يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا.
(174)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} يا أيُّها الناس: هذا نِداءٌ عامٌّ للناسِ جميعًا، لأنَّ الإنسانيَّةَ مُشتَرِكةٌ في البَشَرِ فالخِطابُ خطابٌ للكافَّة و"بُرْهانٌ" يَعْنِي مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَمَّاهُ بُرْهَانًا لِأَنَّ مَعَهُ الْبُرْهَانَ وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ، قاله الثوريُّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْبُرْهَانُ هَاهُنَا الْحُجَّةُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، فَإِنَّ الْمُعْجِزَاتِ حُجَّتُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والبرهانُ ما يُبرهَنُ بِه على المَطلوبِ. أو هو الإعجازُ الدالُّ على صِدْقِ المُبَلِّغِ عنِ اللهِ، وهو الحُجَّةُ الدامِغَةُ. وقيلَ البرهانُ ما لاحَ في سَرائرِهم مِنْ شَواهِدِ الحَقِّ.
وقولُه: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} النُّورُ الْمُنَزَّلُ هُوَ الْقُرْآنُ، وَسَمَّاهُ نُورًا لِأَنَّ بِهِ تُتَبَيَّنُ الْأَحْكَامُ وَيُهْتَدَى بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، فَهُوَ نُورٌ مُبِينٌ، أي واضحٌ بَيِّنٌ.
وقد يُقالُ: ما هو البُرهانُ وما هُو النُّورُ؟ فالجوابُ: نحن نعلمُ أنَّ كلَّ رسولٍ يأتي بِمُعجِزةٍ تُثبتُ صِدْقَ بَلاغِه عَن ربِّهِ، وقد تَكونُ المُعجِزَةُ بَعيدةً عَنِ المِنْهَجِ، ثمَّ يُعطيهِمُ الرسولُ المِنهَجَ بِبلاغٍ مِنَ اللهِ؛ فسيِّدُنا موسى ـ عليه السلامُ ـ كانت معجزتَه العصا، وكان مِنهَجَه التوراةُ. إذاً فالمُعجِزةُ هي البُرهانُ على صِدْقِ الرَّسولِ فيما بَلَّغَ عن رَبِّه، وسيّدُنا عيسى ـ عليْه السلامُ ـ كان معجزتَه إبراءُ الأَكْمَهِ والأبرصِ وإحياءُ المَوتى بإذنِ اللهِ، وكان مِنْهَجَهُ الإنْجيلُ. أمَّا النبيُّ والرسولُ الخاتِمُ سيِّدُنا ونبيُّنا محمَّدٌ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ فقد تجلّت كانت مُعْجزتُه "القرآنُ" عينَ مِنْهَجِهِ، ولم تَنْفصلْ عنِ المِنْهَجِ؛ لأنَّه رسولٌ إلى النّاسِ كافَّةً وإلى أنْ تَقومَ الساعةُ. هذا هو "البُرهانُ"، أمَّا "النورُ" فقد جاء أيضًا مِنْ أمرٍ حِسِّيٍّ؛ لأنَّ النورَ يَمنعُ الإنسانَ مِنْ أنْ يَتَعَثَّرَ في مِشْيَتِهِ أوْ أنْ يُخطئَ الطَريقَ أوْ أنْ يَصطَدِمَ بالأشياءِ فيُؤذيها أو تُؤذيه. إذًا فالنورُ المَوجودُ في القرآنِ هو حقائقُ القِيَمِ.
قوله تعالى: {مِن رَّبِّكُمْ} مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنَّه صِفةٌ لـ "برهان" أي: برهانٌ كائنٌ مِنْ رَبِّكم. ويجوزُ أن تكونَ "مِنْ" لابْتِداءِ الغايةِ مَجازًا، أو تَبْعيضِيَّةٍ أيْ: مِنْ براهينِ رَبِّكم. أو هو مُتَعَلِّقٌ بـ "جاء" و "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ أيضًا، كما تقدَّم.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيمًا. (175)
قَوْلُهُ تَعَالَى شأنُه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} أَيْ بِالْقُرْآنِ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَإِذَا اعْتَصَمُوا بِكِتَابِهِ فَقَدِ اعْتَصَمُوا بِهِ وَبِنَبِيِّهِ. وَقِيلَ: "اعْتَصَمُوا بِهِ" أَيْ بِاللَّهِ. وَالْعِصْمَةُ الِامْتِنَاعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
لقد ذَكرَ اللهُ ـ سبحانَه وتعالى ـ وصفيْن للذين اهْتَدَوا وزَادَهُم هُدى. وهما الإيمانُ باللهِ تعالى، والاعتصامُ بِه، فلا يَلجؤون إلَّا إليْه.
أمَّا الإيمانُ باللهِ فمَعناهُ الإيمانُ بعَظَمَتِهِ وجَلالِهِ، والإحساسُ بأنَّه فوقَ كلِّ شيءٍ {وهو القاهرُ فوق عِبادِه} والإذعانُ لَه، والإيمان بالله تعالى يقتضي اعتقادَ الوحدانيَّةِ له، وأنَّه لا منشئ للكونِ ولا متصرفَ فيه سِواهُ ـ جلَّ وعَلا ـ والإيمانُ بالله تعالى يَقتضي أيضًا الإخلاصَ المُطلَقَ لِذاتِه العَلِيَّةِ.
وأمَّا الاعْتِصامُ باللهِ تعالى، فإنَّ مَعناهُ ألَّا يَجِدَ لِنَفْسِهِ عاصِمًا مِنَ النّاسِ إلَّا هُو، ولا مَلْجَأَ يَلْجَأُ إليْه إلَّا هو، ولا مَعاذَ لَه إلَّا رَبُّ العالمين، وبهذا يَعلو عن طاعةِ المُستَكْبِرين، ويَتجافى عنِ الخُضوعِ لِذَوي السُلطانِ إلَّا بالحَقِّ، فلا يَذِلُّ ولا يَخْضَعُ، ولا يَجْبُنُ، ولا يُنافِقُ، ولا يَكْذِبُ، ولا يَكونُ فيه إلَّا السُلوكُ الفاضِلُ، ولا يَكونُ إلَّا المُجتَمَعُ الفاضِلُ المُؤمِنُ باللهِ، وبالحَقِّ لَا يَخشى في اللهِ لومةَ لائمٍ، ولا يُداهن في كلامِه، ولا أَفعالِه، ولا يَخافُ إلَّا اللهَ تعالى الواحدَ الأحدَ الفردَ الصَمَدَ، الذي يخضعُ له كلُّ شيءٍ، تبارك وتعالى بيدِه المُلكُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٍ.
قولُه: {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} عنِ ابْنِ عبّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنهما ـ أنَّ المُرادَ بالرَّحمةِ الجَنَّةُ، وقيل أنَّ هذه الرحمة تكون في الدنيا والآخرة، أمّا الرَّحمةُ في الدنيا فهي أنْ يَكونوا في سعادةٍ واطْمِئنانٍ وهدوءِ بالٍ، لأنَّهم فوَّضوا أُمورَهم للعَلِيِّ الأعْلى، ورَكَنوا أنفُسَهم إلى المَلْجَأِ الأعْصَمِ، والرُّكْنِ الأمْكَنِ، فاطمأنوا، باللهِ تعالى، وبِذِكرِه، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، ولا شَكَّ أنَّ شقاءَ الناسِ في الدنيا سببُه انْحرافُهم وانشغالُهم بأمورٍ تُورثُ اضْطِرابًا دائمًا، مِنْ خُصوماتٍ، وأحقادٍ، وحسَدٍ، وغير ذلك. أمَّا الرَحمةُ في الآخرةِ، فهي النعيمُ المُقيمُ، وجَنَّاتُ عَدْنٍ خالدين فيها أبَدًا.
"وَفَضْلٍ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَتَفَضَّلُ عَلَى عِبَادِهِ بِثَوَابِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ لَمَا كَانَ فضلًا. وأصلُ الفضلِ الزيادةُ، وهو يُطلَقُ على الزيادةِ في الإحْسَانِ، والزيادةِ في العَطاءِ، والزِيادةِ في المَنزِلَةِ. وهذا الفضلُ من اللهِ يكون للمتقينَ لَه ـ سُبحانَه ـ من عبادِه المؤمنين به المُعتصمين بِشرعِه، اللائذين بجَنابِه في الدنيا والآخرة. أمّا الفضلُ في الدنيا فهو عُلُوُّ المَنزِلَةِ والسُلْطانِ، والتمكينُ لهم، كما قالَ تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} القصص: 5. وأمَّا الفَضلُ في الآخرةِ، فهو رِضوانُ اللهِ تعالى، والرفعةُ في الدَرَجاتِ، والقُرْبِ منْه ـ سبحانَه، وذلك هو الفضلُ العَظيمُ.
