وتَقَوَّى الكفيون بقراءةِ عبدِ الله وأُبَيّ وعثمان: "وإِن كان ذا عُسْرةٍ" أَيْ: وإِنْ كانَ الغَريمُ ذا عُسْرَةٍ. قالَ أَبُو عَلِيٍّ الفارسيُّ: في "كان" اسمُها ضميرًا، تقديرُه: هو، أي الغريمُ، يَدُلُّ على إضمارِهِ ما تقدَّم من الكلامِ، لأنَّ المُرابي لا بُدَّ له مِمَّنْ يُرابيه.
واسْتَشْكَلَ بَعْضُ المُسْتَشْرِقينَ هَذِهِ الآيَةَ، وظنَّوا أَنَّهم وجَدوا في الإسلامِ ثغرةً لينفُذوا منها، إلى الطعنِ في هذا الدينِ من خلالِ الطعنِ في قرآنِه ودستوره وأنَّهُ من عندِ الله فقالوا: نُريدُ أَنْ نَبْحَثَ مَعَ عُلَماءِ القُرآنِ عَنْ خَبَرِ "كانَ" في قولِهِ: "وإنْ كانَ ذو عُسْرَةٍ" ذَلِكَ لأَنَّهم دَرَسُوا العَرَبيَّةَ، صناعةً، لكنَّها عزَّت عليهم مَلَكَةً وفَهْمًا؛ فاللُّغَةُ لَيسَتْ صِنَاعَةً فَقَطْ، إنَّما هِيَ مَلَكَةٌ وطَبْعٌ ووِجْدانٌ. وقالوا: إنَّ القرآنَ يَفُوتُهُ بَعْضُ التَقْعيداتِ التي تُقَعِّدُها لُغَتُهُ. وكانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ "كان" قدْ تَأْتي تامَّةً أَيْضًا، أَيْ تَكْتَفي بالمَرْفوعِ ولَيْسَ لَهَا خَبَرٌ. فكُلُّ فِعْلٍ مِنَ الأَفْعَالِ يَدُلُّ عَلَى حُدُثٍ وزَمَنٍ، وكَلِمَةُ "كانْ" إذا سَمِعْتَها دَلَّتْ عَلَى وُجُودٍ وحَدَثٍ مُطْلَقٍ لَمْ تُبَيَّنْ فِيهِ الحالَةُ الَّتي عَلَيْها اسْمُها، مِثْلُ: كانَ مُجْتَهِدًا أَوْ كانَ كَسُولًا، فهِيَ تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ مُطْلَقٍ، أَيْ لَيْسَ لَهُ حالَةٌ، ومَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ "كان" دَلَّتْ عَلَى الزَّمَنِ الوُجُودِيِّ المُطْلَقِ، أَيْ: عَلَى المَعْنَى المُجَرَّدِ النَّاقِصِ، والشَيْءُ المُطْلَقُ لا يَظهَرُ المُرادُ مِنْهُ إلَّا إذا قُيِّدَ، فإنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدُلَّ عَلَى وُجُودٍ مُقَيَّدٍ لِيَتَّضِحَ المَعْنَى، ويَظْهَرَ، فلَا بُدَّ أَنْ تَأْتِيها بِخَبَرٍ، كأَنْ تَقُولَ: كانَ زَيْدٌ مُجْتَهِدًا، فهُنَا وُجِدَ شيءٌ خاصٌّ وهو اجْتِهادُ زَيْدٍ. إِذًا ف "كَانَ" هنا ناقصةٌ تَطلُبُ الخَبَرَ لِيُكَمِّلَها ولِيُعْطِيَها الوُجُودَ الخاصَّ، فإذا لَمْ يَكُنِ الأَمْرُ كَذَلِكَ وأَرَدْنَا الوُجُودَ فَقَطْ، تَكونُ "كَانَ" تامَّةً أَيْ تَكْتَفي بِمَرْفوعِها فقط، كَأَنْ تَقُولَ: عادَ الغائِبُ فَكانَ الفَرَحُ، أي: وُجِدَ، أَوْ أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ فَكانَ النُّورُ، ومن ذلك قولُ أبي تَمَّامٍ الطائيِّ في انتصار بعضِ القادة في بابك بإقليم أذربيجان:
وكانَتْ ولَيْسَ الصُّبْحُ فِيها بِأَبْيَضٍ .... وأَضْحَتْ ولَيْسَ اللَّيْلُ فِيها بِأَسْوَدِوقبله:
جلوتَ الدُّجى عَنْ أَذَرْبيجانَ بعدَما ......... تَرَدَّتْ بلونٍ كالغَمامَةِ أَرْبَدِ
فقولُهُ: "وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ" أَيْ فإنْ وُجِدَ ذُو عُسْرَةٍ، أَيْ إِنْ وُجِدَ إِنْسانٌ لَيْسَ عِنْدَهُ قُدْرَةٌ عَلَى السِّدادِ، "فَنَظِرَةٌ" مِنَ الدائِنِ "إلى مَيْسَرَةٍ" أَيْ: إِلَى أَنْ يَتَيَسَّرَ، ويَكونُ رَأْسُ المالِ في هذِهِ الحالَةِ {قَرْضًا حَسَنًا}، فيصْبرُ الدائنُ على المدين، وكلَّما صَبَرَ عَلَيْهِ لَحْظَةً أَعْطَاهُ اللهُ عَلَيْها ثوابًا والعُسْرَةُ بِمَعْنَى العُسْرِ.
وقرَأَ العامَّةُ: "نَظِرَةٌ" بِزِنَةِ "نَبِقَةٍ". وقرَأَ الحَسَنُ ومُجاهِدٌ وأَبو رَجاءٍ: "فَنَظْرةٌ" بِتَسْكِينِ العَيْنِ، وهِيَ لُغَةٌ تَميمِيَّةٌ، يَقولُونَ: "كَبْد" في "كَبِدٍ" و "كتْفٌ" في "كَتِفٍ". وقَرَأَ عَطاءٌ: "فنَاظِرَةٌ" عَلَى فاعِلَةٍ، وقدْ خَرَّجَهَا أَبُو إِسْحاق على أَنَّها مَصْدَرٌ نَحْو قولِهِ تعالى في سورةِ الواقعةِ: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةً} الآية: 2، وكقولِهِ في سورة غافر: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُن} الآية: 19، وكقولِهِ في الآية: 25، من سورةِ القيامة: {أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} وقال الزمخشري: ف "ناظِرُهُ" أي: فَصاحبُ الحَقِّ ناظِرُهُ، أَيْ: مُنْتَظِرُهُ، أَوْ صاحبُ نظْرَتِهِ على طَريقَةِ النَسْبِ، كَقَوْلِهِم: "مَكانٌ عاشِبٌ وباقِلٌ" بمعنى ذُو عُشْبٍ وذو بَقْلٍ، وعنه: "فناظِرْهُ" على الأمرِ بِمعنَى: فَسَامِحْهُ بالنَّظْرةِ وباشِرْهُ بِها، فنَقْلُهُ القراءةَ الأولى عنه يَقتضي أنْ تكونَ قراءتُهُ "ناظِر" اسمَ فاعل مضافاً لضميرِ ذي العُسْرَةِ بخلافِ القراءةِ التي قَدَّمْتُها عن عطاء، فإنَّها "ناظرةٌ" بتاء التأنيث، ولذلك خَرَّجها الزَّجَّاجُ عَلى المَصْدَرِ. وقرَأَ عبْدُ اللهِ، "فناظِرُوه" أَمْرًا للجماعةِ بالنَّظْرَةِ، فهذِهِ سِتُّ قراءاتٍ مَشْهورُها واحِدٌ. وهذِه الجُمْلةُ لفظُها خبرٌ ومعناها الأَمْرُ، كَقَوْلِهِ تعالى في سورةِ البَقَرةِ: {والوالداتُ يُرْضِعْنَ} الآية: 233. وقد تقدَّم. والنَّظْرةُ مِنَ الانْتِظارِ وهوَ الصَّبْرُ والإِمهالُ.