فيض العليم ... سورة البقرة، الآية: 277
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
(277)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} أَرْبَعُ صِفَاتٍ للمفلِحينَ الأبرارِ ذَكَرَها اللهُ تَعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ، وهِيَ: الإيمانُ، والعَمَلُ الصالحُ، وإقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزَكَاةِ. أَمَّا الإيمانُ، فهوَ نُورٌ يُشْرِقُ في القلبِ فيَهْتَدِي به إلى طريقِ الخيرِ والفضيلةِ، فإذا قوِيَ الإيمانُ تَطَهَّرَتِ النَّفُسُ مِنْ كُلِّ أَدْرانِ الهَوَى ومَقَاصِدِ السُّوءِ. وقد ذَكَرَ الإيمانَ أَوَّلًا لأنَّ الإيمانَ باللهِ ورَسُولِهِ إذا اسْتَغْرَقَ النَّفْسَ، واسْتَوْلى عَلَى القَلْبِ وُجِدَ الإخْلاصُ للنَّاسِ وطَلَبُ الحَقِّ، فاتَّجَهَ الإنْسانُ بِكُلِّ جَوارِحِهِ إِلَيْهِ؛ واحْتمى بهِ مِنْ كُلِّ حِيرَةٍ. والإيمانُ الذي هوَ وَصْفٌ ثابتٌ للمُؤْمِنينَ نقيضُ الرِّبَا فلا يَجْتَمِعان أبَدًا، لأنَّ الإيمانَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الإذْعانِ للحَقِّ، ومَنِ ادَّعَى الإيمانَ ولم يُذْعِنْ للحَقِّ، فقدْ جافى حَقيقَتَهُ.
وقد تقدَّمَ أَنَّ الإيمانَ في الأَصْلِ هوَ التَّصديقُ، ولا يَكونُ التصديقُ إلَّا عَنْ تَحقيقٍ، والتحقيقُ يَقتَضي العِلْمَ، فإذًا: الإيمانُ مُقْتَضٍ للعِلْمِ، وهو ـ وإنْ كانَ في التعارفِ للعِلْمِ والعَمَلِ بِحَسْبِهِ، فهو في الأَصْلِ، للاعتقادِ النَّفْسِيِّ، ولهذا ما جاءَ الإيمانُ في القرآنِ إلَّا مَقْرونًا بالعَمَلِ الصالِحِ.
وإنَّ اقترانَ الإيمانِ بالعملِ الصالحِ دائمًا يَدُلُّ على أَنَّ الإسلامَ يَدعو إلى العملِ الإيجابيِّ للخَيْرِ، فليس الإيمانُ في الإسلامِ مُجرَّدَ نَزاهةٍ روحيَّةٍ، وتَعَبُّدٍ في الصَوامِعِ، إنَّما الإيمانُ مَظهَرُهُ عملٌ إيجابيٌّ فيه نفعٌ للناسِ؛ فالإسلامُ يَدعو إلى العملِ الإيجابيِّ، لَا مُجرَّدِ التقديسِ السَلْبيِّ.
وإذا كانَ العملُ الصالحُ هو النَّفْعُ العامُّ والنفعُ الخاصُّ، فإنّه يفترِقُ عنِ الصّلاةِ والزَّكاةِ، مِن حيثُ إنَّ هذه هي الفرائضُ الوقتيَّةُ المُنظِّمةُ للعلاقاتِ بين العبدِ وربِّه، وبين العبدِ والنّاسِ، أمّا العملُ الصالحُ فهو الحالُ الدائمةُ للمؤمنِ التي لا تتقيَّدُ بِزمانٍ ولا مَكانٍ، ولا حالٍ، فكَما أنَّ الإيمانَ حالٌ دائمةٌ، فالعملُ الصالحُ أي النفعُ الدائمُ المُستمِرُّ للإنسانِ هو الذي يَنبغي أنْ يكونَ حالًا دائمةً مستمرَّةً للمؤمنِ.
وذِكْرُ هذا الوصفِ في مُقابِلِ أَكلِ الرِّبا فيه إشارةٌ إلى التّقابُلِ بين
الشَرِّ والخيرِ، والإثْمِ والبِرِّ، فإنَّ الإثمَ إيذاءٌ للنّاسِ، ومِن ذلك الرّبا. وأخلاقُ المؤمنِ العملُ النافعُ الدائمُ للنّاسِ، وهو الخيرُ وهو البِرُّ.
وإقامةُ الصّلاةِ: الإتْيانُ بها مَقومَةً غيرَ مِعْوجَّةٍ بحيثُ يَستذكِرُ فيها المُصلّي ربَّه، ولا يَسهو فيها عن ذكرِهِ سبحانَه، وما ذُكرتِ الصلاةُ في مقامِ المدحِ للمُصلِّينَ إلّا ذُكرت بالإقامةِ، لأنَّ إقامتَها هي التي تُهذِّبُ النفسَ، وتُبعدُها عن الفواحِشِ والمُنكَراتِ، كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ} الآية: 45 من سورةِ العنكبوت.
وإنَّ ذِكرَ الصّلاةِ بِجوارِ العملِ الصّالِحِ فيه إشارةٌ إلى أَنَّ الإسلامَ يَلتقي فيه وَصفانِ جَليلانِ: التهذيبُ الرّوحِيُّ، والنَّزاهَةُ النَّفسيَّةُ التي تَكونُ بالصّلاةِ والمُداومةِ على إقامتِها، وبالعملِ النافعِ المُستَمِرِّ وجلبِ الخيرِ للنّاسِ، ففيهِ نَزاهةُ الروحِ والنفعُ العامُّ.
أمَّا إِيتاءُ الزّكاةِ، والمقصودُ بها هنا زكاةُ الفَريضَةِ التي فَرَضَها اللهُ ـ سبحانَه وتعالى، على عبادِهِ، وبِها يَأْخُذُ وَلِيُّ الأَمْرِ مِنْ مَالِ الغَنِيِّ مَا يَسُدُّ بِهِ حاجَةَ الفَقيرِ، فهِيَ قَدْرٌ مَعلومٌ قدَّرهُ الشَّارِعُ الحَكيمُ، بِحيْثُ يَأْخُذُهُ مِنْ مَالِ الغَنِيِّ اخْتِيَارًا أَوْ قَسْرًا.
وذَكرَ اللهُ ـ سبحانَه وتعالى ـ في هذه الجملةِ أُولئكَ الذين يُؤتُونَ الزَّكاةَ طَواعِيَةً واخْتِيارًا، فهم يُعْطُونَها مُحتَسِبين النِيَّةَ مُعتَقدين أنَّ الزَّكاةَ مَغنَمٌ لهم ومَطْهَرةٌ لأَموالِهم، وليستْ مَغْرَمًا لهم، ولا مَنْقَصَةً لأموالِهم. وقد أَشارَ النَبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ إِلَى أَنَّ المُسْلِمينَ بِخيرٍ مَا حَسَبُوا الزَّكاةَ مَغْنَمًا، ولم يَحْسِبُوها مَغرَمًا، فإنَّ في إخراجِ زكاةِ المالِ زكاةٌ للنفسِ وطهارةٌ لها. قالَ تَعالى في الآية: 103، مِنْ سُورَةِ التوبة: {خُذْ مِنْ أَموَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِيهِم بِهَا}. وقد ذُكِرَتِ الزَّكاةُ في هذا المَقامِ؛ لأَنَّها مُقابِلَةٌ للرِّبا.
قولُهُ: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ذَكَرَ ـ سُبْحانَه، لَهم ثَلاثةَ أَنْواعٍ مِنَ الجَزَاءِ. أَوَّلُها: الأَجْرُ، وهوَ عِوَضُ ما قامُوا بِهِ مِنْ خَيْرٍ، واعْتَبَرَ إنْعامَهُ عَلَيْهم بِأَضْعافِ ما صَنَعُوا أَجْرًا لهم وعِوَضًا، وهو المُنعِمُ المُتَفَضِّلُ عليهم، وذلكَ حَثًّا لهم عَلَى فِعلِ الخيرِ، ولتَعليمِ النَّاسِ الشُّكْرَ، ومُقابلَةَ الخيرِ بالخيرِ.
وثاني أَنواعِ الجَزاءِ: الأَمْنُ وَعَدَمُ الخَوْفِ، فَلا مُزْعِجَ يَزْعَجُ فاعِلَ الخَيْرِ، إذْ إِنَّه بالعَمَلِ للنَّفْعِ العامِّ، وتَطهيرِ النَّفسِ، وإِعْطاءِ الفَقيرِ حقَّهُ المَعلومَ قدْ وَقَى نَفْسَهُ ووَقَى مُجتَمَعَهُ مِنْ ذَرائعِ الفِتَنِ ونَوازِعِ الشَرِّ، هذا في الدُّنيا؛ أَمَّا في الآخِرَةِ، فالأَمْنُ مِن عذابِ اللهِ تعالى.
