عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 265 الأربعاء أكتوبر 10, 2012 6:28 am | |
| وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
(265) قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ابْتِغاءَ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى صِفَةَ صَدَقَاتِ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَا خَلَاقَ لِصَدَقَاتِهِمْ، وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَاقَعَةِ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ بِوَجْهٍ مَا، عَقَّبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ نَفَقَاتِ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَزْكُو صَدَقَاتُهُمْ إِذْ كَانَتْ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ وَوَجْهِهِ. وَ"ابْتِغاءَ" مَعْنَاهُ طَلَبَ. وَ"مَرْضاتِ" مَصْدَرٌ مِنْ رَضِيَ يَرْضَى. "وَتَثْبِيتاً" مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يتثبتون أين يضعون صدقاتهم، قال مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ. كَانَ الرَّجُلُ إِذَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ تَثَبَّتَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ أَمْضَاهُ وَإِنْ خَالَطَهُ شَكٌّ أَمْسَكَ. وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ تَصْدِيقًا وَيَقِينًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ وَاحْتِسَابًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْا: "وَتَثْبِيتاً" مَعْنَاهُ وَتَيَقُّنًا أَيْ أَنَّ نُفُوسَهُمْ لَهَا بَصَائِرُ فَهِيَ تُثَبِّتُهُمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَثْبِيتًا. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثُ أَصْوَبُ مِنْ قَوْلِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَا إِلَيْهِ إِنَّمَا عِبَارَتُهُ "وَتَثْبِيتاً" مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الْمَصْدَرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا لَا يَسُوغُ إِلَّا مَعَ ذِكْرِ الْمَصْدَرِ وَالْإِفْصَاحِ بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً}، و{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقَعْ إِفْصَاحٌ بِفِعْلٍ فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَأْتِيَ بِمَصْدَرٍ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ ثُمَّ تَقُولُ: أَحْمِلُهُ عَلَى مَعْنَى كَذَا وَكَذَا، لِفِعْلٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا مَهْيَعُ كَلَامِ الْعَرَبِ فِيمَا عَلِمْتُهُ. وقال النحاس: لَوْ كَانَ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ لَكَانَ وَتَثَبُّتًا من تَثَبَّتَ كَكَرمتُ تَكَرُّمًا، وَقَوْلُ قَتَادَةَ: احْتِسَابًا، لَا يُعْرَفُ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ أَنْفُسَهُمْ تُثَبِّتُهُمْ مُحْتَسِبَةً، وَهَذَا بَعِيدٌ. وَقَوْلُ الشَّعْبِيِّ حَسَنٌ، أَيْ تَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ لَهُمْ عَلَى إِنْفَاقِ ذَلِكَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يُقَالُ: ثَبَّتُّ فُلَانًا فِي هَذَا الْأَمْرِ، أَيْ صَحَّحْتُ عَزْمَهُ، وَقَوَّيْتُ فِيهِ رَأْيَهُ، أُثَبِّتُهُ تَثْبِيتًا، أَيْ أَنْفُسُهُمْ مُوقِنَةٌ بِوَعْدِ اللَّهِ عَلَى تَثْبِيتِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَقِيلَ: "وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ" أَيْ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُثَبِّتُ عَلَيْهَا، أَيْ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ لِثَوَابِهَا، بِخِلَافِ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَحْتَسِبُ الثَّوَابَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} الْجَنَّةُ الْبُسْتَانُ، وَهِيَ قِطْعَةُ أَرْضٍ تَنْبُتُ فِيهَا الْأَشْجَارُ حَتَّى تُغَطِّيَهَا، فَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ لَفْظِ الْجِنِّ وَالْجَنِينِ لِاسْتِتَارِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَالرَّبْوَةُ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ ارْتِفَاعًا يَسِيرًا، مَعَهُ فِي الْأَغْلَبِ كَثَافَةُ تُرَابٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَبَاتُهُ أَحْسَنُ، وَلِذَلِكَ خَصَّ الرَّبْوَةَ بِالذِّكْرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَرِيَاضُ الْحَزْنِ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا كَمَا زَعَمَ الطَّبَرِيُّ، بَلْ تِلْكَ هِيَ الرِّيَاضُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى نَجْدٍ، لِأَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ رِيَاضِ تِهَامَةَ، وَنَبَاتُ نَجْدٍ أَعْطَرُ، وَنَسِيمُهُ أَبْرَدُ وَأَرَقُّ، وَنَجْدٌ يُقَالُ لَهَا حَزْنُ. وَقَلَّمَا يَصْلُحُ هَوَاءُ تِهَامَةَ إِلَّا بِاللَّيْلِ، وَلِذَلِكَ قَالَتِ الْأَعْرَابِيَّةُ: "زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ". والرَّبْوُ النَّفَسُ الْعَالِي. ورَبَا يَرْبُو إِذَا أَخَذَهُ الرَّبْوُ. وَرَبَا الْفَرَسُ إِذَا أَخَذَهُ الرَّبْوُ مِنْ عَدْوٍ أَوْ فَزَعٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً} أَيْ زَائِدَةً، كَقَوْلِكَ: أَرْبَيْتُ إِذَا أَخَذْتَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَيْتَ. وَرَبَوْتُ فِي بَنِي فُلَانٍ وَرَبِيتُ أَيْ نَشَأْتُ فِيهِمْ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: الرَّبْوَةُ أَرْضٌ مُرْتَفِعَةٌ طَيِّبَةٌ وَخَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِالذِّكْرِ الَّتِي لَا يَجْرِي فِيهَا مَاءٌ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، فَمَثَّلَ لَهُمْ مَا يُحِسُّونَهُ وَيُدْرِكُونَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّبْوَةُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الَّذِي لَا تَجْرِي فِيهِ الْأَنْهَارُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَصابَها وابِلٌ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ جَارٍ، وَلَمْ يُرِدْ جِنْسَ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا الْأَنْهَارُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ رَبْوَةً ذَاتَ قَرَارٍ وَمَعِينٍ. وَالْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ الرَّبْوَةَ مَا ارْتَفَعَ عَمَّا جَاوَرَهُ سَوَاءٌ جَرَى فِيهَا مَاءٌ أَوْ لَمْ يَجْرِ. قولُه: {فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ} آتَتْ: أَيْ أَعْطَتْ. أُكُلَها: بِضَمِّ الْهَمْزَةِ: الثَّمَرُ الَّذِي يُؤْكَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ}. وَالشَّيْءُ المأكول من كلِّ شيءٍ يُقَالُ لَهُ أُكُلٌ. وَالْأُكْلَةُ: اللُّقْمَةُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: ((فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَشْفُوهًا قَلِيلًا فَلْيَضَعْ فِي يَدِهِ مِنْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ)). يَعْنِي لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْجَنَّةِ إِضَافَةُ اخْتِصَاصٍ، كَسَرْجِ الْفَرَسِ وَبَابِ الدَّارِ. وَإِلَّا فَلَيْسَ الثَّمَرُ مِمَّا تَأْكُلُهُ الْجَنَّةُ. "ضِعْفَيْنِ" أَيْ أَعْطَتْ ضِعْفَيْ ثَمَرِ غَيْرِهَا مِنَ الْأَرَضِينَ. وَقَالَ بَعْضُ، أَهْلِ الْعِلْمِ: حَمَلَتْ مَرَّتَيْنِ فِي السَّنَةِ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ، أَيْ أَخْرَجَتْ مِنَ الزَّرْعِ مَا يُخْرِجُ غَيْرُهَا فِي سَنَتَيْنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ} تَأْكِيدٌ مِنْهُ تَعَالَى لِمَدْحِ هَذِهِ الرَّبْوَةِ بِأَنَّهَا إِنْ لَمْ يصبْها وابلٌ فإنَّ الطلَّ يَكفيها، ومنوبٌ مَنَابَ الْوَابِلِ فِي إِخْرَاجِ الثَّمَرَةِ ضِعْفَيْنِ، وَذَلِكَ لِكَرَمِ الْأَرْضِ وَطِيبِهَا. قَالَ الْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُ: تَقْدِيرُهُ فَطَلٌّ يَكْفِيهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فَالَّذِي يُصِيبُهَا طَلٌّ. وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ الطَّلُّ: الْمَطَرُ الضَّعِيفُ الْمُسْتَدِقُّ مِنَ الْقَطْرِ الْخَفِيفِ، وَهُوَ مَشْهُورُ اللُّغَةِ. وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ وَبَلَتْ وَأَوْبَلَتْ، وَطَلَّتْ وَأَطَلَّتْ. وَفِي الصِّحَاحِ: الطَّلُّ أَضْعَفُ الْمَطَرِ وَالْجَمْعُ الطِّلَالُ، تَقُولُ مِنْهُ: طُلَّتِ الْأَرْضُ وَأَطَلَّهَا النَّدَى فَهِيَ مَطْلُولَةٌ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَزَرْعُ الطَّلِّ أَضْعَفُ مِنْ زَرْعِ الْمَطَرِ وَأَقَلُّ رِيعًا، وَفِيهِ ـ وَإِنْ قَلَّ ـ تَماسكٌ ونفع. فقد شَبَّهَ تَعَالَى نُمُوَّ نَفَقَاتِ هَؤُلَاءِ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ يُرْبِي اللَّهُ صَدَقَاتِهِمْ كَتَرْبِيَةِ الْفُلُوِّ وَالْفَصِيلِ بِنُمُوِّ نَبَاتِ الْجَنَّةِ بِالرَّبْوَةِ الْمَوْصُوفَةِ، بِخِلَافِ الصَّفْوَانِ الَّذِي انْكَشَفَ عَنْهُ تُرَابُهُ فَبَقِيَ صَلْدًا. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلَّا أَخَذَهَا اللَّهُ بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ أَوْ أَعْظَمَ)) خَرَّجَهُ الْمُوَطَّأُ أَيْضًا. وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وَعْدٌ وَوَعِيدٌ. قولُه تعالى: {وَمَثَلُ الذين يُنْفِقُونَ} إلى قوله: {كَمَثَلِ حَبة} كقولِه : {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ . . . كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ } البقرة: 261. في جميعِ التقاديرِ فلا حاجَة للإعادة. وقرأ الجحدريَّ "كمثلِ حبةٍ" بالحاءِ المهملة والباءِ.قوله: {ابتغآء} فيه وجهان، أحدُهما: أنّه مفعولٌ من أجلِه، وشروطُ النصبِ متوفرةٌ. والثاني: أنّه حالٌ، و{تثبيتاً} عطفٌ عليه بالاعتبارين: أي لأجلِ الابتغاءِ والتثبيتِ، أو مُبتغين مُثَبِّتِين. ومَنَعَ ابنُ عطيَّةَ أنْ يَكونَ "ابتغاء" مفعولاً من أجلِه، قال: لأنّه عَطَفَ عليه "تثبيتاً"، و"تثبيتاً" لا يَصِحَّ أن يَكونَ مفعولاً من أجلِه، لأنَّ الإِنفاقَ لا يكونُ لأجلِ التثبيتِ، وحَكَى عن مكي كونه مفعولًا من أجلِه، قال: "وهو مردودٌ بما بَيَّنَّاه.