وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ
(95)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ} هوَ أَيضاً مِنْ بابِ التَهييجِ، والإلهابِ، وقَطْعِ الأَطْماعِ والتَثْبيتِ للمؤمنين باللهِ ورسولِهِ وكتابِه. والمُرادُ بِهِ الإِعْلامُ بأنَّ التَكْذيبَ مِنَ القُبْحِ بحيثُ يَنْبَغي أَنْ يُنْهى عَنْهُ مَنْ لا يُتَصَوَّرُ منه صُدورِهُ عَنْهُ، فكيفَ بِمَنْ يُمْكِنُ اتِّصافُهُ بِهِ؟.
وكانَ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، قدْ نهى في الآيةِ التي قَبْلَها عَنِ الشَّكِّ في هذا القُرآنِ الكريمِ، والامْتِراءِ فيهِ. فَحَذَّرَ هُنا مِمّا هو أَشَدَّ مِنْهما، وهو التَكذيبُ بِهِ، فهو آياتُ اللهِ البَيِّناتِ التي لا تَقْبَلُ التَكْذيبَ بِوَجْهٍ من الوجوه.
قولُهُ: {فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} التَعْبيرُ بالخاسِرينَ أَبلغُ في التَحْذيرِ مِنَ التَعْبيرِ بالكافِرينَ، فقد رَتَّبَ على هذا الخَسارِ، الذي هوَ عَدمُ الرِّبْحِ أَصْلاً، في هذهِ الحياةِ التي خُلِقَ المَرْءُ فيها لِيَرْبَحَ، فقدْ أَعْطاهُ اللهُ هذهِ الحياةَ، وأَمَدَّهُ بِكُلِّ مُقَوِّماتِ اسْتِمْرارِها بالشَّكلِ الأمثلِ لِيَرْبَحَ عَلى اللهِ تعالى ويَفوزَ بجنَّتِهِ ورِضاهُ، فإذا لمْ يُحْسِنِ اسْتِغْلالَ هذهِ الفُرْصَةَ والاسْتِفادةَ مِنْها يَكونُ قَدْ خَسِرَ، وذَلِكَ بِفَواتِ الثَوابِ في الدُنْيا والآخِرَةِ، وحُصُولِ العِقابِ في الدُنْيا والآخِرَةِ، فيَكونُ كَمَنْ أَعْطَيْتَهُ رَأْسَ مَالٍ لِيَتَّجِرَ بِهِ مَعَك فيربَح منك، وذلك عطفاً مِنْكَ على فَقْرِهِ، لكنَّهُ أَضاعَ هذا المالَ، وفَوَّتَ عَلَيْهِ فرصَةَ الرَّبْحِ. والنهيُ عنِ الشيءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، فيَكونُ هذا أَمْْرًا بالتَصْديقِ التامِّ بالقُرآنِ العظيمِ، وطُمَأْنينَةِ القَلْبِ إِلَيْهِ، والإقبالِ عَليْه، عِلْمًا وعملاً واعتقاداً. فيَكونُ العَبْدُ بِذلِكَ مِنَ الرابحينَ الذين أَدْرَكوا أَجَلَّ المَطالِبِ، وأَفْضَلَ الرَّغائبِ، وأَتمََّ المَناقِبِ، وانْتَفى عَنْهُمُ الخَسارُ، فكانوا من المتَّقين الأبرارِ.
قولُهُ تعال: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ} وَلا: الواو: عاطفة، و "لا" ناهيَةٌ جازِمَةٌ. و "تَكُونَنَّ" فعلٌ مُضارِعٌ ناقِصٌ في محَلِّ الجزم ب "لا" الناهِيَةِ، واسمُها ضَميرٌ يَعُودُ عَلى سيدنا محمَّد ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم. و "مِنَ الَّذِينَ" جارٌّ ومجرورٌ في محلِّ رفعِ خبرِ "تكون" وجملةُ "تكون" مَعطوفَةٌ على جملةِ "تَكُونَنَّ" الأُولى. وجملة: "كَذَّبُوا" من الفعلِ والفاعلِ صِلَةُ الموصولِ "الذين". و "بآياتِ" جارٌّ ومجرورٌ مُضافٌ، مُتَعَلِقٌ ب "كَذَّبُوا"، و "اللهِ" مُضافٌ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الفَاءُ: عاطفةٌ سَبَبِيّةٌ. و "تكون" فِعْلٌ مُضارِعٍ ناقِصٌ مَنْصوبٌ بِ "أَنْ" مُضْمَرَة وُجُوبًا بَعْدَ الفاءِ السَبَبِيَّةِ الواقِعَةِ في جَوابِ النَهْيِ، واسمُها ضَميرٌ يَعودُ على نَبِيِّنا محمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ. و "مِنَ الْخَاسِرِينَ" جارٌّ ومجرورٌ في محلِّ نصبٍ خبراً لها، وجملةُ "تكون" صِلَةُ "أن" المُضْمَرَةِ، وهي مَعَ صِلَتِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَعْطوفٍ على مَصْدَرٍ مُتَصَيَّدٍ مِنَ الجُمْلَةِ التي قَبْلَها، مِنْ غيرِ سابِكٍ لإصْلاحِ المعنى، تقديرُهُ: لا يَكُنْ تَكْذيبُكَ بِآياتِ اللهِ فَكَوْنُكَ مِنَ الخاسِرين.