فيض العليم .... سورة هود، الآية: 114
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
قولُهُ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} عاد الخطابُ إلى رسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كَما كانَ في الآيَةِ الثانية عَشْرَةَ، بعدَ أَنْ وُجِّهَ إلى المُؤْمِنينَ عامَّةً في الآيَةِ الثالثة عَشْرَةَ، وذَلكَ لأَنَّ مَضْمُونَ الآيَتَيْنِ عَلاقَةٌ مَعَهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالى، لِذَلِكَ خُصَّ بشرَفِ الخِطابِ وحَدَهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، أَمَّا مَضْمُونُ الآيَةِ الثالِثة عشرَةَ فهُوَ علاقةٌ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ عَامَّةً والكافِرِين، والرُّكونُ إلى الكفَّارِ إنَّما احْتِمالُ وُقوعِهِ مُقْتَصِرٌ عَلى المُؤمنينَ، أَمَّا النَبِيُّ الكَريمُ فإنَّ قَلْبَهُ الشَّريفَ في عِصْمَةٍ أَنْ يَرْكَنَ لِغَيْرِ خَالِقِهِ ومَولاهُ، أَوْ أَنْ يَنْشَغِلَ بِأَحَدٍ سِوَاهُ، ولِذَلِكَ فقد خُصَّ بخِطَابِ النَّهْيِ عَنِ الرُّكونِ إِلى الكُفارِ والمُشْرِكين جماعةُ المُؤْمِنينَ لاحْتِمالِ وُقوعِهِ مِنْهمْ، واللهُ أعلم.
والْأَمْرُ بِالْإِقَامَةِ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ عَمَلٌ وَاجِبٌ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ إِيقَاعُ الْعَمَلِ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ، فَتَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ هُنَا الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ المكتوبةُ، أيْ الصلواتُ الخمسُ. والنَّهارِ: مَا بَيْنَ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، سُمِّيَ نَهَارًا لِأَنَّ الضِّيَاءَ يَنْهَرُ فِيهِ، أَيْ يَبْرُزُ كَمَا يَبْرُزُ النَّهْرُ. وَ "زُلَفًا مِّنَ الليْلِ" أَيْ: ساعاتٍ مِنْهُ قَريبَةً مِنَ النَّهارِ، أَيْ أَقيموا الصلاةَ غُدْوَةً وعَشِيَّةً. فإنَّهُ مِنْ أَزْلَفَهُ: إذا قَرَّبَهُ، وتزَلَّفَ فلانٌ إلى فلانٍ: تقرَّبَ منه، وزُلَف: جَمْعٌ مفردُه زُلفةٌ، والزُلْفَةُ أيضًا: المَنْزِلَةُ، فكَأَنَّهُ قالَ: ومَنَازِلَ مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ: ساعاتٍ مِنَ اللِّيْلِ، وقِيلَ إِنَّما سُمِيَتْ (مُزْدَلِفَة) لأنَّها مَنْزِلٌ بَعْدَ عَرَفَة، وقيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لازْدِلافِ آدَمَ مِنْ عَرَفَةَ إلى حواءَ وهيَ بِها، ومِنْهُ قوْلُ العَجَّاجِ في صِفَةِ بَعِيرٍ:
ناجٍ طَوَاهُ الْأَيْنُ مِمَّا وَجَفَا ....................... طَيُّ اللَّيَالِي زُلَفًا فَزُلَفَا
سَمَاؤُهُ الْهِلَالُ حَتَّى احقوقفا
وقَالَ اللَّيْثُ: الزُلْفَةُ طَائِفَةٌ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَالْجَمْعُ الزُّلَفُ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الزُّلَفُ أَوَّلُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ، وَاحِدُهَا زُلْفَةٌ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْأَخْفَشُ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، الزُّلَفُ سَاعَاتُ اللَّيْلِ وَآنَاؤُهُ، وَكُلُّ سَاعَةٍ زلفة. وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الزُّلْفَى وَهِيَ الْقُرْبَةُ، وَيُقَالُ: أَزْلَفَهُ فَازْدَلَفَ أَيْ قَرَّبَهُ فَاقْتَرَبَ، وَأَزْلَفَنِي أَدْنَانِي.
والمُرادُ بصلاةِ طَرَفيِ النهارِ صَلاةُ الصُّبْحِ وصلاةُ العَصْرِ، وقِيلَ: صلاة الظُهْر، مَوْضِعَ العَصْرِ لأَنَّ ما بَعْدَ الزَّوالِ عَشِيٌّ. والمُرادُ بِصَلاةِ الزُلَفِ من الليلِ صلاةُ المَغْرِبِ وصلاةُ العَشاءِ.
فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ ـ رضي اللهُ عنه، فِي قَوْله تعالى: "وَأَقِمِ الصَّلَاة طَرَفَيِ النَّهَارِ"، قَالَ: الْفجْرُ وَالْعَصرُ. وَ "زلفًا من اللَّيْل" قَالَ: هُمَا زُلْفَتَانِ: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَصَلَاةُ الْعِشَاء. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُمَا زُلْفَتَا اللَّيْلِ.
وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ وَابْنُ أَبي حَاتِم عَن ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: "وأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ" قَالَ: صَلَاةُ الْمَغْرِبِ والغَدَاةِ، وَ "زلفًا من اللَّيْلِ" قَالَ: صَلَاةُ الْعَتَمَةِ.
وَأخرج عبدُ الرَّزَّاقِ الصنعانيُّ، وَابْنُ جَريرٍ الطَبريُّ، وَابْنُ أَبي حَاتِم الرازيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} قَالَ: صَلَاةُ الْفجْرِ، وصلاتيْ الْعِشَاءِ، يَعْنِي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ. وَ "زُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ" قَالَ: الْمَغْرِبَ وَالْعشَاءَ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا، ابْنُ الْمُنْذرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، أنَّهُ قالَ: وَ "زُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ" سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ، يَعْنِي صَلَاةَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةَ.
وَأخرجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالطبَريُّ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، أَنَّهُ كَانَ يسْتَحِبُّ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ، وَيقْرَأُ: "وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ".
قولُهُ: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} أي: "إنَّ الحَسَنَات" وعُمْدَتُها الصَلَواتُ التي أُمِرْتَ بِهَا "يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ" أي: يكفِّرنَ السيِّئاتِ التي قَلَّما يَخْلُو مِنْها البَشَرُ، وفي الحديثِ الصحيحِ: ((إِنَّ الصَّلاةَ إلى الصَّلاةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا ما اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرُ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ: (2/359)، ومُسْلِمٌ برقم: (233) والتِرْمِذِيُّ: برقم: (214).
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات" قَالَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، فِي قَوْلِهِ تعالى: "إن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات" قَالَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، و "الباقياتُ الصَّالِحَاتُ" قَالَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ.
وَأخرجَ الطَّيَالِسِيُّ، وَأَحْمَدُ، والدارِمِيُّ وَالطبَريُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَغوِيُّ، فِي مُعْجَمِهِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَن سَلْمَانَ الفارسيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَخَذَ غُصْنًا يَابِسًا مِنْ شَجَرَةٍ، فهَزَّهُ حَتَّى تَحاتَّ وَرَقُهُ، ثمَّ قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثمَّ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، تحاتَتْ خَطاياهُ كَمَا يَتَحاتُّ هَذَا الْوَرَقُ، ثمَّ تَلا هَذِهِ الْآيَةَ: "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ". إِلَى قَوْلِهِ: "لِلذَّاكِرِينَ".
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى المَوْصِليُّ، وَابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ أمير المؤمنينَ عُثْمَانَ بْنِ عفَّانٍ ـ رضي اللهُ عنه، أنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتَوَضَّأُ، ثمَّ قَالَ: ((مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوئي هَذَا، ثمَّ قَامَ فصَلَّى صَلَاةَ الظُّهْرِ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثمَّ صَلَّى الْعَصْرَ، غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، ثمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ، غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، ثمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ، غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، ثمَّ لَعَلَّهُ يَبيتُ يَتَمَرَّغُ لَيْلَتَهُ، ثمَّ إِنْ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى الصُّبْحَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَهُنَّ الْحَسَنَاتِ، يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)). قَالُوا: هَذِه الْحَسَنَاتُ فَمَا الْبَاقِيَاتُ يَا عُثْمَانُ؟ قَالَ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((أَرَأَيْتُم لَوْ أَنَّ بِبَابِ أَحَدِكُم نَهْرًا يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَل يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا)) قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: ((كَذَلِك الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الذُّنُوبَ والخَطايَا)). وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عبد اللهِ الأنصاريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَريبًا منه. وَأَخرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رضي اللهُ عنه، أيضًا قَريبًا منه. وَأخرج أيضًا عَن عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ـ رضي اللهُ عنهُ، قَريبًا مِنْ ذلك. وَأخرجَ الْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلى، وَمُحَمّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَابْن مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رضي اللهُ عَنْهُ مِثْلَ ذلك. وَأخرج أَحْمدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، فِي الْأَوْسَطِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ بِسَنَد صَحِيحٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ ـ رضي اللهُ عنهما، قَالَ: سَمِعتُ سَعْدًا وناسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُونَ: كَانَ رَجُلَانِ أَخَوانِ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ مِنَ الآخَرِ فَتُوُفِّيَ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُهُما، وَعمَّرَ الآخَرُ بعدَهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثمَّ تُوُفِّيَ، فَذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضْلُ الأَوَّلِ عَلَى الْآخَرِ، قَالَ: ((أَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي؟)) قَالُوا: بلَى يَا رَسُول الله. فَقَالَ: ((مَا يُدْريكم مَا بَلَغَتْ بِهِ صلَاتُهُ؟)) ثمَّ قَالَ عِنْد ذَلِك: ((إِنَّمَا مَثَلُ الصَّلَوَاتِ كَمَثَلِ نَهْرٍ جَارٍ بِبَابِ أَحَدِكُم، غَمْرٌ عَذْبٌ يَقْتَحِمُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَمَاذَا ترَوْنَ يَبْقى مِنْ دَرَنِهِ؟)).
