وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا. (132)
قولُهُ تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ خَلْقًا وَمُلْكًا، وَهُوَ القَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، وَهُوَ الرَّقِيبُ الشَّهِيدُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ، والحافظ لذلك كلِّه، لا يَعزُبُ عنْه عِلمُ شيءٍ منْه، ولا يَؤودُه حِفظُه وتدبيرُه، وَأَنْتُمْ أَيُّهَا العِبَادُ تَحْتَ سُلْطَانِ اللهِ وَقَهْرِهِ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تُعْجِزُوهُ طَلَباً.
قولُهُ: {وكفى باللهِ وَكِيلًا} وكيلًا: أي شَهِيدًا أَو دَافِعًا وَمُجْبِرًا أوْ قَيِّمًا. فالوكيلُ هو القَيِّمُ والكفيلُ بالأمرِ الذي يُوكَلُ إليْه، وهذا على الإطلاقِ هو الله تعالى، ويقال: وكَّلَ فلانٌ فلانًا إذا اسْتَكْفاه أمرَه ثِقةً بكفايتِه، أو عجزًا عنِ القِيامِ بأمرِ نفسِه، والوكيلُ من البشرِ هو الذي يقومُ لكَ بمَهامِّكَ فيما تَجْلِسُ أنتَ مرتاحَ البالِ. فكيف بمن كان الحقُّ بكامِلِ قُدرَتِه وكيله؟. فلْتَطْمَئِنَّ إلى أنَّ مقومات وجودك ثابتة؛ فهو ـ سبحانه ـ مالكُ الشمسِ فلَنْ تَخرُجَ عن تسخيرِها، ومالكُ المياهِ ومالكُ الريحِ ومالكُ عناصِرِ الأرضِ كلِّها. ومادام اللهُ هو المَليكُ فهو الحفيظُ على كلِّ هذه الأشياءِ. وهو نعمَ الوكيلُ؛ لأنَّه القادرُ على كلِّ شيءٍ ولاحدودَ لقدرتِه وهو الذي ليس له مَصلَحَةٌ يقضيها ولا أجر يتقاضاه.
روى الإمامُ أحمد في مُسندِه وأبو داوودَ في سننِه، أنَّ أَعرابيًّا جاءَ فأَناخَ راحلتَه ثمَّ عَقَلَها ثمَّ صلى خلفَ رسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثمَّ أتَى راحلتَه فأَطلَقَ عِقالَها ثمَّ رَكِبَها ثمَّ نادى اللّهمَّ ارْحَمْني ومُحمَّدًا ولا تُشرِكْ في رحمتِنا أَحَداً. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: ((أتَقولون هذا أَضَلُّ أمْ بعيرُه ألم تَسمَعوا ما قال؟)) قالوا: بلى، قال: ((لقَد حَظَرَتَ رحمةً واسعةً. إنَّ اللهَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ خلَقَ مئةَ رحمةٍ فأنزلَ رحمةً يَتَعاطَفُ بِها الخلقُ جِنُّها وإِنْسُها وبَهائمُها وأَخَّرَ عندَه تسْعًا وتِسعين رحمةً أتقولون هو أضلُّ أمْ بعيرُه؟)). إذًا كفى باللهِ وكيلًا وهو حسْبُنا ونعم الوكيل.
قولُه تعالى: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} يُحْتَمَلُ أنْ يكون كلامًا مبتدأً مَسوقًا للمُخاطَبين تَوطِئةً لِما بعدَه مِنَ الشَرْطيَّةِ، ويُحتَمَلُ أنْ يَكونَ كالتَكْميلِ للتَذْيِيلِ بِبَيانِ الدَّليلِ فإنَّ جميعَ المخلوقاتِ تَدُلُّ لِحاجتِها وفقرِها الذاتيِّ على غِناهُ وبِما أفاضَ ـ سبحانَه ـ عليها مِنَ الوُجودِ والخصائصِ والكَمالاتِ كونَه حميدًا.
قولُهُ: {وكفى بالله وَكِيلاً} تَذييلٌ لِما قبلَه.
وقد كرَّرَ قولَه: "ولله ما في السموات وما في الأرض" في آيتينِ مُتتالِيَتَيْن لاختِلافِ معنى الخَبريْنِ عمّا في السمواتِ والأرضِ في الآيتين. وذلك أنَّ الخبرَ عنْه في إحدى الآيتين: ذِكرُ حاجتِه إلى بارئه، وغِنى بارئه عنه، وفي الأخرى: حِفظُ بارِئه إيّاه، وعِلمُه بِه وتدبيرُه. فإن قال قائلٌ: أَفَلا قيل: "وكان الله غنيًّا حميدًا"، وكفى بالله وكيلا؟ فالجواب: إنَّ الذي في الآيةِ التي قال فيها: "وكان الله غنيًّا حميدًا"، ممَّا صَلُحَ أنْ يُختَمَ ما خُتِمَ بِه مِنْ وَصْفِ اللهِ بالغنى وأنَّه محمودٌ، ولم يُذْكَرْ فيها ما يَصلُحُ أنْ يُختَم بوصفِه معَه بالحِفْظِ والتَدبيرِ. فلِذلك كرَّرَ قولَه: "ولله ما في السموات وما في الأرض" والله أعلم.