سُورَةُ النِّسَاءِ
بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ النِّسَاءِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ
إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً نَزَلَتْ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فِي عُثْمَانَ
بْنِ طَلْحَةَ الْحَجَبِيِّ وَهِيَ قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ
أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها} عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ عِنْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ـ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهم:
إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} حَيْثُ وَقَعَ إِنَّمَا
هُوَ مَكِّيٌّ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ صَدْرُ السُّورَةِ مَكِّيًّا،
وَمَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَإِنَّمَا هُوَ مَدَنِيٌّ.
جاءَ
فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أمِّ المؤمنين عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ
أَنَّهَا قَالَتْ: مَا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَعْنِي قَدْ بَنَى
بِهَا. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِنَّمَا بَنَى بِعَائِشَةَ بِالْمَدِينَةِ.
وَمَنْ تَبَيَّنَ أَحْكَامَهَا عَلِمَ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ لَا شَكَّ
فِيهَا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}
مَكِّيٌّ حَيْثُ وَقَعَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ الْبَقَرَةَ
مَدَنِيَّةٌ وَفِيهَا قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فِي مَوْضِعَيْنِ،
وقد تقدم. والله أعلم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً
وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ
اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً.
(1)
قَوْلُهُ
تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ}
يَأْمُرُ اللهُ ـ تَعَالَى ـ عِبَادَهُ بِتَقْوَاهُ وعِبَادَتِهِ
وَحْدَهُ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ عِصْيَانِهِ، فَهُوَ الذِي خَلَقَهُمْ
جَمِيعاً مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وقد افتُتحتْ هذه السورةُ الكريمةُ بهذا
النداءِ الشاملِ لِجميعِ المُكلَّفين مِن وقتِ نُزولِها إلى أنْ يَرِثَ
اللهُ الأرضَ ومَن عليها، وقد دخلتْه الألفُ واللامُ المفيدةُ للاستِغراقِ؛
ولأنَّ ما في مضمون هذا النداء من إنذارٍ وتبشيرٍ وأمرٍ بمراقبةِ اللهِ
وخشيتِه، يَتناوَلُ جميعَ المكلفين. والمراد بـ "الناس" المُرادُ الموجودون
عندَ الخطابِ مِن بني آدمَ وهمْ أهلُ مَكَّةَ، ويَدخُلُ فيه مَن سَيُوجَدُ
بدليلٍ خارجيٍّ وهو الإجماعُ على أنَّهم مُكلَّفون بما كُلِّفَ بِه
الموجودون.
وعند
َالحنابلةِ خطابُ المُشافهةَ يَتناولُ القاصرين عن درجةِ التَكليفِ
فيَنتَظِمُ في سِلْكِهم مِنَ الحادثين بعدَ ذلكَ إلى يومِ القِيامةِ، أو هو
بِطريقِ تَغليبِ المَوجودين على مَنْ لمْ يُوجَدْ كما غَلَّبَ الذكورَ على
الإناثِ في قولِه "اتَّقوا رَبَّكم" لاختِصاصِ ذلك بِجمعِ المُذَكَّرِ
وعدمِ تَناوُلِهِ حقيقةً للإناثِ عندَ غيرِ الحَنابِلَةِ.
قولُه:
{الذي خَلَقَكَم} فإنَّ خلقَه ـ تعالى ـ لهم على هذا النَمَطِ البديعِ
مِنْ أَقوى الدواعي إلى الاتِّقاءِ مِن مُوجباتِ نقمتِه، ومِن أتَمِّ
الزواجرِ عن كفرانِ نعمتِه، وذلك لأنَّه يُنبِئُ عن قدرةٍ شاملةٍ لِجميعِ
المَقدورات التي مِنْ جُملتِها عِقابُهم، وعن نعمةٍ كاملةِ لا يُقادَرُ
قدرُها.
وقولُهُ: {منْ نفسٍ واحدةٍ) آدمُ عليْه السلامُ {وخلق منها زوجَها}
حواءُ ـ عليها السلامُ، وهذا أيضاً مِن مُوجِباتِ الاحْتِرازِ عن الإخْلالِ
بمُراعاةِ ما بينَهم من حقوق الأُخُوَّةِ، وخلقُها منْه لم يَكُنْ بتوليدٍ
كخلقِ الأولادِ مِنَ الآباءِ فلا يَلزمُ منه ثُبوتُ حُكمُ البِنْتيَّةِ
والأُختيَّة فيها. قال كَعْبٌ ووَهْبٌ وابنُ اسحقَ: خُلِقتْ قبلَ دُخولِ
الجنَّةِ، وقال ابنُ مسعودٍ وابنُ عبّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهم: إنَّما خُلقتْ
في الجَنَّةِ بعدَ دخولِهِ إيَّاها.