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ أَبي ذَرٍّ الغِفارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِنِي. قَالَ: ((اتَّقِ اللهَ، إِذا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَأَتْبِعْها حَسَنَةً تَمْحُها)) قَالَ: قلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَمِنَ الْحَسَنَاتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟. قَالَ: ((هِيَ أَفْضَلُ الْحَسَنَات)). وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا قَالَ عَبْدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إِلَّا طَلَسَتْ مَا فِي الصَّحِيفَةِ مِنَ السَّيِّئاتِ، حَتَّى تَسْكُنَ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْحَسَنَاتِ)).
وَأخرجَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ. فَلَمْ يَسْأَلُهُ عَنْهُ. وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ، قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فأَقِمْ عَليَّ كِتَابَ اللهِ. قَالَ: ((أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟)). قَالَ: نعم. قَالَ: ((فَإِنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ)).
قولُهُ: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} أَيْ: تَوْبَةً للتائِبينَ، وعِظَةً للمُتَّعِظين. ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَنِّهُ قالَ: ((واتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُها))
وأَمَّا ما وَرَدَ في سَبَبِ نُزولِ هَذِهِ الآيَةِ الكريمةِ فإنَّهُ كثيرٌ، من ذلك ما أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رضي اللهُ عنه، أنَّه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنِّي لَقِيتُ امْرَأَةً فِي الْبُسْتَانِ فَضَمَمْتُها إِلَيَّ وقَبَّلتُها وباشَرْتُها، وَفَعَلْتُ بِهَا كُلَّ شَيْءٍ، إِلَّا أَنِّي لَمْ أُجامِعْها، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأنْزَلَ اللهُ تعالى: "وأَقِمِ الصَّلَاة طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ" فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَها عَلَيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ ـ رضي اللهُ عنه: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَهُ خَاصَّةً؟. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بَلْ للنَّاسِ كَافَّةً)). وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسلمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ ماجَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ حِبَّان، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتى النَّبِيَّ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ كَأَنَّهُ يسْأَلُ عَنْ كَفَّارَتِها فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: "وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفِيِ النَّهَار وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ" فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَلِيَ هَذِهِ؟. قَالَ: هِيَ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وهَنّاد، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّان، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْه، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رضِيَ اللهُ عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً فِي الْبُسْتَانِ فَفَعَلْتُ بِهَا كلَّ شَيْءٍ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أُجامِعْها، قَبَّلْتُها ولَزِمْتُها، وَلَمْ أَفْعَلْ غَيْرَ ذَلِكَ فافْعَلْ بِي مَا شِئْتَ. فَلم يَقُلِ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَيْئًا، فَذَهَبَ الرَّجُلُ، فَقَالَ عُمَرُ ـ رضيَ اللهُ عنه: لَقَدْ سَتَرَ اللهُ عَلَيْهِ لَوْ سَتَرَ عَلى نَفْسِهِ. فَأتْبَعَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَصَرَهُ، فَقَالَ: ((رُدُّوهُ عَلَيَّ)). فَردُّوهُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ: "وأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ" الْآيَة. فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَهُ وَحْدَهُ، أَمْ للنَّاسِ كَافَّةً؟. فَقَالَ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((بَلْ للنَّاسِ كَافَّةً)).
