وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
أسْكَنَه الجنّةَ ولكنْ أَثبتَ مع دخوله شَجَرَةَ المِحنة، ولا مكانَ أفضلُ من الجنّةِ، ويُقالُ لمّا قال له: {اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً} كان فيه إشارةٌ إلى أنّ الذي يَليقُ بالخَلْق السُكونُ إلى الخَلْقِ، والقيامُ باسْتجلابِ الحَظِّ، وآدمُ عليه السلامُ وَحْدَه كان بكلِّ خيرٍ وكلِّ عافيةٍ، فلمَّا جاءَ الشكلُ والزوجُ ظَهَرتْ أَنيابُ الفِتنةِ، وانْفتَحَ بابُ المِحنةِ؛ فحين سَاكَنَ حوّاءَ أَطاعَها فيما أَشارتْ عليْه، فوقَعَ فيما وقَعَ، ولقد قيل:
داءٌ قديمٌ في بني آدم .......................... صبوةُ إنسان بإنسان
وكلُّ ما مُنِعَ منه ابنُ آدمَ توفَّرت دواعيه إلى الاقترابِ منه. فهذا آدمُ عليه السلامُ أُبيحت لهُ الجنَّةُ بجُملتِها ونُهِيَ عن شَجَرَةٍ واحدةٍ، فليس في المنقول أنّه مدَّ يَدَه إلى شيءٍ من جُملةِ ما أُبيحَ، وكان عِيلَ
صبرُه حتى واقع ما نُهِيَ عنه، هكذا صفة الخَلْق. وإنما نبَّه على عاقبةِ دخولِ آدمَ الجنَّةَ مِن ارتكابِهِ ما يُوجِبُ خروجَه منها حين قال: {إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً} فإذا أَخبَرَ أنَّه جاعلُه خليفتَه في الأرضِ كيف يُمكنُ بقاؤهُ في الجَنَّةِ؟ ويُقالُ أنَّ آدم عليه السلامُ قد أصبح محمودَ الملائكةِ، مَسْجودَ الكافَّةِ، على رأسِه تاجُ الوَصْلَةِ، وعلى وَسطه نطاق القُرَبة، وفي جِيدِه عِقْدُ الزُلفةِ، لا أحدَ فوقَه في الرُّتْبَةِ، ولا شخصَ مثلَه في الرِّفعةِ، يَتوالى عليه النِداءُ في كلِّ لحظةٍ يا آدمُ يا آدمُ. فلَم يُمْسِ حتى نُزِعَ عنه لِباسُهُ، وسُلِبَ اسْتئناسُه، والملائكةُ يَدفعونَه بعُنفٍ أَنْ اخْرُجْ بِغيرِ مُكْثٍ:
وأَمِنْتُهُ فأتاحَ لي مِنْ مَأْمني ............... مَكْرًا، كَذا مَنْ يأمَنُ الأَحبابا
ولمّا تاه آدمُ عليه السلامُ في مِشيَتِهِ لمْ يَلْبَثْ إلّا ساعةً حتّى خَرَجَ بألفِ ألفِ عِتابٍ، وكان كما قيل:
لله دَرُّهُمُ من فِتْيةٍ بَكَرُوا ............... مثلَ الملوكِ وراحوا كالمساكين
نَهاهُ عن قُرْبِ الشَجَرَةِ بأمرِهِ، وأَلقاهُ فيما نَهاهُ عنه بِقَهْرِهِ، ولَبَّسَ عليه ما أخفاه فيهِ مِنْ سِرِّه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ} لَا خِلَافَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَ إِبْلِيسَ عِنْدَ كُفْرِهِ وَأَبْعَدَهُ عَنِ الْجَنَّةِ، وَبَعْدَ إِخْرَاجِهِ قَالَ لِآدَمَ: اسْكُنْ، أَيْ لَازِمِ الْإِقَامَةَ وَاتَّخِذْهَا مَسْكَنًا، وَهُوَ مَحَلُّ السُّكُونِ. وَسَكَنَ إِلَيْهِ يَسْكُنُ سُكُونًا. وَالسَّكَنُ: النَّارُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
............................................قَدْ قُوِّمَتْ بِسَكَنٍ وَأَدْهَانِ
وَالسَّكَنِ: كُلُّ مَا سُكِنَ إِلَيْهِ. وَالسِّكِّينُ مَعْرُوفٌ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يُسَكِّنُ حَرَكَةَ الْمَذْبُوحِ، وَمِنْهُ الْمِسْكِينُ لِقِلَّةِ تَصَرُّفِهِ وَحَرَكَتِهِ. وَسُكَّانُ (ذَنَبُها الذي بِه تُعَدَّلُ) السَّفِينَةِ عَرَبِيُّ، لِأَنَّهُ يُسَكِّنُهَا عَنَ الاضطراب. وفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "اسْكُنْ" تَنْبِيهٌ عَلَى الْخُرُوجِ، لِأَنَّ السُّكْنَى لَا تَكُونُ مِلْكًا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: السُّكْنَى تَكُونُ إِلَى مُدَّةٍ ثُمَّ تَنْقَطِعُ، فَدُخُولُهُمَا فِي الْجَنَّةِ كَانَ دُخُولَ سُكْنَى لَا دُخُولَ إِقَامَةٍ. وَفي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ مَنْ أَسْكَنَ رَجُلًا مَسْكَنًا لَهُ إِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِالسُّكْنَى، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِسْكَانِ. وَنَحْوٌ مِنَ السُّكْنَى الْعُمْرَى، وَهُوَ إِسْكَانُكَ الرَّجُلَ فِي دَارٍ لَكَ مُدَّةَ عُمُرِكَ أَوْ عُمُرِهِ. وَمِثْلُهُ الرُّقْبَى: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ مُتَّ قَبْلِي رَجَعَتْ إِلَيَّ وَإِنْ مُتَّ قَبْلَكَ فَهِيَ لَكَ، وَهِيَ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ. وَالْمُرَاقَبَةُ: أَنْ يَرْقُبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْتَ صَاحِبِهِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي إِجَازَتِهَا وَمَنْعِهَا، فَأَجَازَهَا أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ، وَكَأَنَّهَا وَصِيَّةٌ عِنْدَهُمْ. وَمَنَعَهَا مَالِكٌ وَالْكُوفِيُّونَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقْصِدُ إِلَى عِوَضٍ لَا يَدْرِي هَلْ يَحْصُلُ لَهُ، وَيَتَمَنَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْتَ صَاحِبِهِ. وَفِي الْبَابِ حَدِيثَانِ أَيْضًا بِالْإِجَازَةِ وَالْمَنْعِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، الْأَوَّلُ رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُعْمِرَهَا وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُرْقِبَهَا)). فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى فِي الْحُكْمِ. الثَّانِي رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا رُقْبَى فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا فَهُوَ له حياتَه ومماتَه)). قال: والرُّقْبى أنْ يَقُولَ هُوَ لِلْآخَرِ: مِنِّي وَمِنْكَ مَوْتًا. فَقَوْلُهُ: ((لَا رُقْبَى)) نَهْيٌ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ، وَقَوْلُهُ: ((مَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ)) يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَأَخْرَجَهُمَا أَيْضًا النَّسَائِيُّ. وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى سَوَاءٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُعْمِرَهَا وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُرْقِبَهَا). فَقَدْ صَحَّحَ الْحَدِيثَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى سَوَاءٌ. وَقَالَ طَاوُوسٌ: مَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا فَهُوَ سَبِيلُ الْمِيرَاثِ. وَالْإِفْقَارُ مَأْخُوذٌ مِنْ فَقَارِ الظَّهْرِ. أَفْقَرْتُكَ نَاقَتِي: أَعَرْتُكَ فَقَارَهَا لِتَرْكَبَهَا. وَأَفْقَرَكَ الصَّيْدُ إِذَا أَمْكَنَكَ مِنْ فَقَارِهِ حَتَّى تَرْمِيَهُ. وَمِثْلُهُ الْإِخْبَالُ، يُقَالُ: أَخْبَلْتُ فُلَانًا إِذَا أَعَرْتُهُ نَاقَةً يَرْكَبُهَا أَوْ فَرَسًا يَغْزُو عَلَيْهِ، قَالَ زُهَيْرٌ:
هُنَالِكَ إِنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا..وَإِنْ يُسْأَلُوا يُعْطُوا وَإِنْ يَيْسِرُوا يَغْلُوا
وَالْمِنْحَةُ: الْعَطِيَّةُ. وَالْمِنْحَةُ: مِنْحَةُ اللَّبَنِ. وَالْمَنِيحَةُ: النَّاقَةُ أَوِ الشَّاةُ يُعْطِيهَا الرَّجُلُ آخَرَ يَحْتَلِبُهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ)). رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ صَحِيحٌ. وَالْإِطْرَاقُ: إِعَارَةُ الْفَحْلِ، اسْتَطْرَقَ فُلَانٌ فُلَانًا فَحْلَهُ: إِذَا طَلَبَهُ لِيَضْرِبَ فِي إِبِلِهِ، فَأَطْرَقَهُ إِيَّاهُ، وَيُقَالُ: أَطْرِقْنِي فَحْلَكَ أَيْ أَعِرْنِي فَحْلَكَ لِيَضْرِبَ فِي إِبِلِي. وَطَرَقَ الْفَحْلُ النَّاقَةَ يَطْرُقُ طُرُوقًا أَيْ قَعَا عَلَيْهَا. وَطَرُوقَةُ الْفَحْلِ: أُنْثَاهُ، يُقَالُ: نَاقَةٌ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ لِلَّتِي بَلَغَتْ أَنْ يَضْرِبَهَا الْفَحْلُ.
{أَنْتَ وَزَوْجُكَ} أَنْتَ: تَأْكِيدٌ لِلْمُضْمَرِ الَّذِي فِي الْفِعْلِ، وَمِثْلُهُ "فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ". وَلَا يَجُوزُ اسْكُنْ وَزَوْجُكَ، وَلَا اذْهَبْ وَرَبُّكَ، إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، كَمَا قَالَ عمر بن أبي ربيعة:
قُلْتُ إِذْ أَقْبَلَتْ وَزُهْرٌ تَهَادَى ............... كَنِعَاجِ الْمَلَا تَعَسَّفْنَ رملا
زُهْر:جمع زهراء، وهي البيضاء المُشرِقة. والتهادي: المشي الرويد الساكن. والنِعاجُ: بَقَرُ الوحشِ. و"تعسَّفن": ركبن. فَـ "زُهْرٌ" مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُضْمَرِ فِي "أَقْبَلَتْ" وَلَمْ يُؤَكِّدْ ذَلِكَ الْمُضْمَرَ. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ عَلَى بُعْدٍ: قُمْ وَزَيْدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَزَوْجُكَ" لُغَةُ الْقُرْآنِ "زَوْجٌ" بِغَيْرِ هَاءٍ، وقد تقدَّمَ القول فيه. وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ:" زَوْجَةٌ" فعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَ إِحْدَى نِسَائِهِ فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَدَعَاهُ فَجَاءَ فَقَالَ: ((يَا فُلَانُ هَذِهِ زَوْجَتِي فُلَانَةُ)): فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ كُنْتُ أَظُنُّ بِهِ فَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ)). ويستفاد منه أن لا يتجنب المرء مَظانَّ التهم. وَزَوْجُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هِيَ حَوَّاءُ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَمَّاهَا بِذَلِكَ.
عن ابنِ مسعودٍ وابنِ عبّاسٍ وناسٍ مِنَ الصَحابةِ رضيَ اللهُ تعالى عنهم أنَّ اللهَ تَعالى لمّا أَخرجَ إبليسَ مِنَ الجَنّةِ وأَسْكَنَها آدمَ، بقي فيها وحدَهُ، وما كان معَه مَنْ يَستَأنِسُ بِه، فألقى اللهُ تعالى عليه النّومَ، ثمَّ أخَذَ ضِلْعًا مِن جانِبِه الأَيْسَر ووضعَ مَكانَه لَحْمًا، وخَلَقَ حَوّاءَ منه مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحِسَّ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ، وَلَوْ أَلِمَ بِذَلِكَ لَمْ يَعْطِفْ رَجُلٌ عَلَى امْرَأَتِهِ. فلمّا استيْقَظَ وَجَدَها عندَ رأسِهِ قاعدةً فسَأَلَها مَنْ أَنتِ؟ قالت: امرأةٌ قال: ولِمَ خُلِقْتِ؟ قالت: لِتَسْكُنَ إلَيَّ. فقالت الملائكةُ تَجربةً لِعِلْمِه: مَنْ هذِه؟ قال: امرأةٌ قالوا: لِمَ سُمِّيتْ امْرأةً؟ قال: لِأَنَّها خُلِقَتْ مِنَ المِراءِ فقالوا: ما اسمُها؟ قال: حوّاءُ قالوا: لِمَ سُمِّيَتْ حَوّاءَ؟ قال: لِأَنّها خُلِقَتْ مِنْ شيءٍ حَيٍّ. قَالُوا لَهُ: أَتُحِبُّهَا يَا آدَمُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا لِحَوَّاءَ: أَتُحِبِّينَهُ يَا حَوَّاءُ؟ قَالَتْ: لَا، وَفِي قَلْبِهَا أَضْعَافُ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ حُبِّهِ. قَالُوا: فَلَوْ صَدَقَتِ امْرَأَةٌ فِي حُبِّهَا لِزَوْجِهَا لَصَدَقَتْ حَوَّاءُ.
وبخلق حواء من ضلع آدم ـ عليهِما السلامُ ـ اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى مِيرَاثِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ إِذَا تَسَاوَتْ فيه علامات النساء والرجال من اللّحيَةِ وَالثَّدْيِ وَالْمَبَالِ بِنَقْصِ الْأَعْضَاءِ. فَإِنْ نَقَصَتْ أَضْلَاعُهُ عَنْ أَضْلَاعِ الْمَرْأَةِ أُعْطِيَ نَصِيبَ رَجُلٍ وإن كانت تامةً أعطي نصيب أنثى.
وفي تقديمِ "زوجَك" على "الجنَّةَ" نَوْعُ إشارةٍ إليهِ، وفي المثل: الرفيقُ قَبْلَ الطريق. وأيْضًا: هي مَسْكَنُ القَلْبِ، والجَنَّةُ مَسْكَنُ البَدَنِ، ومِنَ الحِكْمَةِ تقديمُ الأوَّلِ على الثاني.
ورُوِيَ عنِ ابنِ عبّاس رضي الله تعالى عنهما قال: (بَعَثَ اللهُ جُنْدًا
مِنَ المَلائكةِ فحَمَلوا آدَمَ وحَوّاءَ على سَريرٍ مِنْ ذَهَبٍ كما تُحْمَلُ المُلوكُ ولِباسُهُما النُّورُ حتّى أَدْخَلوهُما الجَنَّةَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْجَنَّةُ} الْجَنَّةُ: الْبُسْتَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا. وَلَا
الْتِفَاتَ لِمَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ وَإِنَّمَا كَانَ فِي جَنَّةٍ بِأَرْضِ عَدْنٍ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى بِدْعَتِهِمْ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ جَنَّةَ الْخُلْدِ لَمَا وَصَلَ إِلَيْهِ إِبْلِيسُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ} الطُّورُ: 23. وَقَالَ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً} النبأ: 35 وَقَالَ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلًا سَلاماً} الواقعة: 26 - 25. وَأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَهْلُهَا لِقَوْلِهِ: {وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ} الحجر: 48. وَأَيْضًا فَإِنَّ جَنَّةَ الْخُلْدِ هِيَ دَارُ الْقُدْسِ، قُدِّسَتْ عَنِ الْخَطَايَا وَالْمَعَاصِي تَطْهِيرًا لَهَا. وَقَدْ لَغَا فِيهَا إِبْلِيسُ وَكَذَبَ، وَأُخْرِجَ مِنْهَا آدَمُ وَحَوَّاءُ بِمَعْصِيَتِهِمَا. قَالُوا: وَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَى آدَمَ مَعَ مَكَانِهِ مِنَ اللَّهِ وَكَمَالِ عَقْلِهِ أَنْ يَطْلُبَ شَجَرَةَ الْخُلْدِ وَهُوَ فِي دَارِ الْخُلْدِ وَالْمُلْكِ الَّذِي لَا يَبْلَى؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَرَّفَ الْجَنَّةَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، وَمَنْ قَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ فِي تَعَارُفِ الْخَلْقِ إِلَّا طَلَبُ جَنَّةِ الْخُلْدِ. وَلَا يَسْتَحِيلُ فِي الْعَقْلِ دُخُولُ إِبْلِيسَ الْجَنَّةَ لِتَغْرِيرِ آدَمَ، وَقَدْ لَقِيَ مُوسَى آدَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ أَشْقَيْتَ ذُرِّيَّتَكَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَدْخَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِيَدُلَّ عَلَى أنّها جنّةُ الخُلْدِ الْمَعْرُوفَةُ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ آدَمُ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَهَا لَرَدَّ عَلَى مُوسَى، فَلَمَّا سَكَتَ آدَمُ عَلَى مَا قَرَّرَهُ مُوسَى صَحَّ أَنَّ الدَّارَ الَّتِي أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهَا بِخِلَافِ الدَّارِ الَّتِي أُخْرِجُوا إِلَيْهَا. وَأَمَّا مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنَ الْآيِ فَذَلِكَ إِنَّمَا جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهَا بَعْدَ دُخُولِ أَهْلِهَا فِيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ دَارَ الْخُلْدِ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَخْلِيدَهُ فِيهَا وَقَدْ يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْفَنَاءِ. وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَقَدْ كَانَ مَفَاتِيحُهَا بِيَدِ إِبْلِيسَ ثُمَّ انْتُزِعَتْ مِنْهُ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ دَخَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَأَخْبَرَ بِمَا فِيهَا وَأَنَّهَا هِيَ جَنَّةُ الْخُلْدِ حَقًّا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْجَنَّةَ دَارُ الْقُدْسِ وَقَدْ طَهَّرَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْخَطَايَا فَجَهْلٌ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَدْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ وَهِيَ الشَّامُ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الشَّرَائِعِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّسَهَا وَقَدْ شُوهِدَ فِيهَا الْمَعَاصِي وَالْكُفْرُ وَالْكَذِبُ وَلَمْ يَكُنْ تَقْدِيسُهَا مِمَّا يَمْنَعُ فِيهَا الْمَعَاصِيَ، وَكَذَلِكَ دَارُ الْقُدْسِ. وَأَهْلَ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ جَنَّةَ الْخُلْدِ هِيَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ خَالَفَهُمْ. وَقَوْلُهُمْ: كَيْفَ يَجُوزُ عَلَى آدَمَ فِي كَمَالِ عَقْلِهِ أَنْ يَطْلُبَ شَجَرَةَ الْخُلْدِ وَهُوَ فِي دَارِ الْخُلْدِ، فَيُعْكَسُ عَلَيْهِمْ وَيُقَالُ: كَيْفَ يَجُوزُ عَلَى آدَمَ وَهُوَ فِي كَمَالِ عَقْلِهِ أَنْ يَطْلُبَ شَجَرَةَ الْخُلْدِ فِي دَارِ الْفَنَاءِ! هَذَا مَا لَا يَجُوزُ عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ، فَكَيْفَ بِآدَمَ الَّذِي هُوَ أَرْجَحُ الْخَلْقِ عَقْلًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما} الرَّغَدُ: الْعَيْشُ الدَّارُّ الْهَنِيُّ الذي لا عناءَ فيه، قال امرؤ القيس:
بَيْنَمَا الْمَرْءُ تَرَاهُ نَاعِمًا ................. يَأْمَنُ الْأَحْدَاثَ فِي عَيْشِ رَغَدْ
وَيُقَالُ: رَغُدَ عَيْشُهُمْ وَرَغِدَ (بِضَمِّ الْغَيْنِ وَكَسْرِهَا). وَأَرْغَدَ الْقَوْمُ:
أَخْصَبُوا وَصَارُوا فِي رَغَدٍ مِنَ الْعَيْشِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ} أَيْ لَا تَقْرَبَاهَا بِأَكْلٍ، لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ فِيهِ وَقَعَتْ. قَالَ بَعْضُ الْحُذَّاقِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ نَهَى عَنْهُ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي الْأَكْلَ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ الْعَرَبُ وَهُوَ الْقُرْبُ. وَهَذَا مِثَالٌ بَيِّنٌ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ. وَقَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْمَعَانِي قَوْلُهُ: "وَلا تَقْرَبا" إِشْعَارٌ بِالْوُقُوعِ فِي الْخَطِيئَةِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ سُكْنَاهُ فِيهَا لَا يَدُومُ، لِأَنَّ الْمُخَلَّدَ لَا يَحْظُرُ عَلَيْهِ شي وَلَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} البقرة: 30. فَدَلَّ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْهَا. "هذِهِ الشَّجَرَةَ" الِاسْمُ الْمُبْهَمُ يُنْعَتُ بِمَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لَا غَيْرَ، كَقَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِهَذَا الرَّجُلِ وَبِهَذِهِ الْمَرْأَةِ وَهَذِهِ الشَّجَرَةِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا فَأَكَلَ مِنْهَا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَجَعْدَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ: هِيَ الْكَرْمُ، وَلِذَلِكَ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبُو مَالِكٍ وَقَتَادَةُ: هِيَ السُّنْبُلَةُ، وَالْحَبَّةُ مِنْهَا كَكُلَى الْبَقَرِ، أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ، قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ. وَلَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَى آدَمَ جَعَلَهَا غِذَاءً لِبَنِيهِ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ: هِيَ شَجَرَةُ التِّينِ، وَكَذَا رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، وَلِذَلِكَ تُعَبَّرُ فِي الرُّؤْيَا بِالنَّدَامَةِ لِآكِلِهَا مِنْ أَجْلِ نَدَمِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَكْلِهَا، ذَكَرَهُ السهيلي. وليس في شيءٍ مِنْ هَذَا التَّعْيِينِ مَا يُعَضِّدُهُ خَبَرٌ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى آدَمَ عَنْ شَجَرَةٍ فَخَالَفَ هُوَ إِلَيْهَا وَعَصَى فِي الْأَكْلِ مِنْهَا. وَاخْتَلَفُوا كَيْفَ أَكَلَ مِنْهَا مَعَ الْوَعِيدِ الْمُقْتَرِنِ بِالْقُرْبِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ"، فَقَالَ قَوْمٌ: أَكَلَا مِنْ غَيْرِ الَّتِي أُشِيرَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَتَأَوَّلَا النَّهْيَ وَاقِعًا عَلَى جَمِيعِ جِنْسِهَا، كَأَنَّ إِبْلِيسَ غَرَّهُ بِالْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهِيَ أَوَّلُ مَعْصِيَةٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. قِيلَ: أَكَلَهَا نَاسِيًا، وَمِنَ الْمُمْكِنِ أَنَّهُمَا نَسِيَا الْوَعِيدَ. وَهُوَ الصَّحِيحُ لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِذَلِكَ حَتْمًا وَجَزْمًا فَقَالَ: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} طه: 115]. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَلْزَمُهُمْ مِنَ التَّحَفُّظِ وَالتَّيَقُّظِ لِكَثْرَةِ مَعَارِفِهِمْ وَعُلُوِّ مَنَازِلِهِمْ مَا لَا يَلْزَمُ غَيْرَهُمْ كَانَ تَشَاغُلُهُ عَنْ تَذَكُّرِ النَّهْيِ تَضْيِيعًا صَارَ بِهِ عَاصِيًا، أَيْ مُخَالِفًا. ويُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ حَوَّاءُ بِإِغْوَاءِ إِبْلِيسَ إِيَّاهَا وَإِنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ كَانَ مَعَهَا لِأَنَّهَا وَسْوَاسُ الْمِخَدَّةِ، وَهِيَ أَوَّلُ فِتْنَةٍ دَخَلَتْ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ، فَقَالَ: مَا مُنِعْتُمَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ إِلَّا أَنَّهَا شَجَرَةُ الْخُلْدِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يُحِبَّانِ الْخُلْدَ، فَأَتَاهُمَا مِنْ حَيْثُ أَحَبَّا ـ حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ ـ فَلَمَّا قَالَتْ حَوَّاءُ لِآدَمَ أَنْكَرَ عَلَيْهَا وَذَكَرَ الْعَهْدَ، فَأَلَحَّ عَلَى حَوَّاءَ وَأَلَحَّتْ حَوَّاءُ عَلَى آدَمَ، إِلَى أَنْ قَالَتْ: أَنَا آكُلُ قَبْلَكَ حتى إنْ أصابني شيء سَلِمْتَ أَنْتَ، فَأَكَلَتْ فَلَمْ يَضُرَّهَا، فَأَتَتْ آدَمَ فَقَالَتْ: كُلْ فَإِنِّي قَدْ أَكَلْتُ فَلَمْ يَضُرَّنِي، فأكل فبدت لهما سوآتهما وَحَصَلَا فِي حُكْمِ الذَّنْبِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: " وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ" فَجَمَعَهُمَا فِي النَّهْيِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَنْزِلْ بِهَا الْعُقُوبَةُ حَتَّى وُجِدَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَخَفِيَتْ عَلَى آدَمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ. لِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: "وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ" البقرة: 35 نهي لهما "فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ" البقرة: 35 جَوَابُهُ، فَلَا يَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ حَتَّى يَفْعَلَا، فلما أكلت لم يصبها شي، لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَا وُجِدَ كَامِلًا. وَخَفِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى آدَمَ فَطَمِعَ وَنَسِيَ هَذَا الْحُكْمَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ" طه: 115وَقِيلَ: نَسِيَ قَوْلَهُ:" إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى" طه: 117. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ هَلْ وَقَعَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ـ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ـ صَغَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ يُؤَاخَذُونَ بِهَا وَيُعَاتَبُونَ عَلَيْهَا أَمْ لَا ـ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ فِيهَا شَيْنٌ وَنَقْصٌ إِجْمَاعًا، لأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى دَلِيلِ الْمُعْجِزَةِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى دَلِيلِ الْعَقْلِ عَلَى أُصُولِهِمْ، فَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ: تَقَعُ الصَّغَائِرُ مِنْهُمْ. خِلَافًا لِلرَّافِضَةِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِمَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي التَّنْزِيلِ وَثَبَتَ مِنْ تَنَصُّلِهِمْ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ. وَقَالَ جُمْهُورٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ: إِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الصَّغَائِرِ كُلِّهَا كَعِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَبَائِرِ أَجْمَعِهَا، لِأَنَّا أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِمْ فِي أَفْعَالِهِمْ وَآثَارِهِمْ وَسِيَرِهِمْ أَمْرًا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ قَرِينَةٍ، فَلَوْ جَوَّزْنَا عَلَيْهِمُ الصَّغَائِرَ لَمْ يُمْكِنِ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ يَتَمَيَّزُ مَقْصِدُهُ مِنَ الْقُرْبَةِ وَالْإِبَاحَةِ أَوِ الْحَظْرِ أَوِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْمَرَ الْمَرْءُ بِامْتِثَالِ أَمْرٍ لَعَلَّهُ مَعْصِيَةٌ، لَا سِيَّمَا عَلَى مَنْ يَرَى تَقْدِيمَ الْفِعْلِ عَلَى الْقَوْلِ إِذَا تَعَارَضَا من الأصوليين. قال الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني: وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّغَائِرِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِمْ، وَصَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَجْوِيزِهَا، وَلَا أَصْلَ لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِوُقُوعِ ذُنُوبٍ مِنْ بَعْضِهِمْ وَنَسَبَهَا إِلَيْهِمْ وَعَاتَبَهُمْ عَلَيْهَا، وَأَخْبَرُوا بِهَا عَنْ نُفُوسِهِمْ وَتَنَصَّلُوا مِنْهَا وَأَشْفَقُوا مِنْهَا وَتَابُوا، وَكُلُّ ذَلِكَ وَرَدَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ جُمْلَتُهَا وَإِنْ قَبِلَ ذَلِكَ آحَادُهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُزْرِي بِمَنَاصِبِهِمْ، وَإِنَّمَا تِلْكَ الْأُمُورُ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ النُّدُورِ وَعَلَى جِهَةِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، أَوْ تَأْوِيلٍ دَعَا إِلَى ذَلِكَ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ حَسَنَاتٌ وَفِي حَقِّهِمْ سَيِّئَاتٌ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنَاصِبِهِمْ وَعُلُوِّ أَقْدَارِهِمْ، إِذْ قَدْ يُؤَاخَذُ الْوَزِيرُ بِمَا يُثَابُ عَلَيْهِ السَّائِسُ، فَأَشْفَقُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْأَمْنِ وَالْأَمَانِ وَالسَّلَامَةِ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْجُنَيْدُ حَيْثُ قَالَ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ. فَهُمْ ـ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ ـ وَإِنْ كَانَ قَدْ شَهِدَتِ النُّصُوصُ بِوُقُوعِ ذُنُوبٍ مِنْهُمْ فَلَمْ يُخِلَّ ذَلِكَ بِمَنَاصِبِهِمْ وَلَا قَدْحَ فِي رُتَبِهِمْ، بَلْ قَدْ تَلَافَاهُمْ وَاجْتَبَاهُمْ وَهَدَاهُمْ وَمَدَحَهُمْ وَزَكَّاهُمْ وَاخْتَارَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ} الظُّلْمُ أَصْلُهُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي
غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وَالْأَرْضُ الْمَظْلُومَةُ: الَّتِي لَمْ تُحْفَرْ قَطُّ ثُمَّ حُفِرَتْ. قَالَ
النَّابِغَةُ:
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَالًا أُسَائِلُهَا .......... عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
إِلَّا الْأَوَارِيَّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ... وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ الأَواريّ (واحدُها آريّ) وهو حبلٌ تُشدُّ به الدابة في محسبها. واللّأيُ: المَشقَّةُ والجهد. والنُؤيُ: حُفرَةٌ حولَ البيتِ لِئَلّا يَصلَ إليه الماء. والجَلَدُ الأرضُ الصُلبة.وَيُسَمَّى ذَلِكَ التُّرَابُ الظَّلِيمَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَصْبَحَ فِي غَبْرَاءَ بَعْدَ إِشَاحَةٍ .............. على العيش مردود عليها
الإشاحةُ: الحذرُ والخوفُ لمن حاول أن يدفع الموت. يَعني حُفرة القبر يرد ترابها عليه بعد دفن الميت فيها. وقيل: سُمِّيَتْ مَظلومةً لأنَّ المَطَرَ لا يَأتيها، قال عمرو بن قَمِيئَةَ:
ظَلَمَ البطاحَ له انهِلاَلُ حَرِيصَةٍ .......... فَصَفَا النِّطافُ له بُعَيْدَ المُقْلَعِ
وَإِذَا نُحِرَ الْبَعِيرُ مِنْ غَيْرِ دَاءٍ بِهِ فَقَدْ ظُلِمَ، وَمِنْهُ قولُ ابنِ مُقبِلٍ:
عاد الأذِلَّةُ في دارٍ وكان بها .......... هرت الشَقاشقِ ظَلَّامُونَ لِلْجُزُرِ
دار: اسم مكان، يشبه الفصيح المِنطيق بالفحل الهادر ولسُانه بشقشقته. وَيُقَالُ: سَقَانَا ظَلِيمَةً طَيِّبَةً، إِذَا سَقَاهُمُ اللَّبَنَ قَبْلَ إِدْرَاكِهِ. وَقَدْ ظَلَمَ وَطْبَهُ (الزق الذي يكون فيه السمن واللبن)، إِذَا سَقَى مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَرُوبَ وَيَخْرُجَ زُبْدُهُ. وَاللَّبَنُ مَظْلُومٌ وَظَلِيمٌ. قَالَ:
وَقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي ............. وَهَلْ يَخْفَى عَلَى الْعَكَدِ الظَّلِيمُ
ظلمت سقائي: سقيتُهم إيّاه قبلَ أنْ يَروبَ. والعُكَدُ جمع عُكْدةٍ وهي
أصل اللسان. وَرَجُلٌ ظَلِيمٌ: شَدِيدُ الظُّلْمِ. وَالظُّلْمُ: الشِّرْكُ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: "إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" لقمان: 13.
{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} هذه الجملةُ معطوفةٌ
على جملةِ: "إذْ قلنا"، و"أنت" توكيدٌ للضميرِ المستكنِّ في "اسكُن"
ليصِحَّ العطفُ عليه، "وزوجُك" عَطْفٌ عليه. و"الجَنَّةَ" مفعولٌ به.
قولُه تعالى: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً} هذه الجملةُ عَطْفٌ على "اسكُنْ" فهي في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ، وأصلُ "كُلْ" أُأْكُلْ بهمزتين: الأولى همزةُ وصلٍ، والثانيةُ فاءُ الكلمة فلو جاءَتْ هذه الكلمةُ على هذا الأصلِ لقيل: "اُوكُلْ" بإبدالِ الثانيةِ حرفاً مُجانِساً لحركةِ ما قبلَها، إلّا أنَّ العَرَبَ حَذَفَتْ فاءَه في الأمرِ تَخفيفًا فاستَغْنَتْ حينئذٍ عن همزةِ الوصلِ فوَزْنُهُ "عُلْ"، ومثلُه: "خُذْ" و "مُرْ" ، ولا يُقاسُ على هذه الأفعالِ غيرُها، كأنْ تقول من أَجَرَ: جُرْ. ولا تَرُدُّ العربُ هذه الفاءَ في العطف بل تقول: "قم" و"خُذْ" و"كُلْ" ، إلا " مُرْ " فإنَّ الكثيرَ رُدَّ فاؤه بعد الواوِ قال تعالى : {وَأْمُرْ قَوْمَكَ} وعدمُ الردِّ قليلٌ. "منها" متعلِّقٌ به، و"مِنْ" للتبعيضِ، ولا بُدَّ مِن حَذْفِ مُضافٍ، أي: مِنْ ثمارِها، ويَجوزُ أنْ تَكونَ "مِنْ" لابتِداءِ الغايةِ وهو أَحْسَنُ، و"رَغَداً" نعتٌ لمَصْدَرٍ مَحذوفٍ. وقيلَ هو مصدرٌ في مَوضِعِ الحالِ أي: كُلا طيِّبَيْنِ مُهَنَّأَيْنِ.
وقُرئ "رَغْداً" بسكون الغينِ وهي لغةُ تميمٍ. وقال بعضُهم: كلُّ فعلٍ حَلْقِيِّ العينِ صَحيحِ اللّامِ يَجوزُ فَتْحُ عَينِهِ وتَسكينُها نحو: "نَهْرٍ، نَهَر" و"بَحْرٍ، بَحَر". وهذا فيه نَظَرٌ بل المَنقولُ أَنَّ فعْلاً، ـ بسكونِ العينِ ـ إذا كانتْ عينُه حَلْقيَّةً لا يَجوزُ فتحُها عندَ البَصْرِيينَ إلّا أَنْ يُسَمَعَ فَيُقْتَصَرَ عليه، ويكون ذلك على لُغتيْنِ، لأنَّ إحداهما مأخوذةٌ من الأخرى. وأمَّا الكوفيُّون فبَعضُ هذا عندَهم ذو لُغَتَيْنِ، وبعضُه أصلُه السكونُ ويَجوزُ فتحُه قِياساً، أمَّا أنَّ فَعَلاً المفتوحَ العينِ الحَلْقِيَّها يَجوزُ
فيه التَسْكينُ فيَجوزُ في السَّحَر: السَّحْر، فهذا لا يُجيزه أحدٌ.
قولُهُ تعالى: {حَيْثُ شِئْتُمَا} حيث: ظَرْفُ مكانٍ، والمشهورُ بِناؤُها
على الضَمِّ لشَبَهِها بالحرفِ في الافْتِقارِ إلى جُملةٍ، وكانت حركتُها ضَمَّةً تَشبيهًا بـ "قبل" و"بعد". وَحَيْثُ وَحَيْثَ وَحَيْثِ، وَحَوْثَ وَحَوْثِ وحاث، كلها لغات، ذكرها النحاس وغيره.
وقد تُزاد عليها "ما" فتَجْزِمُ فِعليْن شَرطاً وجزاءً كَإنْ، ولا يُجْزَمُ بها
دونَ "ما" وقد تُشَرَّبُ معنَى التَعليلِ، والعامِلُ فيها هنا "كُلا" أي: كُلا أيَّ مَكانٍ شِئْتُما تَوْسِعَةً عليهما. "شِئْتُمَا" الجملةُ في مَحَلِّ خَفْضٍ بإضافةِ الظرفِ إليها.
قولُه: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} لا: ناهيةٌ جازمةٌ و"تَقْرَبا" مَجْزومٌ بها حُذِفَتْ نونُه علامةً لِجَزْمِه. وقُرئ: "تِقْرَبا" بِكسرِ حرْفِ المُضارعة. والأَلِفُ فاعلٌ و"هذه" اسمُ إشارَةِ المُؤنَّثِ مَفعولٌ به، وفيها لُغاتٌ: هذي وهذهِ، وهذهِ بكسرِ الهاءِ بإشباعٍ وبدونِهِ، وهذهْ بسكونِها، وذِهْ بكسرِ الذالِ فقط، والهاءُ بَدَلٌ من الياءِ لقُرْبِهَا منها في الخَفَاءِ. والياءُ في "هذي" للتأنيثِ. ويُقال فيها أيضاً: تَيْكَ وتَيْلَكَ وتِلْكَ وتالِك، قال
الشاعر:
تعلَّمْ أنَّ بعدَ الغَيِّ رُشْدا .................... وأنَّ لتالِكَ الغُمَرِ انْحِسَاراً
وأنشدوا:
خَليليَّ لولا ساكنُ الدارِ لم أُقِمْ ........... بتا الدارِ إلاَّ عابرَ ابنِ سبيلٍ
و"الشجرةِ" بَدَلٌ مِن "هذه"، وقيل: نَعْتٌ لَها لِتأويلِها بِمُشْتَقٍّ، أي: هذه
الحاضرةَ من الشجر. والمشهورُ أنَّ اسْمَ الإِشارةِ إذا وَقَعَ بعدَه مُشْتَقٌّ كان نَعْتًا له، وإنْ كان جامداً كان بَدَلاً منه. والشجَرةُ واحدةُ الشَّجَر، اسْمُ جِنْسٍ، وهو ما كان على ساقٍ بخِلافِ النّجْمِ، وهي ما لا ساق له من النباتات.
وقرئ: "الشِجِرة" بكسرِ الشينِ وبِكسرِ الجيمِ وسكونِه، وبإبدالِها ياءً مَعَ فتحِ الشينِ وكسرِها لقُرْبِهِا مِنْها مَخْرجاً، كما أُبْدِلَتِ الجيمُ منها في قول الشاعر:
يا رَبِّ إنْ كنْتَ قَبِلْتَ حَجَّتِجْ ............. فلا يَزالُ شاحِجٌ يأتيكَ بِجْ
يريد بذلك حَجَّتي وبي، وقال آخر:
إذا لم يكُنْ فِيكُنَّ ظِلٌّ وَلاَ جَنًى ............. فَأَبْعَدَكُنَّ اللهُ من شِيَرَاتِ
أي شجرات.
وقال أبو عمرو: إنَّما يَقْرأُ بِها بَرابِرُ مَكَّةَ وسُودانُها. وجُمِعَت الشَجَرُ أيْضًا على شَجْراء، ولم يأتِ جمعٌ على هذه الزِنَةِ إلّا قَصَبَة وَقَصْباء، وطَرَفَة وطَرْفاء، وحَلَفةٌ وحَلْفاء، وكان الأصمعيُّ يَقول: حَلِفَةٌ
بِكَسْرِ اللّامِ، وعندَ سِيبَوَيْهِ أنَّ هذه الألفاظَ واحدةٌ وجمعٌ.
وتقول: قَرِبْتُ الأمرَ أَقرَبُه بِكَسْرِ العينِ في الماضي، وفتحِها في المُضارِعِ، أي: التبَسْتُ بِهِ، وقال الجَوهَرِيُّ: قَرُبَ بالضَمِّ يَقرُبُ قُرْباً أي: دَنَا، وقَرِبْتُهُ بالكَسْرِ قُرْبَاناً دَنَوْتُ منه، وقَرَبْتُ أَقرُبُ قِرابَةً مثلُ: كَتَبْتُ أَكتُبُ كِتابَةً إذا سِرْتَ إلى المَاءِ وبينَك وبيْنَه لَيْلَةٌ.
وقيل: إذا قيلَ: لا تَقْرَبْ بفتحِ الرّاءِ كان مَعناه لا تَلْتَبِسْ بالفِعلِ
وإذا قيل: لا تَقْرُبْ بالضَمِّ كان معناه: لاَ تَدْنُ منه.
قولُهُ: {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} فيه وجهان: أحَدُهما: أَنْ يَكونَ مَجزوماً عطفاً على تَقْرَبَا، والثاني: أنّه مَنصوبٌ على جَوابِ النَّهْيِ كقولِهِ تعالى: {لاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ} والنصبُ بإضمارِ "أَنْ" عندَ البصريينَ. قوله: {مِنَ الظالمين} خبرُ كان.