وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا.
(115)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} الْمُشَاقَّةُ الْمُعَادَاةُ والمُخالَفةُ، ومَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ ـ صلى الله عليْه وسلَّمَ ـ بِارْتِدَادِهِ عَنِ الإِسْلاَمِ ، وَإِظْهَارِ العَدَاوَةِ لَهُ، "من بعد ما تبيّن" أي وضح وظهر "له الهدى" بأنْ يَعلَمَ صحَّةَ الرِسالةِ بالبَراهينِ الدالَّةِ على ذلك
وقولُه: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} وَمَنْ يَسْلُكْ غَيْرَ طَرِيقِ الشَّرِيعَةِ التِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ، فَصَارَ فِي شِقٍّ، وَالشَّرْعُ فِي شِقٍّ آخَرَ، وَذَلِكَ عَنْ عَمَدٍ مِنْهُ، بَعْدَمَا ظَهَرَ لَهُ الحَقُّ، وَتَبَيَّنَ لَهُ الرُّشْدُ. وَمَنْ يَتَّبعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ، التِي قَامَ عَلَيْهَا إِجْمَاعُ الأُمَّةِ المُسْلِمَةِ (وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ دَلِيلٌ عَلَى العِصْمَةِ مِنَ الخَطَأ). فقد أخرج التِرْمِذِيُّ والبَيهَقِيُّ في الأسماءِ والصفاتِ عنِ ابْن عُمَرَ وابنِ عباسٍ ـ رضيَ الله عنهم ـ قال: قال رسول الله ـ صلى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ: ((لا يَجْمَعُ اللهُ هذه الأمَّةَ على الضَلالةِ أَبَداً، ويَدُ اللهِ على الجماعةِ فمَن شذَّ شَذَّ في النار)).
واسْتَدَلَّ الإمامُ الشافعي ـ رضيَ اللهُ تعالى عنه ـ على حُجِّيَّةِ الإجْماعِ بهذه الآيةِ، فعن المُزْنِيِّ أنَّه قال: كنتُ عندَ الشافِعِيِّ يوماً فجاءه شيْخٌ عليه لباسُ صوفٍ وبِيدِه عصًا، فلمّا رآه ذا مَهابَةٍ اسْتَوى جالساً وكان مستنداً لأسطوانة وسوى ثيابه فقال له: ما الحُجَّةُ في دينِ اللهِ تعالى؟ قال: كتابُه، قال: وماذا؟ قال: سنَّةُ نبيِّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: وماذا؟ قال: اتِّفاقُ الأُمَّةِ، قال: مِنْ أينَ هذا الأخيرُ أَهُوَ في كتابِ اللهِ تعالى؟ فتَدَبَّرَ ساعةً ساكِتاً، فقال لَه الشيخُ: أَجَّلتُك ثلاثةَ أيّامٍ بِليالِيهِنَّ فإنْ جئتَ بآيةٍ وإلَّا فاعْتَزِلِ النَاسَ. فمَكثَ ثلاثةَ أيَّامٍ لا يَخرُج، وخرَجَ في اليومِ الثالثِ بيْن الظُهرِ والعَصْرِ وقد تغيَّرَ لونُه، فجاءَه الشيخُ وسلَّم عليْه وجلَسَ، وقال: حاجتي، فقال: نعم أعوذُ باللهِ تعالى مِنَ الشيطانِ الرَّجيمِ، بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، قالَ اللهُ عزَّ وجَلَّ: {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى ويتَّبعْ غيرَ سبيل المؤمنين نولِّه ما تولى...} الخ. لمْ يُصلِهِ جَهَنَّمَ على خلافِ المؤمنينَ إلَّا واتِّباعُهم فرضٌ. قالَ: صَدَقْتَ، وقام وذهب، ورُويَ عنْه أنَّه قال: قرأتُ القرآنَ في كلِّ يومٍ وفي كلِّ ليلةٍ ثلاثَ مَرَّاتٍ حتَّى ظَفِرْتُ بها.
قولُه: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} نَتْرُكُهُ وَمَا يَعْبُدُ،
أَيْ نَكِلُهُ إِلَى الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وجَزَاؤهُ أَنْ يُحَسِّنَ اللهُ لَهُ أَفْعَالَهُ فِي صَدْرِهِ، وَيُزَيِّنَهَا لَهُ اسْتِدْارَجاً لَهُ، وَيَجْعَلَ مَصِيرَهُ فِي جَهَنَّمَ، يَصْطَلِي بِلَظَاهَا، وَسَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمَصِيراً.
نزلت أيضاً بِسَبَبِ ابْنِ أُبَيْرِقٍ السَّارِقِ، لَمَّا حَكَمَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ وَهَرَبَ إِلَى مَكَّةَ وَارْتَدَّ، فلَمَّا صَارَ إِلَى مَكَّةَ نَقَبَ بَيْتًا بِمَكَّةَ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: حَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ، فَسَقَطَ فَبَقِيَ فِي النَّقْبِ حَتَّى وُجِدَ عَلَى حَالِهِ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ مَكَّةَ، فَخَرَجَ إِلَى الشَّامِ فَسَرَقَ بَعْضَ أَمْوَالِ الْقَافِلَةِ فَرَجَمُوهُ وَقَتَلُوهُ، فَنَزَلَتْ: "نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً".
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَدِمَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ الْمَدِينَةَ وَأَسْلَمُوا ثُمَّ انْقَلَبُوا إِلَى مَكَّةَ مُرْتَدِّينَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ "وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ". وَالْآيَةُ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي سَارِقِ الدِّرْعِ أَوْ غَيْرِهِ فَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ خَالَفَ طَرِيقَ الْمُسْلِمِينَ.
قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ} تقدَّم أنَّ المُضارِعَ المَجزومَ والأمرَ مِنْ نحوِ "لم يَرْدُدْ" و"رَدَّ" يجوزُ في الإِدغامُ وتركُه على تفصيلٍ في ذلك وما فيه من اللغات في آل عمران، وكذلك حكُم الهاء في قوله: "نُؤْته" و"نُصْلِه" وتقدَّم قوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} النساء: 48. وخُتمت تيك بقولِه: {فقد افترى} وهذه بقوله: "فقد ضَلَّ" لأنَّ ذلك في غايةِ المناسبةِ، فإنَّ الأُولى في شأنِ أهلِ الكتابِ مِنْ أنَّهم عندَهم عِلْمٌ بصِحَّةِ ثبوتِه، وأنَّ شريعتَه ناسخةٌ لِجميعِ الشرائعِ، ومع ذلك فقد كابروا في ذلك فافتَرَوا على الله تعالى، وهذه في شأنِ قومٍ مشركين غيرِ أهلِ كتابٍ ولا علمٍ فناسَب وصفُهم بالضلال، وأيضاً فقد تقدَّم ذكر الهدى وهو ضدُّ الضلال.