وهذا الذي رَدَّه لا بُدَّ فيه من تفصيلٍ، وذلك أنَّ قولَه: "وتثبيتاً" إمَّا أنْ يُجْعَلَ مصدراً متعدِّياً أو قاصراً، فإنْ كان قاصراً، أو متعدِّياً وقَدَّرْنا المفعولَ هكذا: وتثبيتاً من أنفسهم الثوابَ على تلك النفقة، فيكونُ تثبيتُ الثواب وتحصيلُه من اللهِ حاملاً لهم على النفقةِ، وحينئذٍ يَصحُّ أَنْ يكونَ "تثبيتاً" مفعولاً من أجلِه، وإنْ قَدَّرْنا المفعولَ غيرَ ذلك، أي: وتثبيتاً من أنفسِهم أعمالَهم بإخلاصِ النِيَّةِ، أو جَعَلْنَا "مِنْ أنفسهم" هو المفعول في المعنى، وأنَّ "مِنْ" بمَعْنَى اللام أي: لأنفسِهم، كما تقولُ: فَعَلْتُه كسراً مِنْ شهوتي، فلا يتّضحُ فيه أنْ يكون مفعولاً من أجلِه. وقدَّرَ أبو البقاءِ المفعولَ المحذوفَ "أعمالَهم بإخلاصِ النيةِ"، وجَوَّز أيضاً أن يكونَ "مِنْ أنفسهم" مفعولاً، وأنْ تكونَ "مِنْ" بمعنى اللام، وكان قَدَّم أولاً أنه يجوزُ فيهما المفعولُ من أجلِه والحالية، وهو غيرُ واضحٍ كما تقدَّم.وتلخَّص أنَّ في "من أنفسهم" قولين، أحدُهما: أنّه مفعولٌ بالتجوُّزِ في الحرفِ، والثاني: أنّه صفةٌ لـ "تثبيتاً"، فهو متعلِّقٌ بمحذوفٍ، وتلخَّص أيضاً أنَّ التثبيتَ يجوزُ أن يكونَ متعدّياً، وكيف يُقَدَّر مفعولُه، وأَن يكونَ قاصراً. فإنْ قيلَ: "تثبيت" مصدرَ ثَبَّتَ، وثَبَّتَ متعدٍّ، فكيفَ يكونُ مصدرُه لازماً. فالجوابُ أنَّ التثبيتَ مصدرُ تَثَبَّتَ فهو واقعٌ موقعَ التثبُّتِ، والمصادرُ تنوبُ عن بعضها. قال تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} المزمل: 8. والأصلُ: "تبتُّلا" ويؤيِّد ذلك قراءةُ مَنْ قرأ: "وَتَثَبُّتاً"، ورُدَّ هذا القولُ بأنَّ ذلكَ لا يكونُ إلّا مع الإِفصاح بالفعلِ المتقدِّم على المصدر، نحوُ الآيةِ، وأمَّا أَنْ يُؤْتى بالمصدرِ من غيرِ نيابةٍ على فعلٍ مذكورٍ فلا يُحْمَل على غيرِ فعلِه الذي هو له في الأصل والصحيح أنَّ ثَبَتَ فعلٌ لازمٌ معناه تمكَّن ورَسَخَ، وثَبَّتَ معدَّى بالتضعيف، ومعناه مَكَّن وحَقَّق. قال ابنُ رواحة: فَثَبَّتَ اللهُ ما أتاك مِنْ حَسَنٍ ....... تثبيتَ عيسى ونصراً كالذي نُصِروافإذا كان التثبيتُ مُسْنَداً إليهم كانت "مِنْ" في موضِع نَصبٍ متعلِّقةً بنفس المصدرِ، وتكونُ للتبعيضِ، مثلُها في "هَزَّ من عِطْفِهِ" و"حَرَّك مِنْ نشاطِه". وإن كان مسنداً في المعنى إلى أنفسهم كانت "مِنْ" أيضاً في موضعِ نصبٍ صفة لتثبيتاً. ومعنى التبعيضُ أنَّ مَنْ بَذَلَ مالَه لوجهِ اللهِ فقد ثَبَّتَ بعضَ نفسه، ومَنْ بَذَلَ روحَه ومالَه معاً فقد ثَبَّت نفسَه كلَّها. والظاهرُ أنَّ نفسَه هي التي تُثَبِّتُه وتَحْمِلُه على الإِنفاق في سبيلِ اللهِ ليس له مُحَرِّكٌ إلَّا هي، لِما اعتقدَتْه من الإِيمان والثواب فيترجَّح أنَّ التثبيتَ مسندٌ في المعنى إلى أنفسِهم.قوله: {بِرَبْوَةٍ} في محلِّ جرٍّ لأنّه صفةٌ لِـ "جَنَّةٍ". والباءُ ظرفيّةٌ بمعنى "في" أي جنةٍ كائنةٍ في ربوةٍ. وقرأ ابنُ عامرٍ وعاصمٌ "رَبْوة" بالفتح، والباقون الضمِّ، والضمَّ لا يكادُ يُسْمَعُ في الجَمعِ إلّا الرُّبا، يَعني فَدَلَّ ذلك على أنَّ المُفرَدَ مضمومُ الفاءِ، نحو بُرْمَة وبُرَم، وصورة وصُوَر. وقرأ ابنُ عبّاسٍ "رِبْوَة" بالكسر، وقرأ الأشهبُ العقيليُّ: "رباوة"، مثل رسالةٍ وقرأ أبو جعفر: "رَبَاوة" مثل كراهةٍ، وكلُّها لغاتٌ فيها.قوله: {أَصَابَهَا وَابِلٌ} هذه الجملةُ فيها أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنّها صفةٌ ثانيةٌ لـ "جنة"، وبُدئ هنا بالوصفِ بالجارِّ والمجرورِ ثمَّ بالجُملةِ، لأنّه الأكثرُ في لسانِهم لقُرْبهِ من المفرد، وبُدئ بالوصفِ الثابتِ المُسْتَقِرِّ وهو كونُها بِرَبْوَةٍ، ثمّ بالعارِضِ وهو إصابةُ الوابلِ. ووصَفَ الصفوانَ، بقولِه: {عَلَيْهِ تُرَابٌ} ثمَّ عَطَفَ على الصفةِ {فأصابها وابلٌ} وهنا لم يَعْطِفُ بل أَخْرَجَ صفةً. والوجهُ الثاني: أنْ تكونَ صفةً لـ "ربوة"، لأنَّ الجنةَ بعضُ الربوة، ويَلْزَمُ مِن وَصْفِ الرَّبوةِ بالإِصابةِ وصفُ الجنَّةِ به. الثالث: أنْ تَكونَ حالاً من الضميرِ المُستَكِنِّ في الجارِّ لوُقوعِهِ صفةً. الرابعُ: أنْ تَكونَ حالاً من "جنَّةٍ"، وجاز ذلك لأنَّ النَكِرةَ قد تَخَصَّصتْ بالوصفِ، ولا بُدَّ من تقديرِ "قد" حينئذٍ، أي: وقد أصابها.قوله: {فَآتَتْ أُكُلَهَا} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أوَّلُها: ـ وهو الأصحُّ ـ أنَّ "آتَتْ" تتعدَّى لاثنين، حُذِفَ أولُهما وهو "صاحبها" أو "أهلَها". والذي حَسَّن حَذفَه أنَّ القصدَ الإخبارُ عَمَّا تُثْمِرُ لا عمَّن تُثْمَرُ له، ولأنَّه مقدَّرٌ في قولِه: "كمثل جنةٍ" أي غارِس جنَّةٍ أو صاحبِ جنَّةٍ، و"أُكُلَها» هو المفعولُ الثاني. و"ضِعْفَيْن" نصبٌ على الحالِ من "أُكُلَها". والثاني: أنَّ "ضِعْفِين" هو المفعول الثاني، وهذا سهوٌ من قائلِه وغَلَطٌ. والثالث: أنَّ "آتَتْ" هنا بمعنى أَخْرَجَت، فهو متعدِّ لِمَفعُولٍ واحدٍ لأنَّ معنى "آتَتْ": أَخْرَجَتْ، وهو من الإِتاء، وهو الرَّيْع ولاَ نَعْلَم ذلك في لسان العرب. ونسبةُ الإِيتاءِ إليها مجازٌ.وقرأ نافع وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو » أُكْلها" بضمِّ الهمزة وسكونِ الكافِ، وهكذا كلُّ ما أُضِيف من هذا إلى مؤنثٍ، إلا أبا عمرو فإنه يُثَقِّل ما أُضيف إلى غيرِ ضميرٍ أو إلى ضميرِ المذكر، والباقون بالتثقيل مطلَقاً. والأَكُلُ بالضم: الشيءُ المأكولُ، وبالفتحِ مصدرٌ، وأُضيف إلى الجنَّةِ لأنَّها مَحَلُّهُ أو سببُه.قولُه: {فَطَلٌّ} الفاءُ جوابُ الشرطِ، ولا بُدَّ من حذفٍ بعدَها لتكمُلَ جملةُ الجوابِ. واختُلِفَ في ذلك على ثلاثة أوجه، فذهَب المُبَرِّدُ إلى أنَّ المحذوفَ خبرٌ، وقوله: "فَطَلٌّ" مبتدأٌ، والتقدير: "فَطَلٌّ يُصيبُها". وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ لأنّها في جوابِ الشرطِ، وهو من جملةِ المُسَوِّغات للابتداء بالنكرةِ، ومِن كلامِهم: إنْ ذَهَبَ غَيْرُ فَعَيْرٌ في الرِّباط. والثاني: أنّه خبرُ مبتدأٍ مُضمَرٍ، أي: فالذي يُصيبها طَلٌّ. والثالث: أنّه فاعلٌ بفعلٍ مضمَرٍ تقديرُه: فيُصيبُها طلٌّ، وهذا أَبْيَنُها. ونظيرُ الآية قولُ امرىء القيس:ألا إنْ لا تَكُنْ إبِلٌ فمِعْزَى .................. كأنَّ قُرونَ جِلَّتِها العِصِيُّفقوله "فَمِعْزى" فيه التقاديرُ الثلاثةُ.قوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قراءةُ الجمهورِ: "تَعْلَمون" خطاباً وهو واضحٌ، فإنّه التفاتٌ من الغَيْبةِ إلى الخطابِ الباعِثِ على فعلِ الإِنفاقِ الخالصِ لوجهِ اللهِ والزاجرِ عن الرياءِ والسُمْعَةِ. وقرأ الزهريُّ بالياء على الغَيْبَة، ويَحْتَمِل وجهين، أحدُهما: أنْ يعودَ على المنفقين، والثاني: أنْ يَكونَ عامّاً فلا يَخُصُّ المنفقين، بل يعودُ على الناسِ أجمعين، ليندرجَ فيهم المنفقونَ اندراجاً أوليًّا. | |
|