قولُه: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيمًا} أَيْ وَهُوَ يَهْدِيهِمْ، فَأَضْمَرَ هُوَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ مَقْطُوعٌ مِمَّا قَبْلَهُ. "إِلَيْهِ" أَيْ إِلَى ثَوَابِهِ. وَقِيلَ: إِلَى الْحَقِّ لِيَعْرِفُوهُ. "صِراطاً مُسْتَقِيمًا" أَيْ دِينًا مُسْتَقِيمًا. وقيل: هو الإسلامُ والطاعةُ في الدنيا، وطريقُ الجَنَّةِ في الأخرى، وقيل الهدايةُ إكرامُهم بأنْ عَرَفوا أنَّ هذه الهدايةَ هي مِنَ اللهِ فَضلٌ لا لأنَّهم اسْتَوْجَبوها بِطَلَبَهم وجُهْدِهم، ولا بِتَعَبِهم وكَدِّهم.
وتقديمُ ذِكْرِ الوَعْدِ بالإدْخالِ في الرَّحمةِ (الثوابِ أوِ الجَنَّةِ) على الوعدِ بهذه الهِدايةِ للمُسارَعَةِ إلى التَبشيرِ بما هُو المَقْصدُ الأصْليُّ.
قولُه تعالى: {صِرَاطًا} مفعولٌ ثانٍ لـ "يهدي" لأنَّه يَتَعدَّى لاثْنين، كما تقدَّمَ تحريرُه. وقالَ جَماعةٌ: إنَّه مفعولٌ بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه "يهديهم"، والتقدير: "يُعَرِّفهم" وقال أبو البقاءِ قريبًا مِنْ هذا إلَّا أنَّه لم يُضْمِرْ فعلًا، بلْ جَعَلَه منصوبًا بـ "يَهدي" على المعنى، لأنَّ المعنى يُعَرِّفهُم. قال مكّي في الوجهِ الثاني: ويجوزُ أنْ يكونَ مفعولًا ثانيًا لـ "يَهْدي" أي: يَهديهم صراطًا مستقيمًا إلى ثوابِه وجزائه. وأجازَ أبو عليٍّ أنْ يَكونَ منصوبًا على الحالِ مِنْ محذوفٍ، فقال: الهاءُ في "إليه" راجعةٌ إلى ما تقدَّمَ مِنِ اسْمِ اللهِ، والمعنى: ويَهديهم إلى صراطه، و"إليه" متعلِّقٌ بمقدَّر، أيْ مُقرَّبين إليْه، أو مُقرِّبًا إيَّاهم إليه. على أنَّه حالٌ مِنَ الفاعلِ أو المَفعولَ، ومنهم مَنْ جَعَلَه حالًا مِن "صِراطًا" فإذا جعلنا "صراطًا مُستقيمًا" نَصبًا على الحالِ كانتْ الحالَ مِنْ هذا المَحذوفِ. فتَحصَّل في نصبِه أربعةُ أوجُه، أحدُها: أنَّه مفعولٌ بـ "يهدي" مِنْ غيرِ تَضمينِ معنى فعلٍ آخرَ. الثاني: أنَّه على تضمينِ معنى "يُعَرِّفهم" الثالثُ: أنَّه منصوبٌ بمحذوفٍ. الرابع: أنَّه نَصْبٌ على الحال، وعلى هذا التقديرِ الذي قَدَّره أبو عليٍّ الفارسيُّ تقْرُبُ مِنَ الحالِ المُؤكَّدةِ، وليس كقولك: "تبسَّمَ ضاحكًا" لِمُخالَفَتِها لِصاحِبِها بزيادةِ الصِفَةِ وإنْ وافقتْه لَفْظًا. والهاءُ في "إليه" إمَّا عائدةٌ على "الله" بتقديرِ حذفِ مضافٍ، كما تقدَّمَ، مِن نحوِ: "ثوابه" أو "صراطه"، وإمَّا على الفضلِ والرَّحمةِ لأنَّهما في معنى شيءٍ واحدٍ، وإمَّا عائدةٌ على الفَضلِ لأنَّه يُرادُ بِه طريقُ الجِنانِ.
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .
(176)
قولُه تباركت أسماؤه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} خَتَمَ ـ سبحانه ـ هذه السورةَ كما افْتَتَحَها بِذِكْرِ الأَموالِ لِتَحْصَلَ المُشاكَلَةُ بيْنَ المَبدأِ والخِتامِ، وجُملةُ ما في هذه السُورةِ مِنْ آياتِ المَواريثِ ثلاثةٌ:
الأولى: في بَيانِ إرْثِ الأُصولِ والفُروعِ.
والثانيةُ: في بيانِ إرثِ الزَّوْجيْن والأُخوةِ والأَخَواتِ مِنَ الأُمِّ.
والثالثةُ: وهي هذِه في إرْثِ الأُخوةِ والأَخواتِ الأشقاءِ أوِ لِأَبٍ، وأمّا أُولو الأرحامِ فمَذكورون في آخِرِ الأَنفالِ، والمُستفتي عنِ الكلالةِ هو جابِرٌ بنُ عبد اللهِ ـ رضيَ اللهُ عنه، وعَن قَتادةَ أنَّ الصَحابةَ أَهَمَّهم شأنُ الكَلالةِ فسَألوا عنها النبيَّ ـ صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّمَ ـ فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ.
قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، كَذَا فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ وَالنَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُتَجَهِّزٌ لِحَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَنَزَلَتْ بِسَبَبِ جابرٍ، قالَ جابرٌ ابْنُ عَبْدِ اللهِ: مَرِضْتُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَبُو بَكْرٍ يَعُودَانِي مَاشِيَيْنِ، فَأُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَأَفَقْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِيَ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ "يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ" رَوَاهُ البخاري ومُسْلِمٌ وأهلُ السُننِ وغيرُهم، وَقَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} البقرة: 281. وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَمَضَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الْكَلَامُ فِي "الْكَلالَةِ" مُسْتَوْفًى، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِخْوَةِ هُنَا الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ أَوْ لِلْأَبِ وَكَانَ لِجَابِرٍ تسعُ أَخَواتٍ.
قولُه تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} أَيْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا، قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: لَفْظُ الْوَلَدِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْوَالِدِ وَالْمَوْلُودِ، فَالْوَالِدُ يُسَمَّى، وَالِدًا لِأَنَّهُ وَلَدَ، وَالْمَوْلُودُ يُسَمَّى وَلَدًا لِأَنَّهُ وُلِدَ، كَالذُّرِّيَّةِ فَإِنَّهَا مِنْ ذَرَا ثُمَّ تُطْلَقُ عَلَى الْمَوْلُودِ وَعَلَى الْوَالِدِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} يس: 41. وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَجْعَلُونَ الْأَخَوَاتِ عَصَبَةَ الْبَنَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ أَخٌ، إلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَجْعَلُ الْأَخَوَاتِ عَصَبَةَ الْبَنَاتِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ دَاوُودُ وَطَائِفَةٌ، وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ}. وَلَمْ يُوَرِّثِ الْأُخْتَ إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ، قَالُوا: وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِابْنَةَ مِنَ الْوَلَدِ، فَوَجَبَ أَلَّا تَرِثَ الْأُخْتُ مَعَ وُجُودِهَا. وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَتَّى أَخْبَرَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ: أَنَّ مُعَاذًا قَضَى فِي بِنْتٍ وَأُخْتٍ فَجَعَلَ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.
وتُسَمَّى هَذِهِ الْآيَةُ بِآيَةِ الصَّيْفِ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ، قَالَ عُمَرُ: إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَدَّعِ شَيْئًا أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ أَمْرِ الْكَلَالَةِ، وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْهَا فَمَا أَغلَظَ لي في شيءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهَا، حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي جَنْبِي أَوْ فِي صَدْرِي ثُمَّ قَالَ: ((يَا عُمَرُ أَلَا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي أُنْزِلَتْ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ)). أخرجَهُ مالكٌ ومسلم وابنْ جريرٍ والبَيْهَقيُّ، وَعَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: ثَلَاثٌ لَأَنْ يَكُونُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَيَّنَهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْكَلَالَةُ وَالرِّبَا وَالْخِلَافَةُ، خَرَّجَهُ البخاري ومسلم وابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ.
قولُه: {إن امرؤ هلك ليس له ولدٌ} أيْ إنْ هَلَك امْرُؤٌ، والمَعنى ماتَ وسُمِيَ الموتُ هَلاكًا لأنَّه إعدامٌ في الحقيقةِ. والولدُ يُطلَقُ على الذَكَرِ والأُنْثى، واقتَصر على عدمِ الوَلَدِ هنا مَعَ أنَّ عَدَمَ الوَالَدِ مُعتَبَرٌ في الكَلالَةِ اتِّكالًا على ظُهورِ ذلك، قيلَ والمرادُ هنا الابْنُ وهو أَحَدُ مَعْنَيَيْ المُشترك لأنَّ البِنْتَ لا تُسْقِطُ الأُخْتَ.
قولُه: {وله أخت فلها نصفُ ما تَرَكَ} المُرادُ بالأُخْتِ هُنا هي الأُخْتُ لأَبَويْنِ أوْ لأَبٍ لا لأُمٍّ فإنَّ فَرْضَها السُدُسُ "فلها" أيْ لأُخْتِ المَيِّتِ "نِصفُ ما تَرَك".
