وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ
بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا
وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ
وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ
نظروا بعين
الظاهر فاستبعدوا أن يكون طالوتُ مَلِكاً
لأنَّه كان فقيراً لا مالَ له، فبيَّن لهم أنَّ الفضيلةَ باختيارِ الحقِّ، وأنَّه
وإنْ عَدِمَ المالَ فقد زاده اللهُ عِلماً فَفَضَلَكم بعِلْمِه وجِسْمِه.
قَوْلُهُ
تَعَالَى: {وَقالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً} أَيْ
أَجَابَكُمْ إِلَى مَا سَأَلْتُمْ، وَكَانَ طَالُوتُ سَقَّاءً. وَقِيلَ:
دَبَّاغًا. وَقِيلَ: مُكَارِيًا، وَكَانَ عَالِمًا فَلِذَلِكَ رَفَعَهُ اللَّهُ
عَلَى مَا يَأْتِي: وَكَانَ مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ سِبْطِ
النُّبُوَّةِ وَلَا مِنْ سِبْطِ الْمُلْكِ، وَكَانَتِ النُّبُوَّةُ فِي بَنِي
لَاوَى، وَالْمُلْكُ فِي سِبْطِ يَهُوذَا فَلِذَلِكَ أَنْكَرُوا. قَالَ وَهْبُ
بْنُ مُنَبِّهٍ: لَمَّا قَالَ الْمَلَأُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِشَمْوِيلَ بْنِ
بَالَ مَا قَالُوا، سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَلِكًا
وَيَدُلَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: انْظُرْ إِلَى الْقَرَنِ (الجعبة
من جلود) الَّذِي فِيهِ الدُّهْنُ فِي بَيْتِكَ فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْكَ رَجُلٌ
فَنَشَّ الدُّهْنَ الَّذِي فِي الْقَرَنِ، فَهُوَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
فَادْهُنْ رَأْسَهُ مِنْهُ وَمَلِّكْهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَكَانَ طَالُوتُ
دَبَّاغًا فَخَرَجَ فِي ابْتِغَاءِ دَابَّةٍ أَضَلَّهَا، فَقَصَدَ شَمْوِيلَ عَسَى
أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فِي أَمْرِ الدَّابَّةِ أَوْ يَجِدَ عِنْدَهُ فَرَجًا، فَنَشَّ
الدُّهْنَ ـ عَلَى مَا زَعَمُوا ـ فَقَامَ إِلَيْهِ شَمْوِيلُ فَأَخَذَهُ وَدَهَنَ
مِنْهُ رَأْسَ طَالُوتَ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي
أَمَرَنِي اللَّهُ تَعَالَى بِتَقْدِيمِهِ، ثُمَّ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ
طالُوتَ مَلِكاً}. وَطَالُوتُ وَجَالُوتُ اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ
مُعَرَّبَانِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْصَرِفَا، وَكَذَلِكَ دَاوُدُ، وَالْجَمْعُ
طَوَالِيتُ وَجَوَالِيتُ وَدَوَاوِيدُ، وَلَوْ سَمَّيْتَ رَجُلًا بِطَاوُسٍ
وَرَاقُودٍ (الدن الكبير) لَصَرَفْتَ وإن كان أَعْجَمِيَّيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ
هَذَا وَالْأَوَّلِ أَنَّكَ تَقُولُ: الطَّاوُسُ، فَتُدْخِلُ الْأَلِفَ وَاللَّامَ
فَيُمْكِنُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ هَذَا فِي ذَاكَ. قَوْلُهُ
تَعَالَى: {أَنَّى يَكُونُ
لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا} أَيْ كَيْفَ يَمْلِكُنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ
بِالْمُلْكِ مِنْهُ؟. جَرَوْا عَلَى سُنَّتِهِمْ فِي تَعْنِيتِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ
وَحَيْدِهِمْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا: "أَنَّى" أَيْ مِنْ
أَيِّ جِهَةٍ، فَـ "أَنَّى" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ،
وَنَحْنُ مِنْ سِبْطِ الْمُلُوكُ وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ فَقِيرٌ،
فَتَرَكُوا السَّبَبَ الْأَقْوَى وَهُوَ قَدَرُ اللَّهِ تَعَالَى وَقَضَاؤُهُ
السَّابِقُ حَتَّى احْتَجَّ عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ}
أَيِ اخْتَارَهُ وَهُوَ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ، وَبَيَّنَ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ
تَعْلِيلَ اصْطِفَاءِ طَالُوتَ، وَهُوَ بَسْطَتُهُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ
مِلَاكُ الْإِنْسَانِ، وَالْجِسْمُ الَّذِي هُوَ مُعِينُهُ فِي الْحَرْبِ
وَعُدَّتُهُ عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَتَضَمَّنَتْ بَيَانَ صِفَةِ الْإِمَامِ
وَأَحْوَالِ الْإِمَامَةِ، وَأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ
وَالْقُوَّةِ لَا بِالنَّسَبِ، فَلَا حَظَّ لِلنَّسَبِ فِيهَا مَعَ الْعِلْمِ
وَفَضَائِلِ النَّفْسِ وَأَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ اخْتَارَهُ عَلَيْهِمْ لِعِلْمِهِ وَقُوَّتِهِ، وَإِنْ
كَانُوا أَشْرَفَ مُنْتَسَبًا. وَقَدْ مَضَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ
الْإِمَامَةِ وَشُرُوطِهَا مَا يَكْفِي وَيُغْنِي. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ
فِيهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ طَالُوتُ يَوْمَئِذٍ أَعْلَمَ رَجُلٍ فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَجْمَلَهُ وَأَتَمَّهُ، وَزِيَادَةُ الْجِسْمِ مِمَّا
يُهِيبُ الْعَدُوَّ. وَقِيلَ: سُمِّيَ طَالُوتُ لِطُولِهِ. وَقِيلَ: زِيَادَةُ
الْجِسْمِ كَانَتْ بِكَثْرَةِ مَعَانِي الْخَيْرِ وَالشَّجَاعَةِ، وَلَمْ يُرِدْ عِظَمَ
الْجِسْمِ، أَلَمْ تَرَ إِلَى قَوْلِ العباس بن مرداس:
تَرَى
الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيهِ .................. وَفِي أَثْوَابِهِ أَسَدٌ
هَصُورُ
وَيُعْجِبُكَ
الطَّرِيرُ فَتَبْتَلِيهِ ................. فَيُخْلِفُ ظَنَّكَ الرَّجُلُ
الطَّرِيرُ
وَقَدْ
عَظُمَ الْبَعِيرُ بِغَيْرِ لُبٍّ .................. فَلَمْ يستغن بالعظم البعير
قُلْتُ:
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأَزْوَاجِهِ: ((أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا)). فَكُنَّ
يَتَطَاوَلْنَ، فَكَانَتْ زَيْنَبُ أَوَّلَهُنَّ مَوْتًا، لِأَنَّهَا كَانَتْ
تَعْمَلُ بِيَدِهَا وَتَتَصَدَّقُ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ بَعْضُ
الْمُتَأَوِّلِينَ: الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ عِلْمُ الْحَرْبِ، وَهَذَا تَخْصِيصُ
الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَقَدْ قِيلَ: زِيَادَةُ الْعِلْمِ بِأَنْ
أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ طَالُوتُ نَبِيًّا، وَسَيَأْتِي.
قَوْلُهُ
تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُؤْتِي
مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ} ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَوِّلِينَ إِلَى أَنَّ هَذَا
مِنْ قَوْلِ الله عز وجل لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: هُوَ
مِنْ قَوْلِ شَمْوِيلَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ. قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ لِمَا عَلِمَ مِنْ
تَعَنُّتِهِمْ وَجِدَالِهِمْ فِي الْحُجَجِ، فَأَرَادَ أَنْ يُتْمِمَ كَلَامَهُ
بِالْقَطْعِيِّ الَّذِي لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ
يَشاءُ}. وَإِضَافَةُ مُلْكِ الدُّنْيَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِضَافَةُ
مَمْلُوكٍ إِلَى مَلِكٍ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّغْبِيطِ
وَالتَّنْبِيهِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ مِنْهُمْ: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ}. وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونُوا سَأَلُوهُ الدَّلَالَةَ عَلَى صِدْقِهِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ
طالُوتَ مَلِكاً}. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ بِمَسَاقِ الْآيَةِ، وَالثَّانِي
أَشْبَهُ بِأَخْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الذَّمِيمَةِ.
قوله تعالى: {طَالُوتَ مَلِكاً} مَلِكاً: حال من "طالوت" فالعاملُ في
الحالِ "بَعَثَ".
و"طالوتُ"
فيه قولان، أظهرهُما: أنَّه اسمٌ أعجميٌّ فلذلك لم ينصَرِفْ للعِلَّتيْن، أعني العَلَميَّةَ
والعُجْمَةَ الشخصيَّةَ. والثاني: أنّه مشتَقٌّ من الطُول، ووزنه فَعَلوت كرَهَبوت
ورَحَموت، وأصلُه طَوَلُوت، فقُلِبت الواوُ ألفاً لتحركها وانفتاحِ ما قبلها،
وكأنَّ الحاملَ لهذا القائلِ بهذا القولِ ما روي في القصةِ أنَّه كان أطولَ رجلٍ
في زمانه، إلّا أنَّ هذا القولَ مَردودٌ بأنَّه لو كان مشتقًّا مِنَ الطولِ لكان يَنبغي
أنْ يَنصرفَ، إذ ليس فيه إلَّا العلميَّةُ. وقد أجابوا عن هذا بأنه وإنْ لم يكنْ
أعجميًّا ولكنَّه شبيهٌ بالأعجميِّ، من حيث إنَّه ليس في أَبنِيَةِ العرب ما هو
على هذه الصيغة، وهذا كما قالوا في حَمْدُون وسراويل ويعقوب وإسحق عند مَنْ جعلهما
مِنْ سَحَقَ وعَقِب.
قوله: {أنى يَكُونُ لَهُ الملكُ} أنَّى: فيه وجهان، أحدُهما:
أنّها بمعنى كيف، وهذا هو الصحيحُ. والثاني: أنّها بمعنى مِنْ أين، وليس المعنى
عليه. ومحلُّها النصبُ على الحالِ، و"يكون" فيها وجهان، أحدُهما: أنها تامةٌ، و"المُلكُ" فاعلٌ بها و"له" متعلقٌ بها، و"علينا" متعلِّقٌ بالمُلْكِ،
تقول: "فلان مَلَك على بني فلان أمرَهم" فتتعدَّى هذه المادةُ بـ "على"، ويَجوزُ أنْ تتعلَّقَ
بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من "المُلْك"
و"يكون" هي
العاملةُ في "أنَّى"،
ولا يجوزُ أنْ يَعملَ فيها أحدُ الظرفين، أعني "له" و"علينا" لأنّه عاملٌ معنويٌّ والعاملُ المَعنويُّ
لا تتقدَّمُ عليه الحالُ ـ على المشهور. والثاني: أنَّها ناقصةٌ و"له" الخبر، و"علينا" متعلِّقٌ: إمَّا
بما تَعلَّقَ به هذا الخبرُ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من "المُلك" كما تقدَّم،
والعاملُ في هذه الحالِ "يكون"
عند مَنْ يُجيز في "كان" الناقصةِ أنْ تَعمَلَ في الظرفِ وشِبْهِهِ،
وإمَّا بنفسِ المُلْكِ كما تقدَّمَ تقريرُه، والعاملُ في "أنَّى" ما تَعَلَّقَ به
الخبرُ أيضاً، ويَجوزُ أنْ يكونَ "علينا" هو الخبر، و"له" نَصْبٌ على الحال، والعاملُ فيه
الاستقرارُ المتعلِّقُ به الخبرُ، أو"يكون" عند مَنْ يُجيز ذلك في الناقصة. ولم أرَ مَنْ جَوَّز
أن تكونَ "أنى"
في محلِّ نَصْبٍ خبراً لـ "يكون"
بمعنى: "كيف يكون الملك علينا له" ولو قِيل به لم يَمتنِعْ معنىً ولا صِناعةً.
قوله: {وَنَحْنُ أَحَقُّ} جملةٌ
حاليةٌ، و"بالمُلْك"
و"منه" كلاهُما
متعلِّقٌ بـ "أحقُّ".
