رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا. (165)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} مُبَشِّرين: لأهلِ الطاعاتِ ومَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ بِالجَنَّةِ والخَيْرَاتِ وَحُسْنِ الثَّوَابِ، و"منذرين" لأهلِ المَعاصي ومَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ، وَكَذَّبَ رُسُلَه بالعذابِ والعقابِ وسوءِ العاقبةِ، أَيْ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا.
قولُه: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} حجَّةً: أيْ معذرةً يَعتذرون بها بَعْدَ أنْ أَوْضَحَتِ الرُّسُلُ لِلْنَّاسِ أوَامِرَ اللهِ وَنَوَاهِيهِ، فَيَقُولُوا مَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا، وَمَا أَنْزَلْتَ عَلَيْنَا كِتَابًا، وسُمِّيتِ المَعذرةُ حُجَّةً مَعَ أنَّه لَم يَكنْ لأحدٍ مِنَ العِبادِ على اللهِ حُجَّةٌ تنبيهًا على أنَّ هذه المَعْذِرَةَ مَقبولَةٌ لديْه ـ سبحانَه وتعالى ـ تفضُّلًا منْه ورَحمةً، وفي الآيةِ حُجَّةٌ لأهلِ السُنَّةِ على أنَّ معرفةَ اللهِ لا تَثبُتُ إلَّا بالسَمَعِ. وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} الاسراء: 15، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ} طه: 134. وفي هذا كلِّه دليلٌ واضحٌ على أنَّه لا يَجِبُ على اللهِ شيءٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْعَقْلِ. فالآيةُ ظاهرةٌ في أنَّه لا بُدَّ مِنَ الشَرْعِ وإرْسالِ الرُسُلِ؛ وأنَّ العَقْلَ لا يُغْني عن ذلك أبدًا. وزَعَمَ المُعْتَزِلَةُ أنَّ العقلَ كافٍ وأنَّ إرْسالَ الرُسُلِ إنَّما هُو للتَنبيهِ عن سِنَةِ الغَفْلَةِ التي تَعتري الإنسانَ مِنْ دُونِ اختيارٍ، فمَعنى الآيةِ عندَهم: لِئَلَّا يَبْقى للناسِ على اللهِ حُجَّةٌ. وتَسميةُ ما يُقالُ عندَ تَرْكِ الإرْسالِ "حُجَّةٌ" مَعَ اسْتِحالةِ أنْ يَكونَ لأحَدٍ عليْه ـ سبحانَه وتعالى ـ حُجَّةٌ مَجازٌ بِتنزيلِ المَعذِرَةِ في القَبولِ عندَهُ ـ تَعالى ـ مَنْزلَةَ الحُجَّةِ القاطعةِ التي لا مَرَدَّ لها بمقتضى لُطفِه وكَرَمِه، لا يُبْطِلُ قولَ أهلِ السُنَّةِ أنَّه لا اعْتِراضَ لأحدٍ على اللهِ تعالى في فعلٍ مِنْ أفعالِه بَلْ لَه ـ سبحانَه ـ أنْ يَفعَلَ بِمَنْ شاءَ ما شاءَ.
قولُه: {وكان اللهُ عزيزًا حكيمًا} عزيزًا: لا يُغالِبُهُ مُغالِبٌ، حكيمًا: في أفعالِه التي مِن جُملَتِها إرسالُ الرُسُلِ. فقد أخرجَ البُخاريُّ ومُسلِمٌ وغيرُهما عنِ عبدِ اللهِ بْنِ مَسعودٍ ـ رضيَ اللهُ عنه ـ قال: قال رسولُ اللهَ ـ صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: ((لا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذلكَ حَرَّمَ الفواحِشَ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ، ولا أحَدٌ أَحَبّ إليه المدحُ مِنَ اللهِ، مِنْ أجلِ ذلك مَدَحَ نفسَه، ولا أحدٌ أحبّ إليْه العُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أجْلِ ذلكَ بعثَ النبيّينَ مُبَشِّرينَ ومُنذرين)). وفي لَفْظِ مُسلِمٍ ولا شخصٌ أحبُّ إليْه العُذْرُ مِنَ اللهِ.
قولُه تعالى: {رُسُلًا مُّبَشِّرِينَ} بَدَلٌ مِن "رسلاً" الأوّلِ في قراءةِ الجُمهورِ، أو هو منصوبٌ على الحالِ المُوطِئةِ، كقولِكَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ رَجُلًا صالِحًا. ومعنى المُوطِّئةِ أي: إنَّها ليستْ مقصودةً، إنِّما المَقصودُ صِفتُها، ألا ترى ان الرجولية مفهومة من قولك "بزيدٍ" وإنَّما المَقصودُ وصفُه بالصَلاحِيَةِ. أو أنَّهُ نُصْبٌ بإضْمارِ فعلٍ أيْ: أَرْسَلْنا رُسُلاً. وهناك وجهٌ رابعٌ وهو: أنَّه منصوبٌ على المَدْحِ، تقديرُهُ: "أَمْدَحُ رُسُلًا".
قولُه: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} لـ: لامُ كي، وتتعلَّقُ بـ "منذرين" على المُختارِ عندَ البَصْريّين، وبـ "مُبَشِّرين" على المُختارِ عندَ الكُوفيّين، فالمَسألةُ مِنَ التَنازُعِ، ولو كان مِنْ إعْمالِ الأوَّلِ لأَضْمَرَ في الثاني مِنْ غيْرِ حذْفٍ فقالَ: مبشِّرين ومنذرين لَه لِئَلَّا، ولم يَقُلُّ كذلك فدَلَّ على صِحَّةِ مَذْهَبِ البَصْريّين. وقيلَ: اللامُ تتعلَّقُ بِمحذوفٍ، أيْ: أَرسلْناهم لِذلك. و"حُجَّةٌ" اسْمُ كان، وخبرُها: "على الله" و"للناس" حال ، أو أنَّ الخبرَ "للناس" و"على الله" حال، ويَجوزُ أنْ يَتعلَّقَ كلٌّ مِنَ الجارِّ والمَجرورِ بما تعلَّقَ به الآخرُ إذا جَعَلْناه خَبَرًا، ولا يَجوزُ أنْ يتعلَّقَ "على الله" بـ "حُجَّةٌ"، وإنْ كان المَعنى عليه؛ لأنَّ معمولَ المَصدرِ لا يَتَقدَّمُ عليه. و"بعد الرسل" متعلِّقٌ بـ "حُجَّةٌ"، ويَجوزُ أنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه صفةٌ لـ "حُجَّةٌ" لأنَّ ظُروفَ الزمانِ تُوصَفُ بها الأحداثُ كما يُخْبرُ بها عنها نحو: القتالُ يومَ الجُمُعَةِ.