وقد ذهب جمهورُ العُلَماءِ مِن الصَّحابَةِ والتابعين ومَنْ بعدَهم إلى أَنَّ الأَخواتِ لأَبويْن أو لأَبٍ عُصبَةٌ للبناتِ وإنْ لم يَكنْ مَعَهُنَّ أَخٌ، وذَهَبَ ابْنُ عبَّاسٍ إلى أنَّ الأخواتِ لا يَعْصِبْنَ البَناتِ، وإليْه ذَهَبَ داوود الظاهريُّ وطائفةٌ، وقالوا إنَّه لا مِيراثَ للأُخْتِ لأَبَوَيْنِ أو لأَبٍ مَعَ البِنتِ، واحْتَجُّوا بِظاهِرِ هذه الآيةِ فإنَّه جعلَ عدمَ الوَلَدِ المُتناوِلِ للذَكَرِ والأنْثى قيْدًا في مِيراثِ الأُخْتِ.
وهذا استدلالٌ صحيحٌ لو لَمْ يَرِدْ في السُنَّةِ ما يَدُلُّ على ثُبوتِ ميراثِ الأُخْتِ معَ البِنْتِ، وهو ما ثَبَتَ في الصَحيحِ أنَّ مُعاذًا قَضى على عهدِ رسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ في بِنْتٍ وأُخْتٍ فجَعلَ للبِنتِ النِّصفَ، وللأُخْتِ النِّصفَ، وكذا صحَّ أنَّ النَبِيَّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ قضى في بِنْتٍ وبِنْتِ ابنٍ وأُخْتٍ فجَعلَ للبِنْتِ النِصفَ ولِبِنْتِ الابْنِ السُدُسَ ولِلأُخْتِ الباقي، فكانتْ هذه السُنَّةُ مُقْتَضِيَةً لِتَفسيرِ الوَلَدِ بالابْنِ دونَ البِنْتِ.
قولُه: {وهو يرثها إن لم يكن لها ولدٌ} وهو: أي الأخُ "يرثها" أي يَرِثُ الأُختَ جَميعَ ما تَركَتْ "إن لم يكن لها ولدٌ" ذَكَرٌ، إنْ كان المُرادُ بإرثِهِ لَها حِيازَتُه لِجميعِ ما تركتْه، وإنْ كان المُرادُ ثُبوتُ مِيراثِه لَها فالجُملةُ أَعَمُّ مِنْ أن يكونَ كُلًّا أوْ بَعضًا صحَّ تفسيرُ الولدِ بما يَتناولُ الذكرَ والأُنثى، فإنْ كان لها ولدٌ ذَكَرٌ فلا شيءَ له، أو أُنثى فلَه ما فَضَلَ عن نَصيبِها، ولو كانتْ الأُختُ أو الأخُ مِن أمٍّ ففرضُه السُدُسُ كما تقدّمَ في أوَّلِ السورةِ.
واقتَصرَ ـ سبحانه ـ في هذه الآيةِ على نفيِ الوَلَدِ مَعَ كونِ الأبِ يُسقِطُ الأخَ كما يُسقِطُهُ الوَلَدُ الذَّكَرُ لأنَّ المُرادَ بيانُ سُقوطِ الأَخِ مَعَ الوَلَدِ فقط هنا، وأمَّا سُقوطُهُ مَعَ الأبِ فقد تَبَيَّنَ بالسُنَّةِ كما ثَبَتَ في الصَحيحين مِنْ قولِهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((أَلحِقوا الفرائضَ بأهلِها فما بَقيَ فلأَوْلى رجلٌ ذَكرٌ، والأبُ أَوْلى مِن الأَخِ)).
قولُه: {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك} أيْ فإنْ كان مَن يَرثُ بالأُخُوَّةِ "اثنتين" أيْ أُختيْن فصاعِدًا لأنَّها نَزَلتْ في جابرٍ ـ كما تقدم ـ وقد ماتَ عنْ أَخواتٍ سَبْعٍ أو تِسْعٍ والعطفُ على الشَرطيَّةِ السابِقةِ، والتأنيثُ والتَثنيةُ وكذلك الجَمْعُ في قولِه وإنْ كانوا أُخوةً باعتبارِ الخبرِ "فلهما الثلثان مما ترك" الأخُ، إنْ لَم يَكُنْ لَه وَلَدٌ كما سَلَفَ، وما فوقَ الإثنتيْن مِنَ الأَخَواتِ يَكونُ لَهُنَّ الثُلثان بالأَوْلى.
قولُه: {وإن كانوا إخوةً رجالًا ونساءً فللذّكر مثلُ حَظِّ الأنثيين} أيْ مَنْ يَرِثُ بالأُخُوَّةِ "إخوةً" أيْ وأَخَواتٍ فغَلَبَ المَذكورُ على الإناثِ أو فيه اكْتِفاءٌ بِدَليلَ "رجالًا ونساءً" أيْ مُختَلِطين ذُكورًا وإناثًا "فللذَّكرِ" منهمْ "مثلُ حَظِّ الأُنثييْن" تعصيبًا.