أَمَّا ثالثُ أَنْواعِ الجَزَاءِ: فهوَ أَنَّهم لَا يَحْزَنونَ، وذَلِكَ لأَنَّهم باسْتِقامَةِ قلوبِهم، وامْتِلائها بالإيمانِ وتَهذيبِ أَرْواحِهم وأَدائهم مَا عَلَيْهم مِنْ وَاجِبٍ في حقِّ أَنْفُسِهم ومُجتَمَعِهم ـ قدْ حَصَّنُوا أَنْفُسَهم مِنْ أَسْبَابِ الهَمِّ والغَمِّ، فلا يَأْسَوْنَ عَلى ما يَفوتُهم، ولا يَجْزَعون لِما يُصيبُهم، لأَنَّ نُفوسَهم رُوحانيَّةً تَعْلُو عَنْ مُتَنازَعِ الأَهواءِ التي تَملأ النَّفسَ بِأَسْبابِ الهَمِّ والغَمِّ.
وإنَّ ذِكرَ هَذِهِ الأَحْوالِ في مَقامٍ مُقابِلٍ لِحالِ الرَّبَوِيِّينَ ـ الذينَ لَا يَقومونَ إلَّا كَمَا يَقومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيْطانُ مِنَ المَسِّ ـ لَهُ مَغْزَاهُ ومعنَاهُ، إذْ فيهِ بَيانٌ للنَّعيمِ في مُقابِلِ الجَحيمِ، وللرَّاحَةِ والاطْمِئنان، في مَقابِلِ الجَزَعِ والاضْطِرابِ، وكُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رهينٌ.
قولُهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إِنَّ: حَرْفٌ
ناصِبٌ ناسِخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتأكيد. و "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُها. و "آمَنُوا" فِعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعة، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والألفُ الفارقة. والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والعائدُ ضَميرُ الفاعِلِ. و "وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" الواوُ حرفُ عطفٍ، و "عملوا" مِثْلُ "آمنوا" معطوفٌ عليه، و "الصالحاتِ" مَفعولٌ، به منصوبٌ وعلامةُ نصبِهِ الكسْرةُ نيابةً عن الفتحةِ لأنَّه جمع المؤنَّثِ السالمُ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "آمَنُوا" على كونِها صلةَ الموصولِ فلا محلَّ لها.
قولُهُ: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} وأقاموا: مثلَ: "آمنوا" و "الصَّلاةَ" مفعولٌ بهِ منصوبٌ، والجملةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "آمَنُوا"، و "آتَوُا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ والضمَّةُ مُقَدَّرةٌ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهورِها عَلَى الأَلِفِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، واللفُ للتفريق، و "الزكاةَ" مفعولٌ به منصوبٌ، والجُمْلَةُ أيضًا مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "آمَنُوا".
قولُهُ: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} جارٌّ ومَجرورٌ متعلِّقٌ بخبرٍ مُقَدَّمٍ "أَجْرُهُمْ" مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ مرفوعٌ وهو مُضافٌ، وضميرُ الغائبينَ "هم" في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والجُمْلَةُ الاسميَّةُ هذه مِنَ المُبتَدَأِ والخَبَرِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ. و "عِنْدَ" نصوبٌ على الظرفيَةِ متعلق بما تعلق به الجار والمجرور قبلَهُ وهو مُضَافٌ، و "ربِّهم" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ وهو مضافٌ، وضَميرُ الغائبينَ "هم" في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهم: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}: الواوُ: عاطفةٌ. و "لا" نافيةٌ تَعْمَلُ عَمَلَ لَيْسَ. و "خَوْفٌ" اسْمُهَا مَرْفوعٌ بها، و "عَلَيْهِمْ" جارٌّ ومَجْرورٌ متعلِّقٌ ب خَبَرِ "لا". وجُمْلَةُ "لا" في مَحَلِّ الرَّفْعِ عطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "لَهُمْ أَجْرُهُمْ"، و "لا" كَسابقتها، و "هم" في محلِّ رفعِ اسمِها، و "يحزنون" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ من الناصبِ والجازم، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخرِهِ لأنَّهُ من الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، وجُمْلَةُ قَوْلِهِ: "وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" مَعْطوفَةٌ عَلى جملةِ "لا خوفٌ عليهم".