وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ
إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا
(113)
قولُه ـ سبحانه: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} بإعلامِك بما هم عليه بالوحي وتنبيهِك على الحقِّ، وقيل: لولا فضلُه بالنُبُوَّةِ ورحمتُه بالعِصمةِ، وقيل: لولا فضلُه بالنُبُوَّةِ ورحمتُه بالوَحْيِ؛ وقيل: المُرادُ لولا حفظُه لك وحراستُه إيّاك.
قولُه: {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} أيْ مِنَ الذين يختانون، والمُرادُ بهمُ بنُ عُروةَ وأصحابُه، أو المدافعون عَن طُعمةَ الذين سَلَفَ ذكرُهم، ويَجوزُ أنْ يَكونَ الضميرُ راجعًا إلى الناسِ، والمُرادُ بالطائفةِ الذين انتصروا للسارِقِ أوِ المُودِعِ الخائنِ، فقَدْ حَاوَلَ أَصْحَابُ بَنِي أَبَيْرق تَبْرِئَةَ صَاحِبِهِمْ مِنْ سَرِقَةِ الدِّرْعِ، وَعَزَوْا إليْهِ الصَّلاَحَ والتُّقَى، وَلاَمُوا صَاحِبَ الدِّرْعِ لاتِّهَامِهِ قَوْماً صُلَحَاءَ، وَهُمْ بِذَلِكَ إنَّمَا كَانُوا يُرِيدُونَ أنْ يُضِلُوا رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَعَصَمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَكَشَفَ لَهُ حَقِيقَةَ مَا وَقَعَ. وقيل: المُرادُ بهم وفدُ ثقيف، فقد رُويَ عن جريرٍ عن الضَحّاكِ عن ابنِ عبّاسٍ ـ رضي اللهُ تعالى عنهُما (أنَّهم قدِموا على رسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلّمَ ـ وقالوا: يا محمدُ جئناكَ نُبايِعُك على أنْ لا نَكسرَ أصنامنا بأيدينا وعلى أنْ نَتمتّعَ بالعُزّى سنةً، فلم يُجبْهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعصمَه اللهُ تعالى مِن ذلك فنَزَلت). وعن أبي مُسلِمٍ أنَّهم المُنافقونَ هَمّوا بما لم يَنالوا مِن إهْلاكِ النَبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ فحفِظَه اللهُ تعالى منهم وحَرَسَه بعينِ عِنايتِه. "أَن يُضِلُّوكَ" أيْ بأنْ يُضِلّوكَ عنِ القَضاءِ بالحَقِّ، أوْ عنِ اتِّباعِ ما جاءك في أمرِ الأصنامِ، أو بأنْ يُهلِكوك، وقد جاءَ الإضْلالُ بهذا المعنى.
قوله: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} وَهُؤلاَءِ الذِينَ حَاوَلُوا تَضْلِيلَ رَسُولِ اللهِ، إِنَّمَا يُضِلُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وما يُهلِكون إلَّا إيّاها لِعَوْدِ وبالِ ذلكَ وضررِه عليهم، فَقَدْ عَصَمَ اللهُ رَسُولَهُ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِي الخَطَأ، وَأَيَّدَهُ بِفَضْلِهِ.
قولُه: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} أي وما يضرونَك شيئًا مِن الضَرَرِ، وما خَطَرَ بِبالِكَ فقد كان عَمَلاً منكَ بظاهِرِ الحالِ ثقةً بأقوالِ القائلين مِنْ غيرِ أنْ يَخطُرَ لك أنَّ الحقيقةَ على خلافِ ذلك، أو لأنَّه ـ سبحانه ـ عاصمُك عن المُداهَنَةِ والمَيْلِ إلى آراءِ المُلْحِدين، والأمرُ بِخِلافِ ما أَنزَلَ اللهُ تعالى عليك، أوْ لِما أنَّه جَلَّ شأنُه وعَدَكَ العِصمَةَ من الناسِ وحجبَهم عنِ التَمَكُّنِ منك.
قولُه: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الكِتَاب: القُرْآنَ
وَ"الحِكْمَة" مَا تَضَمَّنَتْهُ سُنَّةُ الرَّسُولِ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ ـ وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ
يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الوَحْي عَلَيهِ.
قولُه: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} وعلمك بأنواع الوحيِ الذي لم تكن تعلمُهُ مِن خَفَيِّاتِ الأُمورِ وضمائرِ الصُدورِ، ومِن جُملَتِها وُجوهُ إبطالِ كيدِ الكائدين، أو مِنْ أُمورِ الدينِ وأَحكامِ الشَرْعِ، كما رُوِيَ عنِ ابْنِ عبّاسٍ ـ رضي اللهُ تعالى عنهما ـ أوْ مِنَ الخيرِ والشَرِّ كما قال الضحَّاكُ أوْ مِنْ أخبارِ الأوَّلين والآخرين كما قيلَ أو مِن جميعِ ما ذُكِرَ كما يُقالُ. ومِنَ الناسَ مَنْ فسَّرَ المَوصولَ بأسرارِ الكتابِ والحكمةِ، أيْ أنَّه ـ سبحانَه ـ أنزلَ عليك ذلك وأطلعك على أسراره وأوقفك على حقائقه فتكون الجملة الثانية كالتَتِمَّةِ للجُملَةِ الأولى.
قولُه: {وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} لا تحويه عبارةٌ ولا تُحيطُ بِه إشارة، ومن ذلك النبوة العامة والرياسة التامة والشفاعة العظمى يوم القيامة.
قوله ـ تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله} الأظهر: أنَّ "لَهَمَّت" هي جوابُ "لولا" وإنَّما نَفى همَّهم معَ أنَّ المَنْفِي إنَّما هو تأثيرُه فقط إيذاناً بانتفاءِ تأثيرِه بالكُلِّيَّةِ، وقيل: المُرادُ هو الهَمُّ المُؤثِّرُ ولا ريبَ في انتِفائه حقيقةً.
وقالَ الراغبُ الأصفهانيُّ: إنَّ القومَ كانوا مُسلمين ولم يَهُمّوا بإضْلالْه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ أَصْلًا وإنَّما كان ذلك صوابًا عندَهم، وفي ظنِّهم؛ وجوَّزَ أبو البقاء أنْ يَكونَ الجوابُ محذوفًا والتقديرُ ولولا فضلُ اللهِ عليك ورحمتُه لأَضلّوكَ ثمَّ استأنَفَ بقولِه ـ سبحانَه: "لَهَمَّتْ" أيْ لقد همَّتْ بذلك. قال أبو البقاء في هذا الوجهِ : ومثلُ حذفِ الجوابِ هنا حَذْفُه في قولِه: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ} النور: 10. وكأنَّ الذي قَدَّر الجوابَ محذوفاً استشكل كونَ قولِه. "لهمَّتْ" جواباً لأنَّ اللفظَ يقتضي انتفاءَ هَمِّهم بذلك، والغرضُ أنَّ الواقع كونُهم هَمُّوا على ما يُروى في القصة فلذك قَدَّره محذوفاً، والذي جعلَه مثبَتاً أجابَ عن ذلك بأحدِ وجهين: إمَّا بتخصيص الهَمِّ أي: لَهَمَّتْ هَمَّاً يؤثِّر عندك، وإمَّا بتخصيص الإِضلال أي: يضلونك عن دينِك وشريعتِك، وكلا هذهين الهمَّيْنِ لم يقع. و"أنْ يُضِلُّوك" على حذفِ الباءِ أي: بأنْ يُضِلُّوك، ففي محلِّها الخلافُ المشهور، و"مِنْ" في "مِنْ شيءٍ" زائدةٌ، و"شيء" يُرادُ بِه المَصدرُ، أي: وما يَضُرُّونك ضرراً قليلاً ولا كثيراً.
قولُه: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} أي ما يُزيلون عن الحقِّ إلَّا أنفُسَهم، أو ما يُهلِكونَ إلّا إيّاها لِعَوْدِ وبالِ ذلك وضررِه عليهم، والجُملةُ اعتراضيَّةٌ.
وقولُه تعالى: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍ} عطفٌ عليْه وعطفٌ على "أَن يُضِلُّوكَ" و"مِنْ" صلةٌ، والمَجرورُ في محلِّ النَّصبِ على المَصدريَّةِ أيْ وما يَضرونَكَ شيئًا مِن الضَرَرِ لِأنَّه تعالى عاصمُك عنِ الزَيْغِ في الحُكْمِ.