قولُه: {يُبَيِّنُ اللهُ لكم أنْ تَضِلّوا} حُكْمَ الكَلالَةِ وسائرَ الأحكامِ كَراهَةَ "أنْ تَضِلّوا" أوْ لِئَلَّا تَضِلّوا. قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْمَعْنَى يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ لِئَلَّا تَضِلُّوا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، فَحَدَّثْتُ الْكِسَائِيَّ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ: ((لَا يَدْعُوَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى وَلَدِهِ أَنْ يُوَافِقَ مِنَ اللهِ إِجَابَةً)). فَاسْتَحْسَنَهُ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْمَعْنَى عِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ لِئَلَّا يُوَافِقَ مِنَ اللهِ إِجَابَةً، وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ خَطَأٌ صُرَاحٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يُجِيزُونَ إِضْمَارَ لَا، وَالْمَعْنَى عِنْدَهُمْ: يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا، ثُمَّ حَذَفَ، كما قال: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} يوسف: 82. وَكَذَا مَعْنَى حَدِيثِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ كَرَاهِيَةً أَنْ يُوَافِقَ مِنَ اللَّهِ إِجَابَةً.
قولُ: {واللهُ بكلِّ شيءٍ عليمٌ} مِنَ الأشياءِ التي منها هذه الأحكامُ المذكورةُ "عليمٌ" أيْ كثيرُ العِلمِ، يَعلَمُ مَصالِحَ العِبادِ، في المَبْدَأِ والمَعادِ، وفيما كلَّفَهم مِنَ الأَحكامِ.
قولُه تعالى: {فِي الكلالة} متعلِّقٌ بـ "يُفْتيكم" على إعْمالِ الثاني، وهو اختيارُ البَصْرِيّين، ولو أَعْملَ الأوَّلَ لأَضمرَ في الثاني، ولَه نَظائرُ في القرآن، قوله: {هَاؤُمُ اقرؤوا كِتَابيَهْ} الحاقّة: 19. و{آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} الكهف: 96. و{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ} المنافقون: 5. و{والذينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِايَاتِنَا} البقرة: 39. وقد تقدَّمَ الكلامُ فيه بأشَبَعَ مِنْ هذا في سورةِ البقرة. وتقدَّمَ أيضًا اشْتِقاقُ الكَلالَةِ أوَّلَ هذهِ السًورَةِ.
وقولُه: {إِنِ امرؤٌ هَلَكَ} إِنِ امرؤٌ: كقولِه: {وَإِنِ امرأةٌ} النساء: 128. و"هلك" جملةٌ فعليَّةٌ في محلِّ رَفْعِ صِفَةٍ لـ "امرؤٌ".
وقولُه: {ليس له ولدٌ} جملةٌ في محلِّ رفعٍ أيضًا صفةً ثانيةً لـ "امرؤٌ"، ويجوزُ أنْ تكونَ حالًا مِنَ الضَميرِ في "هَلَكَ".
وفي هذه الآيةِ على ما اختاروه من كونِ "ليس له ولدٌ" صفةً دليلٌ على الفصلِ بين النَّعتِ والمَنعوتِ بالجُملةِ المُفسِّرَةِ للمَحذوفِ في بابِ الاشْتِغالِ، ونَظيرُه: "إنْ رَجُلٌ قامَ عاقلٌ فأكرمْه" فـ "عاقلٌ" صفةٌ لـ "رجلٌ" فُصِل بينَهما بـ "قام" المُفسِّرِ لـ "قام" المُفَسَّرِ.
وقولُه: {وَلَهُ أُخْتٌ} كقولِه: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} والفاءُ في "فلها" جوابُ "إنْ"
وقولُه: {وَهُوَ يَرِثُهَا} لا مَحلَّ لِهذِه الجُملةِ مِنَ الإِعْرابِ لاسْتِئنافِها، وهي دالَّةٌ على جوابِ الشَرْطِ، ولَيْستْ جوابًا خلافًا للكُوفِيّينَ. فإذا اجْتَمَعَ شَرْطٌ وقَسَمٌ أُجيبَ سابقُهما، وجُعِلَ ذلك الجوابُ سادًا مَسَدَّ جَوابِ الآخر. والضميران مِنْ قولِه: "وهو يرثها" عائدان على لَفظِ امْرِئٍ وأُخْتٍ دونَ معناهما، فهو من بابِ قولِ الأخنسِ بْنِ شِهابٍ التَغْلِبيّ:
وكُلُّ أناسٍ قاربوا قيدَ فَحْلِهمْ .............. ونحن خَلَعْنا قيدَه فَهْوَ سارِبُ
وهو من باب قولِهم: عندِي درهمٌ ونصفُه. وقولِه تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} وإنَّما احْتِيجَ إلى ذلك لأنَّ الحَيَّةَ لا تُورَثُ والهالكَ لا يَرِثُ، فالمَعنى: وامْرَأً آخرَ غيرَ الهالِكِ يَرِثُ أختًا له أُخرى.