{وبثّ}
فرَّق ونَشَرَ {منهما} الضميرُ راجعٌ إلى آدمَ وحوّاءَ المُعبَّرِ عنهما
بالنفسِ والزوجِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: خُلِقَتْ حَوَّاءُ مِنْ قُصَيْرَى
آدَمَ. وَفِي الْحَدِيثِ: ((خُلِقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ ضِلْعٍ عَوْجَاءَ)).
{رجالاً
كثيراً} وصفٌ مؤكِّدٌ لِما تُفيدُه صِيغةُ الجَمعِ لكونِها مِن جُموعِ
الكَثْرةِ، {ونساء} كثيرةً، وتَرَكَ التصريحَ بِه استغناءً واكتفاءً
بالوصفِ الأوَّلِ. وحَصَرَ ذُرِّيَّتَهُمَا فِي نَوْعَيْنِ، فَاقْتَضَى
أَنَّ الْخُنْثَى لَيْسَ بِنَوْعٍ، لَكِنْ لَهُ حَقِيقَةٌ تَرُدُّهُ إِلَى
هَذَيْنَ النَّوْعَيْنِ وَهِيَ الْآدَمِيَّةُ فَيَلْحَقُ بِأَحَدِهِمَا،
عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي (الْبَقَرَةِ) مِنَ اعْتِبَارِ نَقْصِ
الْأَعْضَاءِ وَزِيَادَتِهَا.
قولُهُ:
{واتقوا الله الذي تساءلون به} قالَ ابنُ عبّاسٍ: أيْ تَعاطَوْنَ به، وقال
الربيعُ: تَعاقدون وتَعاهدون، وقيلَ تتحالفون به، وقيل تُعظِّمونَه،
والمعاني مُتقارِبةٌ، وقال البيضاوي: أي يسألُ بعضُكم بعضاً بالله.
وكَرَّرَ
الِاتِّقَاءَ تَأْكِيدًا وَتَنْبِيهًا لِنُفُوسِ المأمورين. أَيِ اتَّقُوا
اللَّهَ أَنْ تَعْصُوهُ، وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا. أَيِ
اتَّقُوا اللَّهَ وَحَقِّ الرَّحِمِ، وقد اتَّفَقَتِ الْمِلَّةُ عَلَى
أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ وَاجِبَةٌ وَأَنَّ قَطِيعَتَهَا مُحَرَّمَةٌ.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِأَسْمَاءَ ـ وَقَدْ سَأَلَتْهُ (أَأَصِلُ أُمِّي) ـ ((نَعَمْ صِلِي
أُمَّكِ)) فَأَمَرَهَا بصِلَتِها وهي كافرة. حَتَّى انْتَهَى الْحَالُ
بِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فَقَالُوا بِتَوَارُثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ
إِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ وَلَا فَرْضٌ مُسَمًّى، وَيَعْتِقُونَ عَلَى
مَنِ اشْتَرَاهُمْ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِمْ لِحُرْمَةِ الرَّحِمِ،
وَعَضَّدُوا ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ
فَهُوَ حُرٌّ)). وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. رُوِيَ ذَلِكَ
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَهُوَ
قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَطَاءٍ
وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ
وَإِسْحَاقُ. وَلِعُلَمَاء المالكيَّةِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ. الثَّانِي
الْجَنَاحَانِ يَعْنِي الْإِخْوَةَ. الثَّالِثُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ إِلَّا أَوْلَادُهُ
وَآبَاؤُهُ وَأُمَّهَاتُهُ، وَلَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ إِخْوَتُهُ وَلَا
أَحَدٌ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ وَلُحْمَتِهِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ
لِلْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ. وَأَحْسَنُ طُرُقِهِ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ لَهُ،
رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ ضَمْرَةَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَقَدْ عَتَقَ
عَلَيْهِ)). وَهُوَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ بِنَقْلِ الْعَدْلِ عَنِ الْعَدْلِ
وَلَمْ يَقْدَحْ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِعِلَّةٍ تُوجِبُ
تَرْكَهُ، غَيْرَ أَنَّ النَّسَائِيَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: هَذَا حَدِيثٌ
مُنْكَرٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: تَفَرَّدَ بِهِ ضَمْرَةُ. وَهَذَا هُوَ
مَعْنَى المُنكَرِ والشاذِّ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ. وَضَمْرَةُ
عَدْلٌ ثِقَةٌ، وَانْفِرَادُ الثقة بالحديثِ لا يَضُرُّه. والله أعلم.
وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي ذَوِي الْمَحَارِمِ مِنَ الرَّضَاعَةِ. فَقَالَ أَكْثَرُ
أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَدْخُلُونَ فِي مُقْتَضَى الْحَدِيثِ. وَقَالَ
شَرِيكٌ الْقَاضِي بِعِتْقِهِمْ. وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَبَعْضُ
الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يَعْتِقُ عَلَى الِابْنِ إِذَا
مَلَكَهُ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((لَا
يجزي وَلَدٌ وَالِدًا إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ
فَيُعْتِقَهُ)). قَالُوا: فَإِذَا صَحَّ الشِّرَاءُ فَقَدْ ثَبَتَ
الْمِلْكُ، وَلِصَاحِبِ الْمِلْكِ التَّصَرُّفُ. وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ
بِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:
{وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} فَقَدْ قَرَنَ بَيْنَ عِبَادَتِهِ وَبَيْنَ
الْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ فِي الْوُجُوبِ، وَلَيْسَ مِنَ الْإِحْسَانِ
أَنْ يَبْقَى وَالِدُهُ فِي مِلْكِهِ وَتَحْتَ سُلْطَانِهِ، فَإِذًا يَجِبُ
عَلَيْهِ عِتْقُهُ إِمَّا لِأَجْلِ الْمِلْكِ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ
((فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ))، أَوْ لِأَجْلِ الْإِحْسَانِ عَمَلًا
بِالْآيَةِ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَلَدَ
لَمَّا تَسَبَّبَ إِلَى عِتْقِ أَبِيهِ بِاشْتِرَائِهِ نَسَبَ الشَّرْعُ
الْعِتْقَ إِلَيْهِ نِسْبَةَ الْإِيقَاعِ مِنْهُ. وَأَمَّا اخْتِلَافُ
الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ يُعْتَقُ بِالْمِلْكِ، فَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ
مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَعْنَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَوَجْهُ
الثَّانِي إِلْحَاقُ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِالْأَبِ
الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا أَقْرَبَ لِلرَّجُلِ مِنَ ابْنِهِ
فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَبِ، وَالْأَخُ يُقَارِبُهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ
يُدْلِي بِالْأُبُوَّةِ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: أَنَا ابْنُ أَبِيهِ. وَأَمَّا
الْقَوْلُ الثَّالِثُ فَمُتَعَلَّقُهُ حَدِيثُ ضَمْرَةَ وَقَدْ
ذَكَرْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْأَرْحامَ} الرَّحِمُ اسْمٌ لِكَافَّةِ الْأَقَارِبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ
بَيْنَ الْمَحْرَمِ وَغَيْرِهِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ الرَّحِمَ
الْمَحْرَمَ فِي مَنْعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ
فِي حَقِّ بَنِي الْأَعْمَامِ مَعَ أَنَّ الْقَطِيعَةَ مَوْجُودَةٌ
وَالْقَرَابَةَ حَاصِلَةٌ، وَلِذَلِكَ تَعَلَّقَ بِهَا الْإِرْثُ
وَالْوِلَايَةُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَحْكَامِ. فَاعْتِبَارُ الْمَحْرَمِ
زِيَادَةٌ عَلَى نَصِّ الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ. وَهُمْ
يَرَوْنَ ذَلِكَ نَسْخًا، سِيَّمَا وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْلِيلِ
بِالْقَطِيعَةِ، وَقَدْ جَوَّزُوهَا فِي حَقِّ بَنِي الْأَعْمَامِ وَبَنِي
الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ
تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} أَيْ حَفِيظًا، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. ابْنُ زَيْدٍ: عَلِيمًا. وَقِيلَ: "رَقِيباً"
حَافِظًا، قِيلَ: بِمَعْنَى فَاعِلٍ. فَالرَّقِيبُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ ـ
تَعَالَى، وَالرَّقِيبُ: الْحَافِظُ وَالْمُنْتَظِرُ، تَقُولُ: رَقَبْتُ
أَرْقُبُ رُقْبَةً ورُقبانًا إذا انتظرتَ. وَالْمَرْقَبُ: الْمَكَانُ
الْعَالِي الْمُشْرِفُ، يَقِفُ عَلَيْهِ الرَّقِيبُ. وَالرَّقِيبُ:
السَّهْمُ الثَّالِثُ مِنَ السَّبْعَةِ الَّتِي لَهَا أَنْصِبَاءُ
وَيُقَالُ: إِنَّ الرَّقِيبَ ضَرْبٌ مِنَ الْحَيَّاتِ، فهو لفظ مشتَركٌ.
