الشيخ أحمد النعسان
مقدمة الخطبة:الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد فيا عباد الله:
كلماتٌ قالها الصدِّيقُ رضي الله عنه يوم استلم الخلافة, كانت نبراساً وضياءً لمن أراد أن يهتدي بها من الرعاةِ والحكامِ والرؤساءِ, كلماتٌ عرَّفَ من خلالها حقيقةَ الراعي, بأنَّه ليس خيراً من رعيَّته, وليس معصوماً, بل يجري عليه الخطأ, ويحتاج إلى عونٍ ونصحٍ وتقويمٍ, فقال رضي الله عنه
أَيّهَا النّاسُ! فَإِنّي قَدْ وُلّيت عَلَيْكُمْ وَلَسْت بِخَيْرِكُمْ, فَإِنْ أَحْسَنْت فَأَعِينُونِي؛ وَإِنْ أَسَأْت فَقَوّمُونِي).
الصدقُ أمانةٌ:يا عباد الله, بعد أن قال هذه الكلمات, توجَّه إلى الأمة ليذكِّرها بقاعدةٍ عظيمةٍ ليقوم المجتمع على أساسها, فقال: (الصّدْقُ أَمَانَةٌ وَالكَذِبُ خِيَانَةٌ).
فالمجتمع لا يكون متماسكاً من قاعدته إلى قِمَّتِهِ إلَّا على أساسٍ من الصدق, فيجب على الراعي أن يتحلَّى بالصدق, كما يجب على الرعيَّة أن تتحلَّى بالصدق, ولن يحافظ على الصدق من الراعي والرعيَّة إلَّا إذا كان متحلِّياً بخُلُقِ الأمانة.
أمَّا المجتمع الذي يكذب فيه الراعي على رعيَّته, والرعيَّة تكذب على راعيها, فهو مجتمعٌ مُمَزَّقٌ, لأنَّ الكلَّ يخون الكلَّ ـ إلا من رحم الله تعالى ـ.
إمامُ الصادقين:معشرَ المسلمين, لقد كانت حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أفضلَ مثالٍ للإنسان الكامل الذي اتَّخَذَ من الصدقِ في القولِ, الأمانةِ في المعاملةِ خطَّاً ثابتاً لا يحيدُ عنه قَيْدَ أُنْمُلَةٍ.
لقد كانت سيرةُ الحبيب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قبلَ الرسالةِ وبعدَ الرسالةِ مدرسةً عظيمةً للصدِّيق رضي الله عنه, ولمن سار على هديه, لقد اشتُهِرَ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بالصدق قبلَ الرسالة, وهذا ما شَهِدَتْ بهِ أُمَّتُهُ, عندما نزل عليه قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين} جمع أهله, وسألهم عن نظرتهم فيه إذا أخبرهم عن أمرٍ من الأمور, فأجابوه بما عرفوا عنه قائلين: (مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا). رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما. هذا أولاً.
ثانياً: أما بعد بعثته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فقد شَهِدَ له بصدقه مَنْ كان مِنْ ألدِّ أعدائه قبل إسلامه, فهذا أبو سفيان يلقاه هرقلُ عظيمُ الروم ليسأله عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم, فيقول أبو سفيان: (وَايْمُ الله لَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ يُؤْثَرَ عَلَيَّ الْكَذِبُ لَكَذَبْتُ) رواه الإمام مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
سبحان الله, رجلٌ كانَ مشركاً في جاهليَّته يأبى الكذب, لأنَّه يعتبرُ هذه الصفةَ صفةً قبيحةً في الإنسان, وخاصَّةً إذا كان يُنْسَبُ للعرب.
فسأله هرقلُ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا. فهذه شهادة من ألدِّ الأعداء قبل إسلامه.
ثالثاً: عندما قَدِمَ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم المدينة يقول عبد الله بن سلام: (لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ, انْجَفَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ, فَكُنْتُ فِيمَنْ انْجَفَلَ, فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ, عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ, فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ, أَفْشُوا السَّلَامَ, وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ, وَصِلُوا الْأَرْحَامَ, وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ, تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ) رواه الإمام أحمد. وهذه شهادةُ حَبْرٍ من أحبار اليهود.
تربية الأمة على الصدق:أيها الإخوة الكرام: سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ربَّى الأمة على الصدق, وبيَّن لها بأنَّ المؤمنَ قد يقع في كثيرٍ من المخالفات الشرعية إلا الخيانة والكذب, فقال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا, إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ) رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه.
ورغَّبَ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في الصدق لمن كان حريصاً على دخول الجنة يوم القيامة, فقال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ, اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ, وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ, وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ, وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ, وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ, وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) رواه الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
وحذَّر من الكذب بشكلٍ عام لجميع أفراد الأمة ولكل الرعية, وخاصَّةً للراعي, وعرَّف الجميع بأنَّ الكذَّاب إذا لم يتب إلى الله تعالى, لا ينظر الله إليه ولا يكلمه, وله عذابٌ عظيمٌ, فقال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَلَا يُزَكِّيهِمْ, وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ, وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ, شَيْخٌ زَانٍ, وَمَلِكٌ كَذَّابٌ, وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ) رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. الكذب قبيحٌ في الرعية ولكن في الراعي أقبح.
توجيه الصديق رضي الله عنه:
أيُّها الإخوة الكرام: الصِدِّيقُ رضي الله عنه تربَّى في مدرسة الصادق الأمين, لقد شاهد نبيه وحبيبه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم صادقاً, وسمع منه الأمرَ بالصدقِ, والتحذيرَ من الكذبِ, فالتزم ذلك حتى صارَ صِدِّيقاً رضي الله عنه.
وعندما تسلَّم الخلافة أمر الأمة بذلك فقال: (الصّدْقُ أَمَانَةٌ وَالكَذِبُ خِيَانَةٌ). وهذه هي مهمة وليِّ الأمر أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر, بعد أن يتحلَّى بالكمالات.
فالصِدِّيقُ رضي الله عنه بيَّن بهذه الكلمات بأنَّ الصِدْقَ أمانةٌ, فمن فَقَدَ الصدقَ فَقَدَ الأمانةَ, ومن فَقَدَ الأمانةَ فَقَدَ دينه كلَّه, قال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ, وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ) رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنهما. فالصِدِّيقُ رضي الله عنه جَعَلَ الصدقَ أمانةً, فمن فَقَدَهُ فَقَدَ كلَّ شيءٍ.
كما بيَّن رضي الله عنه بأنَّ الكذبَ خيانةٌ, وفي ذلك سواءً الراعيَ والرعيةَ, فإذا كذبَ الراعي فقد خان رعيَّته, وإذا كَذَبَتِ الرعيةُ فقد خانتِ الراعي, وأعظمُ الخيانة من الراعي أن يكذبَ على رعيَّته, إذا كانت تصدِّقه, والعكس بالعكس, يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ, وَأَنْتَ لَهُ بِهِ كَاذِبٌ) رواه الإمام أبو داود عن سفيان بن أسيد الحضرمي.
فاحذر أيُّها الراعي أيُّها الحاكمُ الكذبَ إذا كانت رعيَّتك تُصَدِّقُك, وليحذرِ المحكومُ الكذبَ إذا كان الحاكمُ يصدِّقهُ, وإلا فَأَعْظِمْ بها من خيانةٍ, وهذا ليس من وصفِ المؤمنِ بل من وصفِ المنافقِ, كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ, إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ, وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ, وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ).
يا عباد الله, الصدق حَسَنٌ وكمالٌ إذا تحلَّت به الرعية, ولكنَّه أحلى وأكمل وأحسن إذا تحلَّى به الراعي, لأنَّ صلاحَهُ صلاحُ الأمة, وفسادَه فسادُ الأمة, كما أنَّ الكذبَ وصفٌ قبيحٌ في الرعية ولكنَّه في الراعي أقبحُ.
تحذيرُ ولاةِ الأمورِ من الكذب:أيُّها الإخوة الكرام: لمَّا كانت مهَّمة الراعي والمسؤول والحاكم عظيمة, حذَّر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم كلَّ راعٍ وكلَّ حاكمٍ وكلَّ مسؤولٍ من الغدرِ لأمته, فقال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (إِذَا جَمَعَ الله الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ, فَقِيلَ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ) رواه الإمام مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما. ولا غدْرَ أعظمَ من الكذب.
كما حذَّرهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم من الغشِّ لرعيَّتهم, والكذبُ من أعظم أنواع الغش, قال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ الله رَعِيَّةً, يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ, إِلَّا حَرَّمَ الله عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) رواه الإمام مسلم عن معقل بن يسار رضي الله عنه.
وبيَّن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم لولاةِ الأمور بأنَّهم سيندمون يوم لا ينفع فيه الندم, إذا غدروا وغشُّوا رعيَّتهم, فقال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (وَيْلٌ لِلْأُمَرَاءِ, وَيْلٌ لِلْعُرَفَاءِ, وَيْلٌ لِلْأُمَنَاءِ, لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ ذَوَائِبَهُمْ كَانَتْ مُعَلَّقَةً بِالثُّرَيَّا, يَتَذَبْذَبُونَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ, وَلَمْ يَكُونُوا عَمِلُوا عَلَى شَيْءٍ) رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه.
من هذا المنطلق وجَّه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الأمة كلَّها من راعيها إلى رعيتها, ومن حاكمها وإلى محكومها إلى الصدق, فقال: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ, فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ, وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ, وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله صِدِّيقًا, وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ, فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ, وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ, وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله كَذَّابًا) رواه الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:يا عباد الله, أتوجه إلى كلِّ راعٍ وحاكمٍ ومسؤولٍ وأقول له: عليك بالصدق مع رعيَّتك, فإِن صَدَقْتَهَا صَدَقَتْكَ, وإِن كَذَبْتَهَا كَذَبَتْكَ, فأنت القدوة والإمام, صَلاحُكَ صَلاحُهَا, وفَسادُكَ فَسادُهَا, فإن وجدت الرعية تكذب عليك فاعلم بأنَّها اسْتَقَتْ ذلك منك.
أيها الإخوة: نِعْمَ المجتمع مجتمعٌ كان فيه الراعي والرعيَّةُ, والحاكمُ والمحكومُ, من أهل الصدق, وبئس المجتمع مجتمعٌ كان فيه الراعي والرعيَّةُ, والحاكمُ والمحكومُ, من أهل الكذب.
يا عباد الله: الصدق أمانةٌ والكذب خيانةٌ, فعلينا بالصدق حكَّاماً ومحكومين, وإيَّانا والكذب حكَّاماً ومحكومين.
أقول هذا القول, وأستغفر الله العظيم لي ولكم, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 12/صفر/1433 هـ الموافق: 6/كانون الثاني/2012م