قولُه: {فَإِن كَانَتَا اثنتين} الألفُ في "كانتا" فيها أَقوالٌ، أحدُها: أنَّها تعودُ على الأُختيْن، يَدُلُّ على ذلك قولُه: "وله أخت" أي: فإنْ كانتِ الأختان اثْنَتيْن. وقد جَرَتْ عادةُ النَحْويّين أنْ يَسألوا هُنا سؤالاً وهو أنَّ الخبرَ لا بُدَّ أنْ يُفيدَ ما لا يُفيدُه المُبتدأُ، وإلاَ لم يَكنْ كَلامًا، ولذلك مَنَعوا: سيدُ الجاريةِ مالكُها. لأنَّ الخبرَ لَمْ يَزِدْ على ما أفادَهُ المُبتدأُ، والخبرُ هنا دَلَّ على عددٍ ذلك العددُ مُستفادٌ مِن الأَلِفِ في "كانتا" وقد أجابوا عن ذلك بأجوبةٍ منها: ما ذَكَرَه أبو الحَسَنِ والأخفشُ وهو أنَّ قولَه" "اثنتين" يَدُلُّ على مُجرَّدِ الاثْنَييَّةِ مِنْ غيرِ تَقييدٍ بِصغيرٍ أو كبيرٍ أو غيرِ ذلك مِنَ الأَوصافِ، يَعني أنَّ الثُلُثيْن يُسْتَحَقَّانِ بِمُجَرَّدِ هذا العَدَدِ مِنْ غيرِ اعتبارِ قيْدٍ آخَرَ، فصارَ الكلامُ بذلك مُفيدًا. وهذا غيرُ واضحٍ لأنَّ الألفَ في "كانتا" تَدُلُّ أيضًا على مُجَرَّدِ الاثْنَييَّة مِنْ غيرِ قيدٍ بصغيرٍ أوْ كبيرٍ أو غيرِهِما مِنَ الأَوْصافِ، فقد رَجَعَ الأمرُ إلى أنَّ الخَبَرَ لَمْ يُفِدْ غَيْرَ ما أَفادَهُ المُبتَدَأُ. ومنها: ما ذَكَرَهُ مَكيٌّ عنِ الأَخْفَشِ أَيْضًا، وتَبِعَهُ الزَمَخْشريُّ وغيرُه وهو الحَمْلُ على معنى "مَنْ" وتقريرُه ما ذَكرهُ الزَمخشريُ ، قال: "فإنْ قلتَ: إلى مَنْ يَرْجِعُ ضميرُ التَثْنِيَة والجَمعِ في قولِه: "فَإِن كَانَتَا اثنتين، وَإِن كانوا إِخْوَةً" قلتُ: أصلُه: فإنْ كان مَنْ يَرِثُ بالأُخُوَّةِ اثْنَتَيْنِ، وإنْ كان مَنْ يَرِثُ بالأُخُوَّةِ ذُكورًا وإناثًا، وإنَّما قيلَ: "فإنْ كانتا، وإن كانوا" كما قِيلَ: "مَنْ كانتْ أمَّك" فكما أَنَّثَ ضميرَ "مَنْ" لِمَكانِ تأنيث الخبرِ كذلك ثَنَّى وجَمَعَ ضميرَ مَنْ يَرِثُ في "كانتا" و"كانوا" لِمَكانِ تَثنيَةِ الخَبَرِ وجَمْعِهِ. إلَّا أنَّه اعتُرِضَ عليْه بأنَّ هذا تخريجٌ لا يَصِحُّ، وليس نظيرَ "مَنْ كانت أمَّك" لأنّه قد صَرَّحَ بـ "مَنْ" ولها لفظٌ ومَعنى، فمَن أنَّثَ راعى المَعنى، لأنَّ التقديرَ: أيةُ أُمٍّ كانت أمَّكَ. ومدلول ُ الخبرِ في هذا مخالفٌ لمَدلولِ الاسْمِ، بِخِلافِ الآيةِ فإنَّ المَدلوليْن واحدٌ، ولمْ يُؤنِّثْ في "مَنْ كانت أمَّك" لتأنيثِ الخبرِ، إنَّما أنَّثَ لِمَعنى "مَنْ" إذْ أرادَ بِها مُؤنَّثًا ألَا تَرى أنَّكَ تَقولُ: "مَنْ قامت" فتُؤنِّثُ مُراعاةً للمَعنى إذا أردْتَ السؤالَ عن مؤنَّثٍ، ولا خبرَ هُنا فيُؤنَّثَ "قامت لأجلهِ".