والله أعلم.
قوله
تعالى: {مِن نَّفْسٍ} متعلِّقٌ بـ "خَلَقكم" فهو في محلِّ نصبٍ. و"مِنْ"
لابتداءِ الغايةِ. وكذلك "منها زوجَها"، و"بَثَّ منهما".
وقرأ
ابنُ أبي عبْلة: "واحدٍ" من غير تاءٍ، وله وجهان، أحدُهُما: مراعاةُ
المعنى، لأنَّ المُرادَ بالنفسِ آدمَ ـ عليه السلام. والثاني: أنَّ النفسَ
تُذَكَّرُ وتُؤنَّثُ، وعليه قولُ الحُطيئة:
ثلاثةُ أنفُسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ ..................... لقد عال الزمان على عيالي
قوله: "وخَلَقَ" فيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ، أحدُها: أنَّه عَطْفٌ على معنى
"واحدة"
لِما فيه مِن معنى الفِعلِ كأنَّه قيل: "مِنْ نفسٍ وَحُدتْ" أي انفرَدتْ،
يُقال: "وَحُدَ، يَحِدُ، وَحْداً وحِدَة"، بمعنى انفرد. الثاني: أنَّه عطفٌ
على محذوفٍ، كأنه قيلَ: من نفسٍ واحدةٍ أنشأها أو ابتدأها وخلق منها
وإنّما حُذِف لدَلالةِ المَعنى عليه، والمعنى: شَعَبَكم مِن نفسٍ واحدةٍ
هذه صفتُها، بصفةٍ هي بيانٌ وتفصيلٌ لكيفيّةِ خَلْقهِم منها. الثالث: أنَّه
عطفٌ على "خَلَقَكم" فهو داخلٌ في حَيِّزِ الصِلَةِ، والواوُ لا يُبالى
بها، إذْ لا تَقتَضي ترتيباً. وقَدَّر بعضُهم مضافاً في "منها" أي: "مِنْ
جنسِها زوجَها"، وهذا عند مَنْ يرى أنَّ حواءَ لم تُخْلقْ من آدم، وإنَّما
خُلِقتْ مِن طينةٍ فَضَلَتْ مِن طينةِ آدمَ، وهذا قولٌ مرغوب عنه.
وقُرئ:
"وخالِقٌ وباثٌّ" بلفظِ اسمِ الفاعلِ، على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أيْ:
وهو خالقٌ وباثٌّ. يُقالُ: بَثَّ وأَبَثَّ بمعنى "فَرَّقَ" ثلاثيّاً
ورُباعيّاً.
وقولُه:
{كَثِيراً} فيه وجهانِ، أَظْهَرُهُما: أنَّه نَعْتٌ لـ "رِجالاً" ولم
يؤنِّثْهُ حَمْلاً على المَعنى، لأنَّ "رجالاً" عددٌ أو جِنْسٌ أوْ جَمْعٌ،
كما ذكَّر الفعلَ المسندَ إلى جماعة المؤنث كقوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ}
يوسف: 30. والثاني: أنَّه نعتٌ لِمصدرٍ تقديرُه: وبَثَّ منهما بَثّاً
كثيراً. وقد تقدَّم أنَّ مذهبَ سيبويْهِ في مثلِه النَّصْبُ على الحالِ.
فإنْ قيلَ: لِمَ خَصَّ الرجالَ بوصفِ الكَثْرةِ دونَ النِساءِ؟ ففيه
جوابان، أَحَدُهُما: أنَّه حَذَفَ صِفَتَهنَّ لِدَلالَةِ ما قبلَها عليْها.
أيْ: ونِساءً كثيرةً. والثاني أنَّ الرجالَ لِشُهرتِهم يُناسِبُهم ذلك
بخلافِ النساءِ فإنَّ الألْيَقَ بهنَّ الخُمولُ والإِخفاءُ.
