إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ
نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا
غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا. (56)
قولُه
تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ
نُصْلِيهِمْ نَارًا .. } استئنافٌ وقعَ كالبيانِ والتقريرِ لِما قبلَه،
والمُرادُ بالموصولِ إمَّا الذين كَفروا برسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ وإمَّا
ما يَعُمُّهم وغيرَهم ممن كَفَرَ بسائرِ الأنبياء ـ عليهم السلام، ويدخل أولئك
دخولاً أوَّليًّا، وعلى الأوَّلِ: فالمُرادُ بالآياتِ إمَّا القرآنُ أو ما يَعُمُّ
كلَّه وبَعضَه، أو ما يَعُمُّ سائرَ مُعجزاتِه عليْه الصلاةُ والسلامُ، وعلى
الثاني: فالمُرادُ بِها ما يَعُمُّ المَذكوراتِ وسائرَ الشَواهدِ التي أتى بِها
الأنبياءُ عليهِمُ الصلاةُ والسَّلامُ على مُدَّعاهم، ويُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى في
هذه الآيةِ الكريمةِ: بِأَنَّهُ سَيُعَاقِبُ الكَافِرِينَ بِآيَاتِ اللهِ
وَبِرُسُلِهِ، بِإِحْرَاقِهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَكُلَّمَا احْتَرَقَتْ
جُلُودُهُمْ أَبْدَلَهُمْ غَيْرَها لِيَسْتَمِرُّوا فِي تَحَسُّسِ العَذَابِ
وَآلامِهِ، فاللهُ عَزِيزٌ مقتدرٌ جبَّارٌ منتقمٌ لاَ يَتَحَدَّاهُ أَحَدٌ،
حَكِيمٌ فِي تَصَرُّفاتِهِ، يَعْرِفُ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْعُقُوبَةِ
فَيُعَاقِبُهُ، وَمَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْثَّوَابِ فَيُثِيبُهُ.
وقولُه:
{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ
جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}
نضِجت: أيْ احْتَرَقتْ وتهَرَّأتْ وتَلاشَتْ، مِنْ نَضَجَ الثَمَرُ
واللحمُ نُضْجًا ونَضْجًا إذا أَدرَك، و"بَدَّلناهم"
أيْ أعطيناهم مكانَ كلِّ جِلْدٍ مُحتَرِقٍ جِلدًا جديدًا مغايرًا للمحترق عند
احتراقه. صورةٌ وإن كانتْ مادَّتُه الأصليَّةُ موجودةً بأنْ يُزالَ عنه الإحراقُ
فلا يَرِد أن الجلد الثاني لم يعصِ فكيف يعذب؟ وذلك لأنَّه هو العاصي باعتبارِ أصلِه
فإنَّه لم يُبَدَّلْ إلَّا صفتُه، وهذا السؤال مما لا يكاد يسألُه عاقلٌ فضلاً عن
فاضلٍ، وذلك لأنَّ عِصْيانَ الجِلْدِ وطاعتَه وتَألُّمَه وتَلَذُّذَه غيرُ معقولٍ
لأنَّه مِن حيثُ ذاتِه لا فَرْقَ بينَه وبيْن سائرِ الجَماداتِ مِنْ جِهةِ عَدمِ
الإدْراكِ والشُعورِ وهو أَشْبَهُ الأَشْياءِ بالآلَةِ، فَيَدُ قاتلِ النفسِ ظُلْمًا
مثلاً آلةٌ لَهُ كالسيفِ أو السكّينِ أو غرهما من أدوات القتلِ التي قَتَلَ بها،
ولا فرْقَ بينَها وبينَ اليَدِ إلَّا بأنَّ اليَدَ حاملةٌ للرُّوحِ، والأداةُ الأخرى
ليس ذلك، وهذا لا يَصلُحُ وحدَه سببًا لإعادةِ اليَدِ بذاتِها وإحراقِها دون إعادةِ
الأدات الأخرى المستخدمةِ في عمليَّةِ القَتْلِ وإحراقها في نار جهنَّمَ، لأنَّ
ذلك الحملَ غيرُ اخْتِياريٍّ، فالحَقُّ أنَّ العذابَ على النَفْسِ الحَسّاسَةِ بأيِّ
بِدَنٍ حَلَّتْ وفي أيِّ جِلْدٍ كانتْ، وكَذا
يُقالُ في النَّعيمِ، ويُؤيِّدُ هذا أنَّ مِنْ أهلِ النّارِ مَنْ يَملأُ زاويةً مِنْ
زوايا جهنَّمَ وأَنَّ سِنَّ الجَهَنَّمِيِّ كَجَبِلِ أُحُدٍ، وأنَّ أهلَ الجَنَّةِ
يَدخلونَها على طولِ آدمَ ـ عليه السلامُ ـ ستينَ ذِراعًا في عرضِ سبْعةِ أَذْرُعٍ،
ولا شك أن الفريقين لم يُباشِرا الشرَّ والخيرَ بتِلكَ الأجْسامِ بلْ مَنْ أَنْصَفَ
رأى أنَّ أَجزاءَ الأبدانِ في الدنيا لا تَبْقى على كَمِّيَّتِها كُهولَةً وشَيخوخَةً،
وكونُ الماهِيَّةِ واحدةً لا يُفيدُ لأنّا لم نَدَّعِ فيما نَحنُ فيهِ أنَّ الجِلْدَ
الثاني يُغايِرُ الأوَّلَ كمُغايَرَةِ العَرَضِ للجَوْهَرِ، أوِ كمعارضةِ الإنسانِ
للحَجرِ بل كَمُغايَرَةِ زيدٍ المُطيعِ لِعَمْرٍو العاصي، مثلاً. على أنَّه لو قِيلَ:
إنَّ الكافِرَ يُعَذَّبُ أوّلاً: بِبَدَنٍ مِنْ حَديدٍ تَحُلُّهُ الروحُ، وثانياً:
بِبَدَنٍ مِن غيرِه. كذلك لَمْ يَسُغْ لأَحَدٍ أنْ يَقولَ: إنَّ الحديدَ لم يَعْصِ
فكَيْفَ أُحْرِقَ بالنَّارِ؟ ولولا ما عُلِمَ منَ الدينِ بالضرورةِ منَ المَعادِ
الجِسْمانيِّ بحيثُ صارَ إنْكارُه كُفراً لمْ يَبْعُدْ عَقْلاً القولُ بالنَعيمِ
والعذابِ الرّوحانِيَيْنِ فقط.
فَالْمَقْصُودُ
تَعْذِيبُ الْأَبْدَانِ وَإِيلَامُ الْأَرْوَاحِ. وَلَوْ أَرَادَ الْجُلُودَ
لَقَالَ: لِيَذُقْنَ الْعَذَابَ. مُقَاتِلٌ: تَأْكُلُهُ النَّارُ كُلَّ يَوْمٍ
سَبْعَ مَرَّاتٍ. الْحَسَنُ: سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ كُلَّمَا أَكَلَتْهُمْ
قِيلَ لَهُمْ: عُودُوا فَعَادُوا كَمَا كَانُوا. ابْنُ عُمَرَ: إِذَا احْتَرَقُوا
بُدِّلَتْ لَهُمْ جُلُودٌ بِيضٌ كَالْقَرَاطِيسِ. وَقِيلَ: عَنَى بِالْجُلُودِ
السَّرَابِيلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ
مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ} إبراهيم: 49 و 50.
سُمِّيَتْ جُلُودًا لِلُزُومِهَا جُلُودَهُمْ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ، كَمَا يُقَالُ
لِلشَّيْءِ الْخَاصِّ بِالْإِنْسَانِ: هُوَ جِلْدَةُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ.
وَأَنْشَدَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، وكان يَذهَبُ بوَلَدِه سالم
كلَّ مَذْهب، حتى لامَه الناسُ فيه، فقال:
يَلُومُونَنِي فِي سَالِمٍ وَأَلُومُهُمْ .............
وَجِلْدَةُ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْأَنْفِ سَالِمُ
يَلُومُونَنِي فِي سَالِمٍ وَأَلُومُهُمْ .............
وَجِلْدَةُ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْأَنْفِ سَالِمُ
فَكُلَّمَا
احْتَرَقَتِ السَّرَابِيلُ أُعِيدَتْ. قَالَ الشَّاعِرُ:
كَسَا اللُّؤْمُ تَيْمًا خُضْرَةً فِي جُلُودِهَا ......
فَوَيْلٌ لِتَيْمٍ مِنْ سَرَابِيلِهَا الْخُضْرِ
فَكَنَّى
عَنِ الْجُلُودِ بِالسَّرَابِيلِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَعَدْنَا الْجِلْدَ
الْأَوَّلَ جَدِيدًا، كَمَا تَقُولُ لِلصَّائِغِ: صُغْ لِي مِنْ هَذَا الْخَاتَمِ
خَاتَمًا غَيْرَهُ، فَيَكْسِرُهُ وَيَصُوغُ لَكَ مِنْهُ خَاتَمًا. فَالْخَاتَمُ
الْمَصُوغُ هُوَ الْأَوَّلُ إِلَّا أَنَّ الصِّيَاغَةَ تَغَيَّرَتْ وَالْفِضَّةُ
وَاحِدَةٌ. وَهَذَا كَالنَّفْسِ إذا صارت ترابا وصارت لا شي ثُمَّ أَحْيَاهَا
اللَّهُ تَعَالَى. وَكَعَهْدِكَ بِأَخٍ لَكَ صَحِيحٍ ثُمَّ تَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ
سَقِيمًا مُدْنِفًا فَتَقُولُ لَهُ: كَيْفَ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا غَيْرُ
الَّذِي عَهِدْتَ. فَهُوَ هُوَ، وَلَكِنَّ حَالَهُ تَغَيَّرَتْ. فَقَوْلُ
الْقَائِلِ: أَنَا غَيْرُ الَّذِي عَهِدْتَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: "غَيْرَها" مَجَازٌ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ
تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} وَهِيَ تِلْكَ الْأَرْضُ بِعَيْنِهَا
إِلَّا أَنَّهَا تُغَيَّرُ آكَامُهَا وَجِبَالُهَا وَأَنْهَارُهَا وَأَشْجَارُهَا،
وَيُزَادُ فِي سَعَتِهَا وَيُسَوَّى ذَلِكَ مِنْهَا. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى
قَوْلُ بشَّار بن بُرد:
فَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الَّذِينَ عَهِدْتُهُمْ .......
وَلَا الدَّارُ بالدارِ التي كنتُ أَعرِفُ
وَقَالَ
الشَّعْبِيُّ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَلَا تَرَى مَا
صَنَعَتْ عَائِشَةُ! ـ رضي الله عنها ـ ذَمَّتْ دَهْرَهَا، وَأَنْشَدَتْ بَيْتَيْ
لَبِيدٍ:
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ .........
وَبَقِيتُ فِي خَلَفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ
يَتَلَذَّذُونَ مَجَانَةً وَمَذَلَّةً ....................
وَيُعَابُ قَائِلُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَشْغَبِ
فَقَالَتْ:
رَحِمَ اللَّهُ لَبِيدًا فَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ زَمَانَنَا هَذَا! فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: لَئِنْ ذَمَّتْ عَائِشَةُ دَهْرَهَا لَقَدْ ذَمَّتْ (عَادٌ) دَهْرَهَا،
لأنَّه وُجِدَ في خِزانةِ (عاد) بعد ما هَلَكُوا بِزَمَنٍ طَوِيلٍ سَهْمٌ
كَأَطْوَلِ مَا يَكُونُ مِنْ رِمَاحِ ذَلِكَ الزَّمَنِ عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ:
بِلَادٌ بِهَا كُنَّا وَنَحْنُ بِأَهْلِهَا ....................
إِذِ النَّاسُ نَاسٌ وَالْبِلَادُ بِلَادُ
الْبِلَادُ
بَاقِيَةٌ كَمَا هِيَ إِلَّا أَنَّ أَحْوَالَهَا وَأَحْوَالَ أَهْلِهَا
تَنَكَّرَتْ وَتَغَيَّرَتْ.
وقولُه:
{إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حكيماً} عزيزاً: أي لا
يُعجِزُه شيءٌ وَلَا يَفُوتُهُ. و"حَكِيماً"
فِي إِيعَادِهِ عِبَادَهُ.
قولُه
تعالى: {سَوْفَ
نُصْلِيهِمْ نَارًا} سَوْفَ: كلمةٌ تُذكَرُ للتَهديدِ والوعيدِ، ـ كما قال
سيبويْهِ. وتنوبُ عنها السينُ كما في قولِه تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} المدثر:
26. وقد تُذْكُرُ للوَعْدِ كما في قولِه ـ سبحانَه: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ
فترضى} الضحى: 5. و{سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى} يوسف: 98؛ وكثيراً ما تُفيد
هي والسين توكيدَ الوعيدِ. وتنكير "نَارًا"
للتفخيمِ أيْ: يَدخُلون ولا بُدَّ ناراً هائلةً.
وَقَرَأَ
حُمَيْدُ بْنُ قيس (نَصليهم) بفتح النون وقرأ حميد بفتحِها من صَلَيْتُ الثلاثي، أي
نَشويهم. يُقَالُ: شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ، أي مَشْويَّة. وَنَصْبُ "نَارًا" عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِنَزْعِ الْخَافِضِ
تَقْدِيرُهُ بِنَارٍ.
وقرأ
الجمهورُ "نُصليهم" بضَمِّ النونِ مِن أصلَى، وقرأ سلام ويعقوب: "نُصْلِيهُم"
بضمِّ الهاءِ وهي لُغةُ الحِجازِ وتقدم تقرير ذلك.
وقولُه:
{كُلَّمَا نَضِجَتْ} قد تقدم الكلامُ على "كلما" فهي ظرفُ زمان، والعاملُ فيها "بَدَّلْناهم" والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من الضميرِ
المنصوبِ في "نُصْليهم"
ويَجوزُ أنْ يَكونَ صِفةً لـ "ناراً"
والعائدُ محذوفٌ وليس بالقوي، "وليذوقوا"
متعلِّقٌ بـ "بَدَّلناهم".