عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية:56 الخميس سبتمبر 27, 2012 2:37 pm | |
| ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) {ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} بسبب الصاعقة، وكان ذلك بدعاء موسى ـ عليه السلام ـ ومناشدتِه ربَّه بعد أن أفاق، ففي بعض الآثار أنهم لمّا ماتوا لم يَزلْ موسى يُناشدُ ربَّه في إِحيائهم ويقول: يا ربِّ إنَّ بَني إسرائيلَ يقولون قتلتَ خِيارَنا، حتّى أَحياهُمُ اللهُ تعالى جميعاً، رَجَلاً بعدَ رجلٍ يَنظُرُ بعضَهم إلى بعضٍ كيف يَحيوْن، والموتُ ـ هنا ـ ظاهرٌ في مفارقةِ الروحِ الجَسَدَ، وقَيَّدَ البعثَ بِه لأنَّه قد يكون عن نومٍ كما هو في شأنِ أَصحابِ الكهفِ، وقد يكون بمعنى إرسالِ الشخصِ وهو في القرآنِ كثيرٌ ومِنَ الناسِ مَنْ قال: كان هذا الموتُ غَشَيانًا وهُمُودًا لا موتًا حقيقةً كما في قوله تعالى: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ} سورة إبراهيم: 7 1. ومنهم مَنْ حَمَلَ الموتَ على الجَهلِ مَجازاً كما في قوله ـ تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه} الأنعام: 122. وقد شاع ذلك نثراً ونظماً، ومنه قول عبدِ اللهِ البَطلَيوسي النَّحْوِيّ:أَخُو الْعِلْمِ حَيٌّ خَالِدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ ........... وَأَوْصَالُهُ تَحْتَ التُّرَابِ رَمِيمُ وَذُو الْجَهْلِ مَيْتٌ وَهُوَ مَاشٍ عَلَى الثَّرَى ... يُظَنُّ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَهُوَ عَدِيمُ ومعنى البعث ـ على هذا ـ التعليمُ أي ثُمَّ عَلَّمْناكُمُ بعد جَهلِكم.قولُه: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أيْ نعمةَ اللهِ تعالى عليكم بالإحْياءِ بعد الموتِ أوْ نعمَتِه ـ سبحانه ـ بعدما كَفَرْتُموها إذْ رأيتمْ بأسَ اللهِ ـ تعالى ـ في رَمْيِكم بالصاعقةِ وإِذاقَتِكمُ المَوتَ وتَكليفِ مَنْ أُعيدَ بعدَ الموتِ ممّا ذَهَبَ إليه جَماعةٌ لِئَلّا يَخلُوَ بالغٌ عاقلٌ مِنْ تعبُّدٍ في هذه الدارِ بعدَ بِعثَةِ المُرسَلين، وفي بعضِ الآثار أنَّه لمّا أَحياهمُ اللهُ تعالى سَألوا أَنْ يَبعثَهُم أنبياءَ ففعل، فمُتعلَّقُ الشُّكْرِ حينئذٍ ـ على ما قيل ـ هذا البعثُ وهو بعيدٌ، وأَبعدُ منه جَعْلُ مُتَعَلَّقِهِ إنزالَ التوراةِ التي فيها ذكرُ توبتِهِ عليهم وتَفصيلُ شرائعِهم بعدَ أنْ لم يَكنْ لهم شَرائعُ.وأصلُ القصَّةِ أنَّ موسى ـ عليه السلامُ ـ لمَّا رَجَعَ مِنَ الطورِ إلى قومِهِ فرأى ما هُم عليه مِن عِبادةِ العِجلِ، وقال لأخيه والسامِرِيِّ ما قال، وأحرقَ العِجْلَ وألقاه في البَحرِ، ونَدِمَ القوم على ما فعلوا، وقالوا لئن لم يرحمْنا ربُّنا ويَغفرْ لنا لَنكونَنَّ من الخاسرين أمر اللهُ موسى أنْ يأتيَه في ناسٍ مِن بني إسرائيلَ يَعتذرون إليه من عِبادةِ العجلِ، فاختار موسى سبعين مِن خيارِ قومِه، فلمّا خَرَجوا إلى الطورِ قالوا لموسى: سَلْ ربَّنا حتّى يُسْمِعَنا كلامَه، فسأل موسى ـ عليه السلامُ ـ ذلك، فأجابه اللهُ. ولما دَنا مِن الجبلِ وقَعَ عليه عَمودٌ من الغَمامِ وتَغشّى الجبلَ كلَّه، ودنا ذلك الغمامُ من موسى حتّى دخلَ فيه، وقال للقوم ادخلوا، فكلَّمَ اللهُ موسى يأمره وينهاه، وكلّما كلَّمه الله تعالى أوقع على جبهتِه نورًا ساطعًا لا يستطيع أحدٌ من السبعين النظرَ إليه، وسمِعوا كلامَه ـ تعالى ـ مع موسى، فعند ذلك طمِعوا فى الرؤيةِ وقالوا ما قالوا، فأخذتهمُ الصاعقةُ فخرّوا صَعِقينَ مَيِّتين يومًا وليلةً، فلمّا ماتوا جميعًا جعل موسى يَبكي ويَتضرَّعُ رافعًا يديه إلى السماء يدعو ويقول: يا آلهي اخترتُ من بني اسرائيلَ سبعين رجلًا ليَكونوا شُهودي بقَبولِ توبتِهم، فماذا أقول لهم إذا أتيتُهم وقد أهلكتَ خِيارَهم؟ لو شئتَ أهلكتَهم معَ أصحابِ العجل، أتُهْلِكُنا بما فعلَ السُّفهاءُ منَّا؟ فلَمْ يَزَلْ يُناشِدُ ربَّه حتّى أحياهم اللهُ ورَدَّ إليهم أرواحَهم وطلَبَ توبةَ بني إسرائيلَ مِن عبادةِ العِجْلِ، فقالَ لا إلّا أن يَقتُلوا أنفسَهم. قالوا إنَّ موسى ـ عليه السلامُ ـ سأل ربّه الرؤيةَ في المرَّةِ الأولى في الطورِ ولم يَمُتْ لأنَّ صَعْقَتَه لم تَكنْ موتًا ولكنْ غَشْيَةً بدليلِ قولِهِ تعالى: {فلمّا أفاق} وسألَ قومُه في المرَّةِ الثانيةِ حين خَرجوا للاعتِذارِ وماتوا، وذلك لأنّ سؤالَ موسى كان اشْتِياقًا وافتِقارًا، وسُؤالُ قومِه كان تكذيبًا واجْتِراءً وتعنُّتًا، فانَّهم ظنّوا أنّه ـ تعالى ـ يُشبِه الأجسامَ وطلَبوا رؤيتَه رؤية الأجسام وهي مُحالٌ. وليس فى الآية دليلٌ على نفي الرؤية بلْ فيها إثباتُها وذلك أنَّ موسى ـ عليه السلام ـ لمّا سألَه السبعون لم ينْهَهُم عن ذلك. وكذلك سألَ هو ربَّه الرؤيةَ فلم يَنْهَهُ عن ذلك بل قال {فإن اسْتَقَرَّ مَكانَه فسوفَ تَراني}.قال بعض العلماءِ إنّ للحكمة في أنَّ اللهَ تعالى لا يُرى في الدُنيا وجوه: الأوَّلُ أنَّ الدنيا دارُ أعدائه لأنَّ الدنيا جنَّةُ الكافر. الثاني: لو رآه المؤمنُ لقالَ الكافرُ لو رأيتُه لعَبَدْتُه ولو رأوه جميعًا لم يَكن لأحدِهما مزية على الآخر. الثالثُ: أنَّ المَحَبَّةَ على غَيبٍ ليستْ كالمَحَبَّةِ على عيْنٍ. الرابعُ: أنَّ الدنيا مَحَلُّ المَعيشةِ، ولو رآه الخَلْقُ لاشتَغلوا عن معائشِهمْ فتَعَطَّلتْ. الخامسُ: أنّه جعلَها بالبَصيرةِ دون البَصَرِ ليَرى الملائكةُ صفاءَ قلوبِ المؤمنين. السادس: لِيُقدِّرَ قدْرَها إذْ كلُّ ممنوعٍ عزيزٌ. السابع: إنّما منعَها رحمةً بالعِبادِ لِما جُبِلُوا عليه في هذه الدارِ مِن الغِيرَةِ إذ لو رآه أحدٌ لتصدَّع قلبُه مِن رُؤيَةِ غيرِه إيّاهُ كما تصدّعَ الجبلُ غِيرَةً مِن أنْ يَرآهُ موسى. ثامناً: إنَّ اللهَ جَهَّزَ بصرَ الإنسان لينظر إلى المخلوقات الماديَّةِ وحسب، فلا يمكن لها أن ترى ما وراء المادةِ. تاسعاً: لو كانت رؤيةُ الله تبارك وتعالى متاحة في الدنيا لما كان للإيمان به في الغيب مزيةٌ يثاب عليها المؤمن في الآخرة. عاشراً وأخيراً: لو رأى الناس ربهم لم يستطيعوا عصيانه إذ لا معصية إلا من غفلةٍ عن الله تبارك وتعالى وبالتالي انتفت الحكمة من خلق الخلق {هو الذي خلق الموتَ والحيات ليبلُوكم أيكم أحسن عملًا} صدق الله العظيم. وقد اسْتَدَلَّ المُعتَزِلَةُ وطَوائفُ مِن المُبْتَدِعَةِ بهذه الآيةِ على استِحالةِ رؤيةِ الباري ـ سبحانَه وتعالى ـ لأنّها لو كانت مُمكِنةً لما أَخَذتْهمُ الصاعقةُ بِطَلَبِها، والجوابُ أنَّ أخذَ الصاعقةِ لهم ليس لمجرَّدِ الطَلَبِ ولكنْ لِما انْضَمَّ إليه مِنَ التَعَنُّتِ وفَرْطِ العِنادِ كما يَدُلُّ عليه مَساقُ الكَلامِ حيثُ عَلَّقوا الإيمانَ بها، ويَجوزُ أيْضاً أنْ يكونَ ذلك الأخذُ لِكُفرِهم بإعطاءِ اللهِ تعالى التَوراةَ لِمُوسى ـ عليه السلام ـ وكلامِه إيّاه أو نُبُوَّتِه لا لِطَلَبِهم، وقد يُقالُ: إنّهم لمّا لمْ يَكونوا مُتَأَهِّلين لِرؤيَةِ الحَقِّ في هذه النَّشْأةِ كان طلبُهم لها ظُلْماً فعُوقِبوا بما عُوقِبوا، وليس في ذلك دليلٌ على امْتِناعِها مُطْلَقاً في الدُّنيا والآخرة. | |
|