قولُه:
{تَسَاءَلُونَ} قَرَأَ الكُوفِيُّون: "تَساءلون" بتخفيفِ السينِ على حذفِ
إحدى التاءين تخفيفاً، والأصل: تَتَساءلون، وقد تقدَّم لنا الخلافُ: هل
المحذوفُ الأُولى أو الثانية؟ وقرأ الباقون بالتشديدِ على إدْغامِ تاءِ
التفاعلِ في السين لأنَّها مقارِبَتُها في الهَمْسِ، ولهذا تُبْدَلُ مِن
السين قالوا: "ست" والأصل: "سِدْسٌ". وقرأ عبد الله: "تَسْأَلون" مِن سألَ
الثلاثي. وقُرِئَ "تَسَلون" بنقلِ حركةِ الهمزةِ على السين.
و"تَساءلون"
على التفاعل فيه وجهان، أحدُهُما: المُشارَكةُ في السؤال. والثاني: أنَّه
بمعنى فَعَل، ويَدُلُّ عليْه قراءةُ عبدُ اللهِ. ودخَلَ حرفُ الجَرِّ في
المَفعولِ لأنَّ المعنى: تتحالفون، يَعني: أنَّ الأصلَ كان تعدِيَةَ
"تَسْألون" إلى الضميرِ بِنَفسِهِ، فلمَّا ضُمِّنَ معنى "تتحالفون" عُدِّي
تَعْدِيَتَه.
قولُه:
{والأرحامَ} الجمهورُ على نصبِ ميمِ "والأرحامَ" وفيه وجهان، أحدُهُما:
أنَّه عَطفٌ على لَفظِ الجَلالَةِ أيْ: واتَّقوا الأرحامَ أي: لا تقطعوها.
وقَدَّر بعضُهم مُضافاً أي: قَطْعَ الأرحامِ، ويُقالُ: "إنَّ هذا في
الحقيقةِ مِن عَطْفِ الخاصِّ على العامِّ، وذلك أنَّ معنى اتَّقوا اللهَ:
اتَّقوا مخالفَتَه، وقطعُ الأرحام مندرجٌ فيها. والثاني: أنَّه معطوفٌ على
محلِّ المَجرورِ في "به" نحو: مررتُ بزيدٍ وعَمْراً، لَمَّا لَم يَشْرَكْه
في الإِتباع على اللفظِ تبعه على الموضع. ويؤيِّدُ هذا قراءةُ عبدِ اللهِ:
"وبالأَرحامِ". وقال أبو البقاء: تُعَظِّمونه والأرحام، لأنَّ الحَلْفَ به
تعظيمٌ له.
وقرأ
حمزة: "والأرحامِ" بالجَرِّ، وفيها قولان، أحدُهما: أنَّه عطفٌ على
الضميرِ المَجرورِ في "به" مِن غيرِ إعادةِ الجارِّ، وهذا لا يُجيزُه
البَصْرِيّون، وقد تقدَّمَ تحقيقُ القولِ في هذه المسألةِ، وأنَّ فيها
ثلاثةَ مذاهبُ، واحتجاجُ كل فريق في قولِه ـ تعالى: {وَكُفْرٌ بِهِ
والمسجدِ} البقرة: 217.
وقد
طَعَنَ جماعةٌ على هذه القراءةِ كالزجاج وغيرُه، حتَّى يُحكى عن الفَرّاءِ
الذي مَذهبُه جَوازُ ذلك أنَّه قال: "حَدَّثني شريك بنُ عبدِ اللهِ عن
الأعمشِ عن إبراهيمَ قال: "والأرحامِ" بالخفضِ هو كقولِهم: أسألُكَ بالله
والرَحِمِ قال: وهذا قبيحٌ لأنَّ العربّ لا تَرُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قد
كُنِيَ عنه. والثاني: أنَّه ليس معطوفاً على الضميرِ المَجرورِ بلْ الواوُ
للقَسَمِ وهو خفضٌ بحرفِ القَسَمِ مُقْسَمٌ به، وجوابُ القَسَمِ: "إنَّ
اللهَ كان عليكم رقيباً". وضُعِّفَ هذا بوجهيْن، أحدُهما: أنَّ قراءتَيْ
النَصْبِ وإظهارَ حرفِ الجَرِّ في "بالأرحام" يَمنعان مِن ذلك، والأصلُ
تَوَافُقُ القراءاتِ. والثاني: أنَّه نُهِيَ أنْ يُحْلَفَ بغيرِ الله ـ
تعالى ـ والأحاديثُ مصرحةٌ بذلك.
