وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا.(129)
قولُه سبحانه وتعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} وَلَنْ يَسْتَطِيعَ الرِّجَالُ أَنْ يُسَاوُوا فِي المُعَامَلَةِ مِنْ جَمِيعِ الوُجُوهِ بَيْنَ النِّسَاءِ، فِي النَفقة والتَعَهُّدِ والنَظَرِ والإقبالِ المَحَبَّةِ وَمَيْلِ القَلْبِ والمُمالَحَةِ والمُفاكَهَةِ والمُؤانَسَةِ وغيرها، فَإِنْ وَقَعَ القَسَمُ الصُّوَرِيُّ لَيْلَةً وَلَيْلَةً، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّفَاوُتِ فِي المَحَبَّةِ وَالرَّغْبَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ يَقُولُ فِي قِسْمَتِهِ بَيْنَ نِسَائِهِ: ((اللهمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا لاَ أَمْلِكُ))، وَيَعْنِي ميلَ القَلْبَ.
أخرجَ البَيْهَقِيُّ عن عُبيدةَ أنَّه قال: لن تَسْتَطيعوا ذلك في الحُبِّ والجِماعِ، وأخرجَ ابْنُ المُنذِرِ عنِ ابْنِ مَسعودٍ أنَّه قال: في الجِماعِ، وأَخرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عن الحَسَنِ وابنِ جَريرٍ عن مُجاهد أنَّهما قالا: في المحبَّةِ، وأَخرجَا عن أبي مُلَيْكَةَ أنَّ الآيةَ نَزَلَت في عائشةَ ـ رضي الله تعالى عنها ـ وكان رسول الله ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ يُحبُّها أكثرَ مِن غيرِها، وأخرجَ أحمدُ وأبو داوودَ والتِرْمِذِيُّ وغيرُهم عنها أنَّها قالت: (كان النبيُّ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ يَقْسِمُ بيْن نِسائه فيَعدِلُ ثمَّ يَقولُ: اللهمَّ هذا قَسْمِي فيما أَملكُ فلا تَلُمْني فيما تَمْلكُ ولا أَملك). "وَلَوْ حَرَصْتُمْ" على إقامةِ ذلك وبالَغْتُم فيه. وَاللهُ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفُ النَّاسَ إلاَّ العَدْلَ فِيمَا يَسْتَطِيعُونَ.
قُولُه: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} فَإِذَا مِلْتُمْ إلَى
وَاحِدَةٍ تُحِبُّونَها مِنْهُنَّ، فَلا تُبَالِغُوا فِي المَيْلِ إِلَيْهَا فَتَبْقَى الأُخْرَى مُعَلَّقَةً، لاَ هِيَ بِذَاتِ بَعْلٍ، وَلاَ هِيَ مُطَلَّقَةً،كما قال عبدُ الله بنُ عباسٍ، ـ رضي الله تعالى عنهما. وفي الآيةِ ضربٌ من التوبيخِ، وأخرجَ أَحمد وأبو داوودَ والتِرمِذِيُّ والنَّسائيُّ عن أبي هُريرَةَ ـ رضي اللهُ تعالى عنه ـ قال: قال رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسَلَمَ: ((مَنْ كانت لَه امرأتان فمالَ إلى إحداهُما جاءَ يومَ القِيامةِ وأَحَدُ شِقَّيْه ساقطٌ))، وأخرجَ غيرُ واحدٍ عن جابِرٍ بْنِ زيْدٍ أنَّه قال: كانتْ لي امرأتان فلقد كنتُ أعدِلُ بينَهما حتَّى أَعُدُّ القُبَلَ، وعن مُجاهدٍ قال: كانوا يَستَحِبُّون أنْ يُسَوُّوا بيْنَ الضَرائرِ حتَّى في الطِيبِ يَتطيَّبُ لِهذه كما يَتَطَيَّبُ لِهذِه، وعنِ ابْنِ سِيرينَ في الذي لَه امْرأتان يُكرَهُ أنْ يَتَوضَّأَ في بيتِ إحداهما دون الأُخْرى.
