَفِي الْبِرِّ رِضَا النَّاسِ، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ رِضَا اللهِ تَعَالَى وَرِضَا النَّاسِ فَقَدْ تَمَّتْ سَعَادَتُهُ وَعَمَّتْ نِعْمَتُهُ.
وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ فِي أَحْكَامِهِ: وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى يَكُونُ بِوُجُوهٍ، فَوَاجِبٌ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُعِينَ النَّاسَ بِعِلْمِهِ فَيُعَلِّمُهُمْ، وَيُعِينُهُمُ الْغَنِيُّ بِمَالِهِ، وَالشُّجَاعُ بِشَجَاعَتِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ مُتَظَاهِرِينَ كَالْيَدِ الْوَاحِدَةِ: (الْمُؤْمِنُونَ تتكافؤ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ). وَيَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْمُتَعَدِّي وَتَرْكِ النُّصْرَةِ لَهُ وَرَدِّهِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ.
قولُه: {وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ} الإِثم: اسْمٌ للأفعالِ المُبْطِئَةِ عنِ الثَوابِ وجَمعُه آثامٌ، والآثِمُ هو المُتَحَمِّلُ للإِثم. ثمَّ أُطلِقَ على كلِّ ذَنْبٍ ومَعصِيَةٍ. و"العدوان": ظُلْمُ النَّاسِ، وتجاوزُ الحُدودِ التي أمرَ الشارعُ ـ سبحانَه ـ الناسَ بالوُقوفِ عندَها. أي: وتعاونوا ـ يا أيُّها المؤمنون ـ على كلِّ ما هو خيرٌ وبِرٌّ وطاعةٌ للهِ ـ تعالى ـ ولا تتعاوَنوا على ارْتِكابِ الآثامِ ولا على الاعْتِداءِ على حُدودِهِ، فإنَّ التَعاوُنَ على الطاعاتِ والخيراتِ يُؤدّي إلى السَعادةِ، أمَّا التعاوُنُ على ما يُغضِبُ اللهَ ـ تعالى ـ فيؤدّي إلى الشقاء. وَهُوَ الْحُكْمُ اللَّاحِقُ عَنِ الْجَرَائِمِ، وَعَنِ "الْعُدْوانِ".
قولُه: {وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} أَمَرَ بِالتَّقْوَى وَتَوَعَّدَ تَوَعُّدًا مُجْمَلًا وتذييلٌ قَصَدَ بِه إنذارَ الذين يَتعاونون على الإِثْمِ والعُدوانِ. أنِ: اتَّقوا اللهَ ـ أيُّها الناسُ ـ واخْشوه فيما أمرَكم ونَهاكم، فإنَّه ـ سبحانَه ـ شديدُ العِقابِ لِمَنْ خالَفَ أَمرَه، وانْحرَفَ عن طريقِهِ القَويم.
وبذلك نَرى أنَّ الآيةَ الكريمةَ قد نَهَتِ المؤمنين عن اسْتِحْلالِ ما حرَّمَه اللهُ عليهم مِنْ مَحارِمَ، وعنِ الإِخلالِ بِشيءٍ مِنْ أَحكامِها، كما نَهَتْهم عنْ أنْ يَحْمِلَهم بُغضُهم لِغيرِهم على الاعتداءِ عليْه، وأَمرَتْهم بأنْ يَتَعاوَنوا على فعلِ الخَيْرِ الذي يَنفَعُهم ويَنفَعُ غيرَهم مِنَ النّاسِ وعلى ما يُوصِلُهم إلى طاعتِه ـ سبحانَه ـ وحُسْنِ مَثوبَتِه، ولا يَتعاوَنوا على الأفعالِ التي يَأْثَمُ فاعلُها، وعلى مُجاوَزَةِ حُدودِ اللهِ بالاعْتِداءِ على غيرِهم. ثمَّ حَذَّرتْهم في نهايَتِها مِنَ العِقابِ الشديدِ الذي يُنْزِلُه ـ سبحانَه ـ بِكُلِّ مَنْ عَصاه، وانْحَرَفَ عن هُداه.
قولُهُ تعالى:{ولا آمِّيْنَ البيتَ} قرأ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ ومَنْ تَبِعَه: "ولا آمِّي البيتِ" بحذفِ النونِ وإضافةِ اسمِ الفاعلِ إلى معمولِه. و"البيتَ" نصبٌ على المفعولِ به بـ "آمّين" أيْ قاصدين البيتَ، وليس ظرفًا.
