سُورَةُ مَرْيَمَ
(19)
هِيَ مَكِيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فقدْ أَخْرَجَ أَبو جعفر النَّحَّاسُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ مَرْيَم بِمَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ أُمِّ المُؤمِنِينَ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها وأَرْضاهَا، قَالَتْ: نَزَلَتْ سُورَة مَرْيَم بِمَكَّةَ.
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ» قَوْلًا بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها} مَرْيَم الْآيَةَ: 71، مَدَنِيٌّ، وَلَمْ يَعْزُهُ لِقَائِلٍ. وَرويَ عَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ آيَةَ السَّجْدَةِ مِنْها مَدَنِيَّةٌ. وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَسْتَقِيمُ، لِاتِّصَالِ تِلْكَ الْآيَةِ بِالْآيَاتِ قَبْلَهَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ أُلْحِقَتْ بِهَا فِي النُّزُولِ، وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَاسْمُها فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَأَكْثَرِ كُتُبِ السُّنَّةِ سُورَةُ (مَرْيَمَ). وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّهَا بُسِطَتْ فِيهَا قِصَّةُ مَرْيَمَ وَابْنِهَا وَأَهْلِهَا قَبْلَ أَنْ تُفَصَّلَ فِي غَيْرِهَا. وَقد رُوِيَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقَدْ وَرَدَ فِيما رَوَاهُ الأَئِمَّةُ: أَحْمَدُ، والطَّبَرَانِيُّ في مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالدَّيْلَمَيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ، وَالْحَاكِمُ: عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْغَسَّانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي مَرْيَمَ ـ رَضيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ وُلِدَتْ لِيَ اللَّيْلَةَ جَارِيَةٌ، فَقَالَ: ((وَاللَّيْلَةَ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ مَرْيَمَ فَسَمِّهَا مَرْيَمَ)). وأَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ (54/246). والكُنى والأسماءُ لأَبي بِشْرٍ الأَنْصَارِيِّ الدُولابِي الرَّازِيِّ: (1/158). فَكَانَ يُكَنَّى أَبَا مَرْيَمَ، وَاشْتُهِرَ بِكُنْيَتِهِ.
وَسَمَّاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، سُورَةَ (كهيعص)، وَكَذَلِكَ وَقَعَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ وَأَصَحِّهَا. وَلَمْ يَعُدَّهَا جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطيُّ فِي (الْإِتْقَانِ) فِي عِدَادِ السُّوَرِ الْمُسَمَّاةِ بِاسْمَيْنِ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَرَ الثَّانِيَ اسْمًا.
وَهِيَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ فَاطِرٍ وَقَبْلَ سُورَةِ طه. وَكَانَ نُزُولُ سُورَةِ طه قَبْلَ إِسْلَامِ سيِّدِنا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قِصَّةِ إِسْلَامِهِ فَيَكُونُ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ أَثْنَاءَ سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنَ الْبَعْثَةِ مَعَ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَلَيْسَ أَبُو مَرْيَمَ هَذَا مَعْدُودًا فِي الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ فَلَا أَحْسَبُ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ مَقْبُولًا. وَلَا يُشْبِهُهَا فِي ذَلِكَ إِلَّا سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ الَّتِي نَزَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ.
أَمَّا عَدَدُ آياتِها فَثَمَانٌ وَتِسْعُونَ آيَةً فِي عَدَدِ أَهْلِ الشَّامِ وَالْكُوفَةِ، وَهيَ فِي عَدَدِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ المُباركةَ نَزَلَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ فِيمَا اقْتَرَفُوهُ مِنَ الْقَوْلِ الشَّنِيعِ فِي السيِّدةِ مَرْيَمَ وَابْنِهَا ـ عَلَيْهِمَا الصلاةُ والسَّلامُ، وَبَيَانِ كَرَامَةِ مَرْيَمَ العذراءِ بِخَارِقِ الْعَادَةِ فِي حَمْلِهَا، وَقَدَاسَةِ وَلَدِهَا، وَهُوَ إِرْهَاصٌ لِنُبُوَّةِ سيدِنا عِيسَى المَسيحِ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمِثْلُهُ كَلَامُهُ فِي المَهْدِ أَيْضًا. فَكَانَ فِيهَا بَيَانُ نَزَاهَةِ آلِ عِمْرَانَ وَقَدَاسَتِهِمْ فِي الْخَيْرِ والهُدَى. وَهَلْ يُثْبِتُ الْخَطِّيَّ إِلَّا وَشِيجُهُ؟!.
ثُمَّ للتَّنْوِيهِ بِجَمْعٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ أَسْلَافِ الصالحينَ هَؤُلَاءِ، وَقَرَابَتِهِمْ ـ عَلَى نَبِيِّنا وَعَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَلامُ جَمِيعًا.
وَلِلْإِنْحَاءِ باللومِ عَلَى بَعْضِ خَلَفِهِمْ مِنْ ذُرِّيَّاتِهِمُ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مثلَهم ولمْ يَسِيروا عَلَى سَنَنِهِمْ فِي الْبِّرِ، مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، بَلْ أَتَوْا بِفَاحِشِ الْقَوْلِ، إِذْ نَسَبَوا الولَدَ للهِ تَعَالى، وَأَضافَ النَّصَارَى مِنْهُمُ الزَّوْجَةَ أَيْضًا لَهُ سُبْحانَهُ، تَعَالى اللهُ عَنْ ذَلِكَ علوًّا كبيرًا، وَذِكْرِ ضَرْبٍ مِنْ كُفْرِهِمْ بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ للهِ تَعَالَى. كَمَا أَنَّ الْمُشْرِكُينَ مِنْهُمُ أَنْكَروا القيَامَةَ وَالْبَعْثَ للحِسَابَ والجَزاءِ.
وَلِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ الكَريمِ، الذي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى سيِّدِنا وَنَبِيِّنا مُحَمَّدٍ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وَتَبْشِيرِهِ وَنِذَارَتِهِ، وَأَنَّ اللهَ يَسَّرَ القُرْآنَ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا، وَذَلِكَ لِيُسْرِ تِلْكَ اللُّغَةَ المُقَدَّسَةِ. وَللتَّنْوِيهِ بِمِلَّتِهِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَنَّهُ بَشِيرٌ لِأَوْلِيَائِهِ وَنَذِيرٌ بِهَلَاكِ مُعَانَدِيهِ كَمَا هَلَكَتْ قُرُونٌ قَبْلَهُمْ. وَلإِنْذَارِهِمْ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الكافِرينَ، مِمَّا حَلَّ بِمُكَذِّبِي تِلْكَ الْأُمَمِ البائدَةِ مِنَ عَذَابِ الاسْتِئْصَالِ.
كَمَا اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ المُبارَكَةُ عَلَى بَيَانِ كَرَامَةِ نَبِيِّ اللهِ زَكَرِيّا ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عندَ ربِّهِ في إِجَابَةِ اللهِ دُعَاءَهُ، إِذْ رَزَقَهُ بِيَحْيَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَلَدًا نَبِيًّا مِنَ الصالِحينَ، بِرَغْمِ كِبَرِ سَنِّهِ وَتقدُّمِ امْرَأَتِهِ في العُمرِ، وَكَوْنِهَا عَاقرًا أَيضًا. وللتَنْويهِ بِعَظِيمِ شَأْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ، وَمُوسَى، وَإِسْمَاعِيلَ، وَإِدْرِيسَ ـ عَلى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ.
وَفيها أَيضًا وَصْفُ الْجَنَّةِ وَأَهْلِهَا. وَحِكَايَةُ إِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ الْبَعْثَ بِمَقَالَةِ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، وَالْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وتَبَجُّحِهم عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمَقَامِهِمْ وَمَجَامِعِهِمْ. وَإِنْذَارُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهم سَيَنْدَمُونَ عَلَى اتِّخَاذِ أَصْنَامِهِمُ الَّتِي اعْتَزُّوا بِهَا، آلهةً وأَرْبابًا لهم مِنْ دونِ اللهِ ـ تَعَالَى. وَفيها وَعْدٌ للرَّسُولِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، بِالنَّصْرَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى كُلِّ أَعْدَائِهِ.
وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ صِفَةُ "الرَّحْمَنِ" سِتَّ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَذُكِرَ اسْمُ الرَّحْمَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَأَنْبَأَ بِأَنَّ مِنْ مَقَاصِدِهَا تَحْقِيقُ وَصْفِ اللهِ.