أخرج الشيخان عن أبي قُلابة عن أنسٍ رضيَ اللهُ عنْه قال: مِنَ السُنَّةِ إذا تزوّجَ البِكْرَ على الثَّيِّبِ أقامَ عندها سَبْعًا، ثمَّ قَسَمَ، وإذا تزوَّجَ الثَيِّبَ أقامَ عندَها ثلاثًا، ثمَّ قَسَمَ. قال أبو قلابة: ولو شئتُ لقلتُ: إنَّ أنَسًا رَفعَه إلى النبيِّ صلى اللهُ عليْه وسلَّم.
وإذا أرادَ الرجلُ سَفَرَ حاجَةٍ فيَجوزُ لَه أنْ يَحمِلَ بعضَ نِسائه معَ نفسِه بعدَ أنْ يُقرِعَ بينَهُنَّ فيه، ثمَّ لا يَجِبُ عليْه أنْ يَقضيَ للباقياتِ مُدَّةَ سَفَرِهِ، وإنْ طالت إذا لم يَزِدْ مُقامُه في بلدِه على مُدَّةِ المُسافرين، والدليلُ عليْه ما جاء عن عائشةَ زوجِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنَّها قالت: (كان رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ إذا أرادَ السَفَرَ أقرَعَ بَيْن نِسائهِ فأيَّتهُنَّ خرَجَ سهْمُها خَرَجَ بِها، أمَّا إذا أراد سَفَرَ نَقْلَةٍ فليْس لَه تخصيصُ بعضِهِنَّ لا بالقُرْعَةِ ولا بِغيرِها). أخرجه الشيخان.
قولُه: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} وَإِن أَصْلَحْتُمْ ماكنتم قد أَفسدتم في مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ، وَاتَّقَيْتُمْ ظُلْمَهُنَّ، وَتَفضِيلَ بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ، وَعَدَلْتُمْ بَيْنَهُنَّ فِيما يَدْخُلُ فِي اخْتِيَارِكُمْ كَالقَسْمِ وَالنَّفَقَة وَاتَّقَيْتُمْ فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ، عَفَا اللهُ عنكم وغَفَرَ لَكُمْ مَا كَانَ مِنْ مَيْلٍ إلى بَعْضِ النِّسَاءِ دُونَ بَعْضٍ.
قولُه تَعالى: {كُلَّ المَيْلِ} نصبٌ على المَصْدَريّةِ، وقد تقرَّرَ أنَّ "كل" بحسَبِ ما تُضاف إليْه، إنْ أُضيفتْ إلى مصدرٍ كانت مصدرًا، أوْ ظَرْفٍ أو غيرِه فكَذلك.
قولُه: {فَتَذَرُوهَا} هو منصوبٌ بإضمارِ "أَنْ" في جوابِ النَهْيِ، أو
مجزومٌ عطفًا على الفِعلِ قبلَه أي: فلا تَذَروها، ففي الأَوَّلِ نَهْيٌ عَنِ الجَمْعِ بينَهما، وفي الثاني نَهْيٌ عن كلٍّ على حِدَتِه وهو أبلغُ، والضميرُ في "تَذَروها" يَعودُ على المَيْلِ عنْها لِدَلالةِ السِياقِ عليها.
قولُه: {كالمُعَلَّقةِ} حالٌ مِنْ "ها" في "تَذَروها" فيَتَعلَّقُ بِمحذوفٍ، أي: فتَذروها مُشْبِهَةً المُعَلِّقة، ويَجوزُ عِنْدي أنْ يَكونَ مفعولاً ثانياً لأنَّ قولَك: "تذر" بمعنى "تترك" وتَرَكَ يتعدَّى لاثْنَيْنِ إذا كان بمَعنى صَيَّر.