وقوله: {يَبْتَغُونَ مِنْ فضلًا ربِّهم ورِضوانًا} حالٌ من الضمير في "آمِّين" أي: حالَ كون الآمِّين مبتغين فَضْلًا، ولا يجوزُ أنْ تكونَ هذه الجملةُ صفةً لـ "آمّين" لأنَّ اسم الفاعل متى وُصف بَطَلَ عملُه على الصحيحِ، وخالَفَ الكُوفيّون في ذلك، وأَعْرَبَ مَكِيٌّ هذه الجُملةَ صفةً لـ "آمِّين" وليس بجيد لِما تقدَّم، وكأنَّه تَبِعَ في ذلك الكُوفيّين. والجمهورُ على "يبتغون" بتاءِ الخِطابِ، على أنَّه خطابٌ للمؤمنين وهي قَلِقةٌ لقولِه: "مِنْ رَّبِّهِمْ" ولو أُريدَ خطابُ المؤمنين لكانَ تمامُ المناسبة: "تبتغون فضلًا من ربكم". و"مِنْ ربِّهم" يَجوزُ أنْ يَتَعلَّق بنفسِ الفِعلِ، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه صفةٌ لـ "فضلًا" أي: فضلاً كائنًا مِنْ ربِّهم. وقد تقدَّم الخلافُ في ضَمِّ راءِ "رضوان" في آلِ عُمران. وإذا عَلَّقنا "مِنْ رَبِّهم" بمحذوفٍ على أنَّه صفةٌ لـ "فضلًا" فيكون قد حَذَفَ صفة "رِضوان" لدَلالةِ ما قبله عليه أي: ورضوانًا من ربِّهم، وإذا عَلَّقناه بنفسِ الفِعْلِ لم يَحْتَجْ إلى ذلك.
قولُه: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} قُرئ: "أَحْللتم" وهي لغةٌ في "حَلَّ"، ويُقالُ: "أحَلَّ من إحْرامِه" كما يُقالُ: حَلَّ، وقرأ الحَسَنُ بْنُ عِمران وأبو واقدٍ ونُبَيْحٌ العَنْزيُّ والجَرّاحُ بكسرِ الفاءِ العاطِفَةِ، وهي قراءةٌ ضعيفةٌ مُشْكِلَةٌ، وخَر‍َّجها الزمخشريُّ على أنَّ الكسرَ في الفاءِ بدلٌ مِنْ كسرِ الهمزةِ في الابتداءِ. وقال ابْنُ عطيَّةَ: هي قراءةٌ مُشْكِلَةٌ، ومِن توجيهِها أنْ يكونَ راعى كسرَ ألفِ الوصلِ إذا ابتَدأَ، فكسرَ الفاءَ مُراعاةً وتَذَكُّرًا لِكَسرِ ألفِ الوصلِ. وقال الشيخ: وليس عندي هو كسرًا محضًا بل هو إمالةٌ مَحْضَةٌ لِتَوهُّمِ وُجودِ كَسْرَةِ همزةِ الوَصْلِ، كما أَمالوا فاءَ "فإذا" لوُجود ِكسرِ الهمزةِ.
قولُه: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} قرأ الجُمهورُ: "يَجْرِمَنَّكم" بفتحِ الياءِ مِنْ "جَرَمَ" ثلاثيًّا، ومعنى "جَرَمَ" حَمَلَ، يُقالُ: "جَرَمه على كذا" أي: حَمَلَه عليْه، فيتعدَّى "جَرَمَ" لواحدٍ، وهو الكافُ والميمُ، ويكونُ قولُه: "أَن تَعْتَدُواْ" على إسقاطِ حرفِ الخَفضِ وهو "على" أي: ولا يَحْمِلَنَّكم بُغْضُكم لِقومٍ على اعتدائكم عليهم، فيجيء في محلِّ "أَنْ" الخلافُ المشهورُ، وإلى هذا المعنى ذهب ابنُ عبَّاسٍ وقَتادةُ. ومعناه عند أبي عبيدٍ والفرَّاءِ والكِسائيِّ كَسَبَ، وعلى هذا فيحتمل وجهين، أحدُهما: أنَّه مُتَعَدٍّ لواحدٍ. والثاني: أنَّه مُتَعَدٍّ لاثنينِ، كما أنَّ "كَسَب&qu
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 2
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 4
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 19
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 35
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 49
» فيض العليم ... سورة المائدة، الآية: 65

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
روضة الشاعر عبد القادر الأسود :: ...:: الروضة الروحانية ::... :: روضة الذكر الحكيم-
انتقل الى: