لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
{للَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ} الإيلاءُ الحلف الذي يقتضي النقيصة في الأمر الذي يحلف فيه من قوله تعالى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} آل عمران: 8 11 أي باطلاً {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ} النور: 22 وصار في الشرع عبارة عن الحلف المانع عن جماع المرأة، فـ {يُؤْلُونَ} أي يحلفون. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ إِيلَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ إِيذَاءَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْمَسَاءَةِ، فَوَقَّتَ لَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَمَنْ آلَى بِأَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ حُكْمِيٍّ. وَقَدْ آلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَّقَ، وَسَبَبُ إِيلَائِهِ سُؤَالُ نِسَائِهِ إِيَّاهُ مِنَ النَّفَقَةِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ.
وَقِيلَ: لِأَنَّ زَيْنَبَ رَدَّتْ عَلَيْهِ هَدِيَّتَهُ، فَغَضِبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآلَى مِنْهُنَّ، ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ.
وَيَلْزَمُ الْإِيلَاءُ كُلَّ مَنْ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ، فَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالسَّكْرَانُ يَلْزَمُهُ الْإِيلَاءُ. وَكَذَلِكَ السَّفِيهُ وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ إِذَا كَانَ بَالِغًا غَيْرَ مَجْنُونٍ، وَكَذَلِكَ الْخَصِيُّ، وَالشَّيْخُ إِذَا كَانَ فِيهِ بَقِيَّةُ رَمَقٍ وَنَشَاطٍ. وَإِيلَاءُ الْأَخْرَسِ بِمَا يُفْهَمُ عَنْهُ مِنْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ مَفْهُومَةٍ لَازِمٌ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْأَعْجَمِيُّ إِذَا آلَى مِنْ نِسَائِهِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يَقَعُ بِهِ الْإِيلَاءُ مِنَ الْيَمِينِ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَقَعُ الْإِيلَاءُ إِلَّا بِالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ((مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ)). وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ في الجديد من مذهبه. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ يَمِينٍ مَنَعَتْ جِمَاعًا فَهِيَ إِيلَاءٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَهْلُ الْحِجَازِ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَكُلُّ يَمِينٍ لَا يَقْدِرُ صَاحِبُهَا عَلَى جِمَاعِ امْرَأَتِهِ مِنْ أَجْلِهَا إِلَّا بِأَنْ يَحْنَثَ فَهُوَ بِهَا مُولٍ، إِذَا كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَكُلُّ مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ أَوْ قَالَ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ، أَوْ أَشْهَدُ بِاللَّهِ، أَوْ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَكَفَالَتُهُ وَمِيثَاقُهُ وَذِمَّتُهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِيلَاءُ. فَإِنْ قَالَ: أُقْسِمُ أَوْ أَعْزِمُ وَلَمْ يَذْكُرْ بِـ "اللَّهِ" فَقِيلَ: لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْإِيلَاءُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِـ "اللَّهِ" وَنَوَاهُ.
فَإِنْ حَلَفَ بِالصِّيَامِ أَلَّا يَطَأَ امْرَأَتَهُ فَقَالَ: إن وطئتك فَعَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ فَهُوَ مُولٍ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ حَجٍّ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ صَدَقَةٍ. وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} وَلَمْ يُفَرِّقْ، فَإِذَا آلَى بِصَدَقَةٍ أَوْ عِتْقِ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لزم الإيلاء.
فإن حَلَفَ بِاللَّهِ أَلَّا يَطَأَ وَاسْتَثْنَى فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا، فَإِنْ وَطِئَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عَنْد مَالِكٍ. وَالأَصَحُّ أنه ليس بمولٍ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُحِلُّ الْيَمِينَ وَيَجْعَلُ الْحَالِفَ كَأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ، وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، لِأَنَّهُ بَيَّنَ بِالِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ غَيْرُ عَازِمٍ عَلَى الْفِعْلِ.