والظاهرُ أنَّ الضميرَ في "كانتا" عائدٌ على الوارثتين. و"اثنتين" خبرُه، و"له" صفةٌ محذوفةٌ بها حَصَلتِ المُغايَرَةُ بيْن الاسْمِ والخَبَرِ، والتقديرُ: فإنْ كانتِ الوارثتان اثنتين مِنَ الأَخَواتِ، وهذا جوابٌ حَسَنٌ، وحَذْفُ الصفةِ لِفَهْمِ المَعنى غيرُ مُنْكَرٍ، وإن كان أقلَّ مِنْ عَكْسِهِ، ويَجوزُ أنْ يكونَ خبرُ "كان" محذوفًا، والألفُ تعودُ على الأختيْن المَدلولِ عليهِما بقولِه: "وله أخت" كما تقدَّم ذكرُه عنِ الأخْفَشِ وغيرِه، وحينئذٍ يَكونُ قولُه: "اثنتين" حالًا مؤكدةً، والتقديرُ: وإنْ كانت الأختان له، فَحَذَفَ "له" لدَلالةِ قولِه: "وله أخت" عليْه فهذه أربعةُ أقوالٍ.
وقولُه: {إنْ كانوا} في هذا الضميرِ ثلاثةُ أَوْجُهٍ أَحدُها: أنَّه عائدٌ على المَعنى "مَنْ" المُقدَّرةِ تقديرُه: فإنْ كان مَنْ يَرِثُ إِخْوةٌ ـ كما تقدَّمَ تقريرُه. الثاني: أنَّه يَعودُ على الإِخوةِ، ويَكونُ قدْ أَفادَ الخبرُ بالتَفصيلِ، فإنَّ الإِخوةَ يَشمَلُ الذُكورَ والإِناثَ، وإنْ كان ظاهرًا في الذُكورِ خاصَّةً فقدْ أفادَ الخبرُ ما لم يُفِدْهُ الاسْمُ، وإنْ عادَ على الوارِثِ فقدْ أفادَ ما لَمْ يُفِدْهُ الاسْمُ إفادةً واضحةً، وهذا هو الوجهُ الثالث. وقولُه: "فللذَكَرِ" أي: منهم فحُذِفَ لدَلالَةِ المَعنى عليه.
قولُه: {أَن تَضِلُّواْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أَظهرُها: أنَّ مفعولَ البَيانِ محذوفٌ، و"أنْ تَضِلُّوا" مفعولٌ مِنْ أجلِه على حَذْفِ مُضافٍ تقديرُه: يُبيِّنُ اللهُ أَمْرَ الكَلالَةِ كَراهَةَ أنْ تَضِلُّوا فيها، أي: في حُكْمِها.
وهذه السورةُ اشْتَمَلَ أوَّلُها على كمالِ تَنَزُّهِ اللهِ وسَعَةِ قُدرَتِهِ، وآخرُها اشْتَمَلَ على بيانِ كمالِ العِلْمِ، وهذان الوصْفان بِهِما تَثْبُتُ الرُّبوبيَّةُ والأُلوهيَّةُ والجَلالُ والعِزَّةُ، وبِهِما يَجِبُ أنْ يَكونَ العَبْدُ مُنْقادًا للتَكاليفِ، قالهُ أبو حيّانَ.
روى الشيخانِ عن البَراءِ بنِ عازب أنَّها آخرُ آيةٍ نَزَلَتْ مِنَ الفَرائِضِ، ورُويَ عنِ ابْنِ عبّاسٍ: آخرُ آيةٍ نَزَلَتْ آيةُ الرِّبا، وآخرُ سورةٍ نَزَلَتْ "إذا جاءَ نصرُ اللهِ والفتحُ" ورُويَ أنّه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ بعدَ ما نَزَلَتْ سورةُ
"النَّصرِ" عاشَ عامًا، ونَزَلَتْ بعدَها "بَراءةٌ" وهي آخر سورةٍ نَزَلَتْ كاملةً، فعاش ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ بعدَها ستَّةَ أشهرٍ، ثمَّ نَزَلَتْ في طريقِ حَجَّةِ الوَداع "يستفتونك" الآيةَ فسُمِّيتْ "آيةُ الصيفِ" لأنَّها نَزَلَتْ في الصَيْفِ، ثمَّ نَزَلَتْ وهو واقفٌ بعَرَفَةَ {اليوم أكملتُ لكم