وقدَّرَ
بعضُهم مُضافاً فِراراً مِن ذلك فقال: تقديرُه: ورَبِّ الأَرْحامِ: وهذا
قد أَغْنى عنْه ما قبلَه، يَعني الحَلِفُ باللهِ ـ تعالى. ولِقائلٍ أنْ
يَقولَ: إنَّ للهِ ـ تعالى ـ أنْ يُقْسِم بما شاءَ كما أقسمَ بمخلوقاتِه
كالشِمسِ والنَّجْمِ والليلِ، وإنْ كنَّا نَحن مَنْهِيّينَ عن ذلك، إلَّا
أنَّ المقصودَ مِن حيثُ المَعنى ليسَ على القَسَمِ، فالأَوْلى حَمْلُ هذه
القراءةِ على العطفِ على الضمير، ولا التفاتَ إلى طَعْنِ مَنْ طَعَن فيها،
وحمزةُ بالرتبةِ السَّنِيَّة المانعةِ له مِنْ نقلِ قراءةٍ ضعيفةٍ.
وقرأ
عبدُ اللهِ أيْضاً: "والأرحامُ" رفعاً وهو على الابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ
فقدَّرَه ابنُ عطيَّةَ: "أهلٌ أَنْ تُوصَلَ"، وقَدَّرَه الزمخشريُّ:
و"الأرحامُ مِمَّا يَتَّقى، أو: مما يُتَساءل به"، وهذا أحسنُ للدَلالةِ
اللفظيَّةِ والمَعنويَّةِ، بِخِلافِ الأوَّلِ، فإنَّه للدَلالةِ
المَعنويَّة فقط، وقَدَّره أبو البقاءِ: "والأرحامُ محتَرَمَةٌ" أي: واجبٌ
حُرمتُها.
وقوله:
{إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} جارٍ مُجْرىٍ التعليلِ.
والرَقيبُ: على وزنِ فَعيلٍ للمُبالغةِ مِن رَقَبَ يَرْقُبُ رَقْباً
ورُقوباً ورِقْباناً إذا أحَدَّ النَّظرَ لأَمرٍ يُريدُ تحقيقَه،
واستعمالُه في صِفاتِ اللهِ ـ تعالى ـ بمعنى الحفيظِ، قال أبو دُؤادٍ
الإيادي:
كَمقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ لِلضُّرَ .............................. بَاءِ أَيْدِيهِمْ نَوَاهِدْ
وهو من أبياتٍ جِيادٍ في نَعْتِ الثَّوْرِ الأبيضِ، منها:
وَقَوَائِمٌ خُذُفٌ، لَهَا مِنْ .............................. خَلْفِهَا زَمَعٌ زَوَائِدْ
كَمقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ لِلضُّرَ .............................. بَاءِ أَيْدِيهِمْ نَوَاهِدْ
لَهَقٌ كَنَارِ الرَّأْسِ بِالـ .............................. عَلْيَاءِ تُذْكِيهَا الأَعَابِدْ
وَيُصِيخُ أَحْيَانًا كَمَا اسْـ ...................... ـتَمَعَ المُضِلُّ لِصَوْتِ نَاشِدْ
يَصِفُ
قوائمَ هذا الثَورِ، "خُذُفٌ" جمعُ خَذوفٍ، وهي السريعةُ السيرِ والعدو،
تَخذِفُ الحَصى بقوائمِها. أيْ تَقذِفُه. و"الزمعُ" جمعُ زَمعةٍ، وهي
هِنَةٌ زائدةٌ ناتِئةٌ فوقَ ظَلفِ الشاةِ والثَورِ، مُدلّاةٌ فيها شَعرٌ.
ثمَّ وَصَفَ هذه الزُمَعَ الناتئةَ خلفَ أَظلافِ الثَورِ، وشَبَّهَ
إشرافَها على الأظْلافِ بالرُقباءِ المُشرفين على الضُرباء، وقد مَدّوا
أيْديَهم. وهذا وَصْفٌ في غايةِ البَراعةِ والحُسْنِ. و"الرقباءُ" جمعُ
رقيبٍ، وهو أمينُ أَصحابِ المَيْسِرِ، يَحفَظُ ضربَهم بالقِداحِ
ويَرقُبُهم. و"الضُرَباءُ" جَمْعُ ضَريبٍ، وهو الضاربُ بالقِداحِ. والرقيبُ
أيضاً: ضَرْبٌ من الحَيَّات. والرقيبُ: السهم الثالثُ من سبعةِ سهامٍ من
سهامِ المَيْسِرِ وقد تقدَّمتْ في البَقرة. والارْتِقابُ: الانتظارُ.