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَبي الْيُسْرِ، قَالَ: أَتَتْنِي امْرَأَةٌ تَبْتَاعُ تَمْرًا فَقُلْتُ: إِنَّ فِي الْبَيْتِ تَمْرًا أَطْيَبَ مِنْهُ. فَدَخَلَتْ مَعِيَ الْبَيْتَ فَأَهْوَيْتُ إِلَيْهَا فَقَبَّلْتُهَا، فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ ـ رضي اللهُ عنْهُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: اسْتُرْ عَلى نَفْسِكَ وَتُبْ. فَأَتَيْتُ عُمَرَ ـ رضي اللهُ عنهُ، فَذكرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ وَتُبْ، وَلَا تُخْبِرْ أَحَدًا. فَلَمْ أَصْبِرْ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْتُ ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: ((أَخَلَفْتَ غازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ فِي أَهْلِهِ بِمِثْلِ هَذَا؟)). حَتَّى تَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ إِلَّا تِلْكَ السَّاعَةَ، حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وأَطْرَقَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، طَويلًا حَتَّى أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: "وأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ" إِلَى قَوْلِهِ "لِلذَّاكِرِينَ"، قَالَ أَبُو الْيُسْر: فَأَتَيْتُهُ فَقَرَأَها عَليَّ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلِهَذَا خَاصَّةً، قَالَ: ((بَلْ للنَّاسِ كَافَّةً)). والرواياتُ في هذه كثيرةٌ، وكلُّها متقاربةٌ.
قولُهُ تَعَالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، أو عاطفةٌ. و "أَقِم" فِعْلُ أمرٍ مبنيٌّ على السكونِ الظاهرِ، وفاعِلُهُ مستترٌ فيه وجوبًا تقديرُهُ "أنتَ" يَعودُ عَلى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ، و "الصلاةَ" مفعولٌ بهِ منصوبٌ، والجملةُ مستأنَفةٌ، أو معْطوفَةٌ على جملة قولِهِ: {فَاسْتَقِمْ} الطلبيَّةِ وعلى كلا الوجهين لا مَحلَّ لها من الإعراب. و "طَرَفَيِ" منصوبٌ على الظَّرْفِيَّةِ الزمانيَّةِ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ لأنَّهُ مثنّى، مُتَعَلِّقٌ بِ "أَقِمْ"، فهو ظَرْفٌ لهُ، ويَضْعَفُ أَنْ يَكونَ ظَرْفًا للصَّلاةِ، كأَنَّهُ قيلَ: أيْ: أَقِمِ الصَّلاةَ الواقعةَ في هَذَيْنِ الوَقْتَيْنِ، والطَرَفُ وإنْ لَمْ يَكُنْ ظَرْفًا، ولكنَّهُ لمَّا أُضيفَ إلى الظَّرْفِ أُعْرِبَ بإعْرابِه، وهو كقولِكَ: أَتيتُهُ أَوِّلَ النَّهارِ وآخرَهُ ومُنْتَصْفَ اللَّيْلِ، بِنَصْبِ هذِهِ كُلِّها عَلى الظَّرْفِ لمَّا أُضيفَتْ إِليهِ، وإنْ كانَتْ لَيْسَتْ مَوضوعَةً للظَّرْفِيَّةِ. وهو مُضافٌ، و "النَّهَارِ" مجرورٌ بالإضافَةِ إليه. وَ "زُلَفًا" مَنْصوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ الزمانيَّةِ عطفًا على "طَرَفَيِ" وهوَ الأَظْهَرُ إِذِ المُرادُ بِها ساعاتُ اللَّيْلِ القريبَةِ، ويجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ انْتِصابَ المَفْعولِ بِهِ نَسَقًا عَلى الصَّلاةِ. لأنَّهُ قيلَ: زُلَفًا مِنَ الليلِ وقُرْبًا مِنَ اللَّيلِ، وحَقُّها عَلى هذا أنْ تُعْطَفَ على الصلاةِ، أَيْ: أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفيِ النَّهارِ، وأَقِمْ زُلَفًا مِنَ الليلِ، عَلى مَعْنَى: صَلواتٍ تَتَقَرَّبُ بِها إلى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ في بَعْضِ اللَّيْلِ. و "مِنَ اللَّيْلِ" جارٌّ ومجرورٌ صفةً لِ "زُلفًا".
قولُهُ: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} إِنَّ: حرفٌ ناصبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، و "الْحَسَنَاتِ" اسمُهُ منصوبٌ به وعلامةُ نصبِهِ الكسرةُ نيابةً عن الفتحةِ لأنَّهُ جمعُ المؤنَّثِ السالمُ. و "يُذْهِبْنَ" فعلٌ مضارعٌ مبني على السكونِ لاتَّصالِهِ بضمير ِ رفعٍ متحرِّكٌ هو نونُ النسوةِ، ونونُ النِّسوةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ رفعِ فاعِلِه، و "السَّيِّئَاتِ" مفعولٌ به منصوبٌ وعلامةُ نَصْبِهِ الكسرةُ نيابةً عن الفتحةِ لأنَّهُ جمعُ المؤنثِ السالمُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرِ "إنَّ"، وجُمْلَةُ "إنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ ما قبلَهَا.
قولُهُ: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} ذَلِكَ: "ذا" اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ مبتدأٍ، واللامُ: للبُعْدِ والكافُ: للخطابِ، و "ذِكْرَى" خَبَرُهُ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ المقدَّرةُ على آخرِهِ لتعذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ. و "لِلذَّاكِرِينَ" حرف جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "ذِكْرَى" واسمٌ مجرورٌ بحرف الجرِّ وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّه جمعُ المذكَّرِ السالِمُ، والنونُ عِوَضٌ عن التنوينِ في الاسمِ المفرَدِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها منَ الإعراب.
وقرأَ العامَّةُ: {زُلَفًا} بِضَمِّ الزايِ وفَتْحِ اللامِ، وهيَ جَمْعُ "زُلْفة" بِسُكونِ اللامِ، نَحْوَ: غُرَفٍ في جَمْعِ غُرْفَةٍ، وظُلَمٍ في جمعِ ظُلْمةٍ.
وقرأَ أَبو جَعْفَرَ، وابْنُ أَبي إِسْحاقَ بِضَمِّها، وفي هذِهِ القِراءةِ ثلاثةُ أوجُهٍ: أَحَدُها: أَنَّه جمعُ زُلْفَةٍ أَيْضًا، والضمُّ للإِتْباعِ، كَمَا قالوا: "بُسْرةٌ" و "بُسُرٌ" بِضَمِّ السِّينِ إِتْباعًا لِضَمَّةِ الباءِ. والثاني: أَنَّهُ اسْمٌ مُفْرَدٌ عَلى هَذِهِ الزِّنَةِ كَ "عُنُق" ونحوِهِ. والثالث: أَنَّهُ جَمْعُ زَلِيفٍ، قالَ أَبو البَقاءِ: وقد نُطِقَ بِهِ. يَعْنِي أَنَّهم قالوا: "زَليف"، وفَعيل يُجمع على فُعُلٍ نَحْوَ: رَغِيفٍ ورُغُفٍ، وقَضِيبٍ وقُضُبٍ.
وقرأَ مُجاهِدٌ وابْنُ مُحَيْصِنٍ بإِسْكانِ اللامِ. وفيها وجهان، أَحَدُهُما: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكونَ هَذِهِ القِراءَةُ مُخَفَّفَةً مِنْ ضِمِّ العَيْنِ فَيَكونُ فِيها مَا تَقَدَّمَ. والثاني: أَنَّهُ سُكونُ أَصْلٍ مِنْ بابِ اسْمِ الجِنْسِ نحوَ: بُسْرَةٍ وبُسْرٍ مِنْ غَيْرِ إِتْباعٍ.
وقرأَ مُجاهِدٌ وابْنُ مُحَيْصِنٍ أَيْضًا في روايةٍ: و "زُلْفَى" بِزِنَةِ: "حُبْلَى"، جَعَلُوها على صِفَةِ الواحِدَةِ المُؤَنَّثَةِ مراعاةً للمَعْنَى، لأنَّ المَعْنَى عَلى المَنْزِلَةِ الزُّلْفَى، أَوِ الساعةِ الزُّلْفى، أَيْ: القَريبةِ. وقدْ قيلَ: إِنَّهُ يَجوزُ أَنْ يَكونَا قد أَبْدَلا التَنْوينَ أَلِفًا ثمَّ أَجْرَيا الوَصْلَ مُجْرَى الوَقْفِ، فإنَّهُما يَقْرآنِ بِسُكونِ اللامِ وهوَ مُحْتَمَلٌ. فإنَّه مِمَّا تَعَاقَبَ فيه تاءُ التَأْنيثِ وأَلِفُهُ.