قولُه: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً} هذه
الجملةُ الفعليَّةُ عطفٌ على الاسْميَّةِ قبلَها، فهي في محلِّ نَصبٍ على الحالِ،
ودَخَلَتِ الواوُ على المُضارِعِ لكونِه مَنفيًّا و"سعةً" مفعولٌ ثانٍ لِيُؤْتَ، والأولُ قَامَ
مقامَ الفاعلِ. و"سَعَةً"
وزنُها "عَلَةٌ" بحذفِ الفاءِ وأصلُها "وُسْعَةٌ" وإنَّما
حُذِفَتِ الفاءُ في المصدرِ حَمْلاً على المُضارِعِ، وإنّما حُذِفَتْ في المُضارعِ
لوُقوعِها بين ياءٍ ـ وهي حرفُ المُضارعة ـ وكسرةٍ مقدَّرَةٍ، وذلك أنَّ "وَسِع"
مثلُ "وَثِق"، فحقُّ مضارعهِ أنْ يَجيءَ على يَفْعِل بكسرِ العيْنِ، وإنَّما
مَنَعَ ذلك في "يَسَعَ" كونُ لامِهِ حَرْفُ حَلْقٍ فَفُتِحَ عينُ مُضارعهِ
لذلك، وإنْ كان أصلُها الكسرَ، فَمِنْ ثَمَّ قلنا: بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرةٍ،
والدليلُ على ذلك أنَّهم قالوا: وَجِلَ يَوْجَلُ فلم يَحْذفوها لمَّا كانت الفتحةُ
أصليةً غيرَ
عَارِضةً، بخلافِ فتحةِ "يَسَع"
و"يَهَب" وبابِهما.
فإن قيل: قد
رأيناهم يَحْذِفُون هذه الواوَ وإنْ لم تَقَعْ بين ياءٍ وكسرةٍ، وذلك إذا كان حرفُ
المُضارعةِ همزةً نحو: "أَعِدُ" أو تاءً نحو: "تَعِد" أو
نوناً نحو: "نَعِد"، وكذلك في الأمرِ والمَصدرِ نحو: "عِدْ عِدَةً
حسَنَةً" فالجوابُ أنَّ ذلك بالحَمْلِ على المُضارِعِ مع الياءَ طَرْداً
لِلْبَابِ، كما تقدَّمَ لنا في حَذْفِ همزةِ أَفْعَلَ إذا صار مُضارِعاً لأجلِ
همزةِ المُتَكلِّمِ ثمَّ حُمِلَ باقي البابِ عليه.
وفُتِحَتْ
سينُ "السَّعة"
لَمَّا فُتِحَتْ في المُضارعِ لأجلِ حرفِ الحَلْقِ، كما كُسِرت عينُ "عِدَة"
لَمَّا كُسِرَت في "يَعِد" إلّا أنّه يُشْكِلُ على هذا: وَهَبَ يَهَبُ
هِبة، فإنَّهم كَسَروا الهاءَ في المَصدرِ وإنْ كانت مفتوحةً في المُضارعِ لأجْلِ
أنَّ العينَ حرفُ حلقٍ، فلا فرقَ بين "يَهَب" و"يَسَع" في
كونِ الفتحةِ عارضةً والكسرةِ مقدرةً، ومع ذلك فالهاءُ مكسورةٌ في "هِبَة"،
وكان مِنْ حَقِّها الفتحُ لفتحِها في المُضارع ك "سَعَة".
وقولُهُ: {من المال} فيه وجهان،
أحدُهما: أنَّه متعلقٌ بـ "يُؤْتَ".
والثاني: أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنَّه صفةٌ لِـ "سَعَة"، أي: سَعَةً كائنةً من المالِ.
قوله: {فِي العلم} فيه وجهان،
أحدُهما: أنَّه متعلِّقٌ بـ "بَسْطَة" كقولِك: "بَسَطْتُ له في كذا". والثاني:
أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنَّه صِفَةٌ لـ "بَسْطَةً" أي: بَسْطَةً مستقرةً أو كائنة.
و"واسعٌ"
فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه على النَسَبِ أي: ذو سَعَةِ رحمةٍ، كقولهم: "لابِنٌ"
و"تامرٌ" أي: صاحبُ تمرٍ ولبنٍ. والثاني: أنّه جاءَ على حذفِ الزوائدِ
من أَوْسَع، وأصلُه مُوْسِع. وهذه العبارةُ إنّما يتداولُها النَحْويُّون في المَصادرِ
فيقولون: مصدر على حذفِ الزوائدِ. والثالث: أنَّه اسمُ فاعلٍ من "وَسِع"
ثلاثياً. والتقديرُ على هذا: واسعُ الحلم، لأنّك تقولُ وَسِعَ حلمُه.