فَإِنْ حَلَفَ بِالنَّبِيِّ أَوِ الْمَلَائِكَةِ أَوِ الْكَعْبَةِ أَلَّا يَطَأَهَا، أَوْ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ زَانٍ إن وطئها، فهذا ليس بمؤل. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَوْرَدَهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْقَسَمِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِيلَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَحْلِفَ أَلَّا يَمَسَّهَا أَبَدًا. وَقَالَ طَائِفَةٌ: إِذَا حَلَفَ أَلَّا يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ لَمْ يَطَأْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ مِنْهُ بِالْإِيلَاءِ، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالنَّخَعِيِّ وغيرهما. وَأَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْإِيلَاءُ هُوَ أَنْ يَحْلِفَ أَلَّا يَطَأَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةٍ فَمَا دُونَهَا لَا يَكُونُ مُولِيًا، وَكَانَتْ عِنْدَهُمْ يَمِينًا مَحْضًا، لو وطئ في هذه المدة لم يكن عليه شي كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ.
جَعَلَ اللَّهُ التَّرَبُّصَ فِي الْإِيلَاءِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ كَمَا جَعَلَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَفِي الْعِدَّةِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، فَلَا تَرَبُّصَ بَعْدُ. قَالُوا: فَيَجِبُ بَعْدَ الْمُدَّةِ سقوط الإيلاء، ولا يسقط إلّا بألفيء وَهُوَ الْجِمَاعُ فِي دَاخِلِ الْمُدَّةِ، وَالطَّلَاقُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فَقَالَا: جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُولِي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَهِيَ لَهُ بِكَمَالِهَا لَا اعْتِرَاضَ لِزَوْجَتِهِ عَلَيْهِ فِيهَا، كَمَا أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْأَجَلِ.
وَاخْتَلَفُوا أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَطَأَ امْرَأَتَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَانْقَضَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ وَلَمْ تُطَالِبْهُ امْرَأَتُهُ وَلَا رَفَعَتْهُ إِلَى السُّلْطَانِ لِيُوقِفَهُ، لم يلزمه شي عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَمِنْهم مَنْ يَقُولُ: يَلْزَمُهُ بِانْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَلْزَمُهُ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ بِانْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِيلَاءِ فِي غَيْرِ حَالِ الْغَضَبِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وعَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهم: لَا إِيلَاءَ إِلَّا بِغَضَبٍ. وَقَالَهُ اللَّيْثُ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ، كُلُّهُمْ يَقُولُونَ: الْإِيلَاءُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى وجه مغاضبة فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ غَضَبٍ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْيَمِينُ فِي غَضَبٍ أَوْ غَيْرِ غَضَبٍ هُوَ إِيلَاءٌ.
ومن امتنع من وطئ امْرَأَتِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ حَلَفَهَا إِضْرَارًا بِهَا أُمِرَ بِوَطْئِهَا، فَإِنْ أَبَى وَأَقَامَ عَلَى امْتِنَاعِهِ مُضِرًّا بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مِنْ غَيْرِ ضَرْبِ أَجَلٍ. وَقَدْ قِيلَ: يُضْرَبُ أَجَلُ الْإِيلَاءِ. وَقَدْ قِيلَ: لَا يَدْخُلُ عَلَى الرَّجُلِ الْإِيلَاءُ فِي هِجْرَتِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ وَإِنْ أَقَامَ سِنِينَ لَا يَغْشَاهَا، وَلَكِنَّهُ يُوعَظُ وَيُؤْمَرُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَلَّا يُمْسِكَهَا ضِرَارًا.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ حَلَفَ أَلَّا يَطَأَ امْرَأَتَهُ حَتَّى تَفْطِمَ وَلَدَهَا لِئَلَّا يُمْغَلَ
وَلَدُهَا، وَلَمْ يُرِدْ إِضْرَارًا بِهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُ الرَّضَاعِ لَمْ يَكُنْ لزوجته
عند مالك مطالبة لقصد إِصْلَاحِ الْوَلَدِ. قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَرَهُ إِيلَاءً، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ يَكُونُ مُولِيًا، وَلَا اعْتِبَارَ بِرَضَاعِ الْوَلَدِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا مَنْ حَلَفَ أَلَّا يَطَأَ زَوْجَتَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَوْ فِي هَذِهِ الدَّارِ لِأَنَّهُ يَجِدُ السَّبِيلَ إِلَى وَطْئِهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ.
قَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: إِيلَاء العبد مِنْ زَوْجَتِهِ الْأَمَةِ شَهْرَانِ، وَمِنَ الْحُرَّةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِيلَاءُ الْأَمَةِ نِصْفُ إِيلَاءِ الْحُرَّةِ.
قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُمْ: الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا سَوَاءٌ فِي لُزُومِ الْإِيلَاءِ فِيهِمَا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَالثَّوْرِيُّ: لَا إِيلَاءَ إِلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} التَّرَبُّصُ: التَّأَنِّي وَالتَّأَخُّرُ، وَأَمَّا فَائِدَةُ تَوْقِيتِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَمَنَعَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ وَجَعَلَ لِلزَّوْجِ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي تَأْدِيبِ الْمَرْأَةِ بِالْهَجْرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ} وَقَدْ آلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَزْوَاجِهِ شَهْرًا تَأْدِيبًا لَهُنَّ. وَقَدْ قِيلَ: الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ هِيَ الَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ ذَاتُ الزَّوْجِ أَنْ تَصْبِرَ عَنْهُ أَكْثَرَ مِنْهَا.
قوله تعالى: {فَإِنْ فاؤُ} معناه رجعوا، ومنه {حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ
اللَّهِ}. فقد أَجْمَعَ كُلُّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْفَيْءَ الْجِمَاعُ لِمَنْ لَا عُذْرَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرُ مَرَضٍ أَوْ سِجْنٍ أَوْ شِبْهِ ذَلِكَ فَإِنَّ ارْتِجَاعَهُ صَحِيحٌ وَهِيَ امْرَأَتُهُ، فَإِذَا زَالَ الْعُذْرُ بِقُدُومِهِ مِنْ سَفَرِهِ أَوْ إِفَاقَتِهِ مِنْ مَرَضِهِ، أَوِ انْطِلَاقِهِ مِنْ سجنه فأبى الوطء فُرِّقَ بَيْنَهُمَا إِنْ كَانَتِ الْمُدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ.
أَوْجَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْمُولِي إِذَا فَاءَ بِجِمَاعِ امْرَأَتِهِ شأنه في ذلك شأن الحر وَقَالَ الْحَسَنُ والنخعيُّ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ في قوله تعالى: "فَإِنْ فاؤُ" يَعْنِي لِلْيَمِينِ الَّتِي حَنِثُوا فِيهَا، وَهُوَ مَذْهَبٌ فِي الْأَيْمَانِ لِبَعْضِ التَّابِعِينَ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى بِرٍّ أَوْ تَقْوَى أَوْ بَابٍ مِنَ الْخَيْرِ أَلَّا يَفْعَلَهُ فَإِنَّهُ يَفْعَلُهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. والحجة قوله تعالى: {فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا يَتَرَكَّبُ عَلَى أَنَّ لَغْوَ اليمين ما حلف على معصية، وترك وطئ الزَّوْجَةِ مَعْصِيَةٌ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنَ السُّنَّةِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَتْرُكْهَا فَإِنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَتُهَا)) خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ. وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ)). فإِذَا كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْإِيلَاءُ. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَيْمَانِ، إِذْ لَا يَرَى جَوَازَ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ.
قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ} هذه جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، من بابِ الفعلِ والفاعلِ. و{من نسائهم} في هذا الجارِّ ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنْ يتعَلَّقَ بيُؤْلُون، فإنْ قلت: كيف عُدِّي بمِنْ وهو مُعَدَّى بـ "على"؟ قلت: قد ضُمِّنَ في القَسَم المخصوص معنى البُعْد، فكأنه قيل: يَبْعُدُون من نسائِهم مُؤْلين أو مُقْسِمينَ. الثاني: أنَّ "آلى" يتَعَدَّى بـ "على" وبـ "من"، يقال آلى من امرأتِهِ وعلى امرأتِه. والثالث: أنَّ "مِنْ" قائمةٌ مقامَ "على"، وهذا رأيٌ الكوفيين. والرابع: أنها قائمةٌ مقامَ "في"، ويكونُ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي: على تَرْكِ وَطْءِ نسائِهم أو في تركِ وطءِ نسائِهم. والخامس: أنَّ "مِنْ" زائدةٌ والتقديرَ: يُؤْلُون أَنْ يَعْتَزِلوا نساءَهم. والسادسُ: أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفِ، والتقديرُ: والذين يُؤْلُون لهم من نسائِهم تربُّص أربعةِ، فتتعلَّقَ بما يتعلق به "لهم" المحذوفُ.
والإِيلاءُ: الحَلْفُ، مصدرُ آلى يُولي نحو: أَكْرم يُكرِم إكراماً، والأصل: إإلاء، فأُبْدِلت الهمزةُ الثانيةُ ياءً لسكونِها وانكسار ما قبلها نحو: "إيمان". ويقال تَأَلَّى وايتَلى على افْتَعل، والأصلُ: اإتَلْى، فَقُلِبَتْ الثانيةُ لِما تقدَّم.
يُقَالُ: آلَى يُؤْلِي إِيلَاءً، وَتَأَلَّى تَأَلِّيًا، وَائْتَلَى ائْتِلَاءً، أَيْ حَلَفَ، وَمِنْهُ، {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ}، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَآلَيْتُ لَا أَنْفَكُّ أَحْدُو قَصِيدَةً ............ تَكُونُ وَإِيَّاهَا بِهَا مَثَلًا بَعْدِي
وَقَالَ آخَرُ:
قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ................. وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ
وَقَالَ ابْنِ دُرَيْدٍ:
أَلِيَّةٌ بِالْيَعْمَلَاتِ يَرْتَمِي .................... بِهَا النَّجَاءُ بَيْنَ أَجْوَازِ الفلا
والحَلْفَةُ: يُقال لها الأَلِيَّة والأَلُوَّة والأَلْوَةِ والإِلْوَة، وتُجْمَعُ الأَلِيَّةُ على "ألايا" كعَشِيَّة وعَشايا، ويجوزُ أن تُجْمَعَ الأَلُوَّة أيضاً على "ألايا" كرَكُوبة ورَكائب. قال كُثَيِّر عزة:
قليلُ الأَلايا حافظٌ ليمينِه ................. إذا صَدَرَتْ منه الأَلِيَّةُ بَرَّتِ
وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ"لِلَّذِينَ يُقْسِمُونَ". وَمَعْلُومٌ أن "يقسمون" تفسير" يُؤْلُونَ". وقرئ "لِلَّذِينَ آلَوْا".
والتَّرَبُّصُ: الانتظارُ، وهو مقلوبُ التصبُّر. قال:
تَرَبَّصْ بها رَيْب المنونِ لعلَّها ............. تُطَلَّقُ يوماً أو يموتُ حليلُها
وإضافةُ التربُّصِ إلى الأشهرِ فيها قولان، أحدهُما: أنَّه من بابِ إضافةِ المصدر لمفعولِه على الاتساع في الظَّرْفِ حتى صارَ مفعولاً به فأُضيفَ إليه والحالةُ هذه. والثاني: أنه أضيفَ الحَدَثُ إلى الظرفِ من غيرِ اتِّساعِ. فتكونُ الإِضافةُ بمعنى "في" وهو مذهبٌ كوفي، والفاعلُ محذوفٌ تقديرُه: تربُّصُهم أربعةُ أشهرٍ.
قوله: {فَاءُوا} ألفُ "فاء" منقلبةٌ عن ياءِ لقولِهم: فاء يفيءُ فَيْئَةً. رجَع. والفَيءُ: الظِلُّ لرجوعِه من بعد الزوال. قال علقمة:
فقلتُ لها فِيئي فما تَسْتَفِزُّني ......... ذَواتُ العيونِ والبنانِ المُخَضَّبِ
يقال: فاء يفئ فَيْئَةً وَفُيُوءًا. وَإِنَّهُ لَسَرِيعُ الْفَيْئَةِ، يَعْنِي الرُّجُوعَ. قَالَ:
فَفَاءَتْ وَلَمْ تَقْضِ الَّذِي أَقْبَلَتْ لَهُ...ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا