فيض العليم .... سورة هود، الآية: 118
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: على دينٍ واحدٍ، وملَّةٍ واحدةٍ، فقد أخرج الطبريُّ بسندِهِ الحسَنِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً" يَقولُ: لَجَعَلَهُمْ مُسْلِمينَ كُلَّهم. فالْأُمَّةُ: الطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ اتَّحَدُوا فِي أَمْرٍ مِنْ عَظَائِمِ أُمُورِ الْحَيَاةِ كَالْمَوْطِنِ وَاللُّغَةِ وَالنَّسَبِ وَالدِّينِ، فَتُفَسَّرُ الْأُمَّةُ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ إِضَافَتُهَا إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ تَكْوِينِهَا كَمَا يُقَالُ: الْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ وَالْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ. وَمَعْنَى كَوْنِهَا وَاحِدَةً أَنْ يَكُونَ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى اتِّبَاعِ دِينِ الْحَقِّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَلَوْ شَاءَ لَخَلَقَ الْعُقُولَ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى إِلْهَامٍ مُتَّحِدٍ لَا تَعْدُوهُ كَمَا خَلَقَ إِدْرَاكَ الْحَيَوَانَاتِ الْعُجْمِ عَلَى نِظَامٍ لَا تَتَخَطَّاهُ مِنْ أَوَّلِ النَّشْأَةِ إِلَى انْقِضَاءِ الْعَالَمِ، فَنَجِدُ حَالَ الْبَعِيرِ وَالشَّاةِ فِي زَمَنِ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَحَالِهِمَا فِي زَمَانِنَا هَذَا، وَكَذَلِكَ يَكُونُ إِلَى انْقِرَاضِ الْعَالَمِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ حِكْمَةَ اللهِ اقْتَضَتْ هَذَا النِّظَامَ فِي الْعَقْلِ الْإِنْسَانِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْفَى بِإِقَامَةِ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى مِنْ مَسَاعِي الْبَشَرِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الزَّائِلَةِ الْمَخْلُوطَةِ، لِيَنْتَقِلُوا مِنْهَا إِلَى عَالَمِ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الْخَالِصَةِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، هكذا اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ البالغةُ سبحانَه، أَنْ يكونوا على اختلافٍ فيما بينَهم في العقائدِ، لأنَّهم مختلفون في العقلِ والفكرِ، ذلك ليكونَ في حياتهم نشاطٌ وحيويَّةٌ، ويُعْمِلُ عقلهُ وفكرهُ، ولو كانوا بعقلٍ واحدٍ وفكرٍ واحدٍ، لانعدمتْ أسبابُ إعمالِ العقلِ والتفكيرِ، وتساووا في الأَعْمالِ، فلم يكنْ هناك خيرٌ وشرٌّ، ولا تفاضل ولا تمايزَ، ولما كانَ ثَمَّةَ حاجةٌ لنقاشٍ ولا إلى حِوارٍ، ولا لأيِّ تفاعُلٍ بينهم، ولترتَّبَ على ذلك أن يكونوا في الآخرةِ كذلكَ، في مَكانٍ واحدٍ ورُتْبَةٍ واحدَةٍ، ولا تمايُزَ بينَهم، ونظيرُهُ قولهُ تعالى في سورةِ يُونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} الآية: 99.
قولُهُ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} أي: ولا يَزَالُ الخُلْفُ بَيْنَ النَّاسِ في أَدْيانِهم واعْتِقاداتِ مِلَلِهم ونِحَلِهم ومَذَاهِبِهم وآرائهم، قال عِكْرِمَةُ والضحّاكُ وغيرُهما ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم: "مُخْتَلِفِينَ" في الهُدَى. فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ في تفسيرِهِ عَنِ الضَّحَّاك: "وَلَو شَاءَ رَبك لجعل النَّاس أمة وَاحِدَة" قَالَ: أَهْلَ دِينٍ وَاحِدٍ، أَهْلَ ضَلَالَةٍ أَوْ أَهْلَ هُدى. وقالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "مُخْتَلِفِينَ" في الرِّزْقِ، يُسَخِّرُ بَعْضُهُم بعضًا، والمشهورُ الأَقرَبُ للسِّيَاقِ هُنَا القَوْلُ الأَوَّلُ، واللهُ أَعْلَمُ. ذلك لتكونَ الحياةُ عامرةً بالحركةِ والنشاطِ، كلٌّ يقدِّمُ حجَّتهُ وبراهينَهُ على صوابِ فِكْرهِ وصحيحِ معتقدِهِ، ويدعوا إلى دينِهِ ومنهجهِ فيثيبُ اللهُ من يشاءُ ويعاقبُ منْ يشاء كلٌّ بما قدَّمَ من قولٍ وعملٍ، بحسب المشيئةِ الإلهيةِ، ولا يَزَالُ هذا شَأْنُهم إلى قيامِ السَّاعَةِ، وهذا يترتَّبُ عليه أمرانِ، أَوَّلُهما: أنْ يَبْذُلَ المَرْءُ جُهْدَهُ وَيَعمَلَ وُسْعَهُ في البحثِ عن الحقيقةِ، والنهجِ الصحيحِ، بكلِّ ما آتاهُ اللهُ من عقلٍ، ثمَّ يدعوا غيرَهُ إلى ما توصَّلَ إليه بحثُهُ ولكنْ برفقٍ ولينٍ وحكمةً كما أمرَ اللهُ تعالى في سورة النحلِ بقولهِ: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} الآية: 125. ثانيهما: أنْ يعْذُرَ كلٌّ أَخاهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا ذهَبَ إِلَيهِ تفكيرُه، وما تَوَصَّلَ إِلَيهِ بحثُهُ، يُبَيِّنُ له ما يراهُ حقًّا إِنَّما لا يَحْمِلُ عَلَيْهِ ولا يَحْقِدُ ولا يُعاديهِ، لِفِكْرِهِ ومُعْتَقَدِهِ، ويدعوا لَهُ بالهِدايةِ والصَّلاحِ، وإنَّما يُنْكِرُ عَلَيْهِ السيِّءَ مِنْ فِعْلِهِ، ويحاولُ منعَهُ منْ ظلمِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ لنا آنفًا في تَفْسيرِنا للآيةِ التي قَبْلَها، أَنَّ اللهُ سُبْحَانهُ ما أَهْلَكَ مَنْ أَهْلَكَ مِنْ أُمِمٍ سالفةٍ إِلاَّ بِظُلْمِ بعضِهم لبعضٍ فيما بينهم، ولَم يعاقبهم على كُفْرهم وشِرْكهم، لأَنَّ الحِسَابَ عَلى الكفرِ والشركِ إِنَّما يكونُ في الآخِرَةِ.
قولُهُ تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ. و "لو: حَرْفُ شَرْطٍ غيرُ جازمةٍ. و "شَاءَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، و "رَبُّكَ"، فاعلٌ مرفوعٌ وهو مضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ جرِّ مضافٍ إليْهِ والجُمْلَةُ فِعْلُ شَرْطٍ لِـ "لو". و "لَجَعَلَ" اللامُ: رابِطَةٌ لِجَوابِ "لو" الشرطيَّةِ، و "جعلَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، والفاعِلُ ضميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يعودُ على "ربَّك". و "النَّاسَ أُمَّةً" مفعولانِ ل "جَعلَ" و "وَاحِدَةً" صِفَةٌ لِـ "أمةً"، وجُمْلَةُ "جعلَ" جَوابُ "لو" الشرطيَّةِ، وجُمْلَةُ "لو" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} الوَاوُ: عاطفةٌ، و "لَا يَزَالُونَ" فعلٌ مُضارِعٌ ناقِصٌ ناسخٌ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ من الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ من الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفْعِ اسْمِهِ. و "مُخْتَلِفِينَ" خَبَرُهُ منصوبٌ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّر السالمُ، والنونُ عِوَضٌ عن التنوينِ في الاسمِ المفردِ، وهذه الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "لو شاءَ" الشرطيُّةِ.