وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً. (107)
قولُه: {وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ} أَيْ لَا تُحَاجِجْ عَنِ الَّذِينَ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ، وجُعِلَتْ خيانةُ الغيرِ خيانةً لأنفُسِهم لأنَّ وبالَها وضررَها عائدٌ عليهم، ويُحتَمَلُ أنَّ المعصيةَ جُعِلتِ خيانةً فـ "يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ" أي يظلمونَها باكتسابِ المَعاصي وارتكابِ الآثامِ، وقيلَ: الخيانةُ مجازٌ عن المَضرَّةِ ولا بُعدَ فيه، والمُرادُ بالمَوصولِ إمَّا السارقُ أو المُودِعُ المُكافِرُ وأمثالُه، وإمَّا هو ومَنْ عاونَه فإنَّه شريكٌ له في الإثْم والخِيانةِ، والخطابُ للنبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ وهو المَقصودُ بالنَهْيِ، والنهيُ عن الشيءِ لا يَقتضي كون المنهي مُرتَكِبًا للمَنْهِيِّ عنه، وقد يُقالُ: إنَّ ذلك مِن قبيلَ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الزمر: 65. ومن هنا قيل: المعنى لا تُجادلْ أيُّها الإنسانُ. وقد نَزَلَتْ هذه الآيةُ فِي أُسَيْرِ بْنِ عُرْوَةَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْمُجَادَلَةُ الْمُخَاصَمَةُ، مِنَ الْجَدْلِ وَهُوَ الْفَتْلُ، وَمِنْهُ رَجُلٌ مَجْدُولُ الْخَلْقِ، وَمِنْهُ الْأَجْدَلُ لِلصَّقْرِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْجَدَالَةِ وَهِيَ وَجْهُ الْأَرْضِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يُرِيدُ أَنْ يُلْقِيَ صَاحِبَهُ عَلَيْهَا، قَالَ الْعَجَّاجُ:
قَدْ أَرْكَبُ الْحَالَةَ بَعْدَ الْحَالَهْ ..................... وَأَتْرُكُ الْعَاجِزَ بِالْجَدَالَهْ
مُنْعَفِرًا لَيْسَتْ لَهُ مَحَالَهْ
الْجَدَالَةُ الْأَرْضُ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: تَرَكْتُهُ مُجَدَّلًا، أَيْ مَطْرُوحًا عَلَى الْجَدَالَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أثيما} أَيْ لَا يَرْضَى عَنْهُ وَلَا يُنَوِّهُ بِذِكْرِ "مَنْ كانَ خَوَّاناً" خائنا. و"خَوَّاناً" أَبْلَغُ، لِأَنَّهُ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِفظَاعةِ تِلْكَ الْخِيَانَةِ. واللَّهُ أَعْلَمُ. و"أَثِيماً" مُنهمِكاً في الإثم، وتعليقُ عدمِ المَحبَّةِ المُرادُ منْه البُغضُ والسُخْطُ بصيغةِ المُبالَغَةِ ليسَ لِتَخصيصِهِ بل لِبيانِ إفراطِ بَني أُبَيْرق وقومِهم في الخِيانةِ والإثم. وقد أتى بصيغةِ المُبالغةِ فيهما لِيُخرِجَ منه مَنْ لم يكن منه تكرارٌ وإصرارٌ وعَمْدٌ، وإرداف الخيانة بالإثمِ: للمُبالَغَةِ، وقيل: إنَّ الأوَّلَ: باعتبارِ السَرِقةِ أوْ إنْكارِ الوَديعةِ، والثاني: باعتبارِ تُهمةِ البريء، ورُويَ ذلك عن ابنِ عبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهما ـ وقُدِّمتْ صِفةُ الخيانةِ على صفةِ الإثمِ لأنَّها سببٌ له، أو لأنَّ وُقوعَهُما كان كذلك، أوْ لِتواخّي الفواصِلِ على ما قِيل.