هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
قولُهُ ـ تَعَالى شأنُه: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} بَيانٌ لِكَمالِ قُدْرَتِهِ، إثْرَ بَيانِ عِظَمِ مَلَكوتِهِ، ونَفاذِ وعْدِهِ وأمْرِهِ. فهو "يحيي" مِنَ النُطْفَةِ، وحَرَكَةُ الحياةِ، والمِلْك والمُلْك، إنَّما هي فُروعٌ مِنَ الإحياءِ، وهو سُبْحانَهُ الحَيُّ بذاتِه، وهوَ واهِبُ الحَياةِ؛ لأنَّه مالِكُ الأَصْلِ، وهو الذي "يُميتُ" بالأَجَلِ، دونَ أن يكونَ لأحَدٍ أيُّ دَخْلٍ في ذلك. وقال بَعْضُهم: هُوَ يُحْيي القُلوبَ بإماتَةِ النُفُوسِ، ويُميتُ النُفوسَ بحياةِ القلوب، وهذا لِمَنْ كانَ رُجُوعُهُ إِلَيٍهِ في جميعِ أَحْوالِهِ. وقيلَ: يُحيي السَّرائرَ بأَنْوارِ العِزَّةِ، ويميتُ النُفوسَ بِنَزْعِ الشَهْوةِ عَنْها. وقيلَ: يُحْيي مَنْ يشاءُ بالإقبالِ عَلَيْهِ، ويُميتُ مَنْ يَشاءُ بالإعْراضِ عَنْهُ. وقيل: يحيي الأَرْواحَ في بمشاهَدَةِ التَجَلِّيات، ويُميتُ الهياكِلِ بالاحتجابِ الاسْتِتارِ. وقيلَ: يحيي القلوبَ بالتَقْليبِ ويُميتُ النُفوسَ بالتَنْقيلِ. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: "يُحْيِي وَيُمِيتُ" يُعَجِّلُ مَا يَشَاءُ وَيُؤَخِّرُ مَا يَشَاءُ ذَلِكَ مِنْ آجَالِهِمْ بِقُدْرَتِهِ.
قولُهُ: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أَيْ: إلَيْهِ المَرْجِعَ بِالحَشْرِ يومَ القيامَةِ، فهُوَ القَادِرُ إِذاً عَلَى إعدامِ الحَيَاةِ، كما أَنَّه هوَ القادرُ عَلَى خَلْقِهَا، وَهُوَ العَلِيمُ بِمَا تَفَرَّقَ مِنَ الأَجْسَامِ، وَتَمَزَّقَ فِي أَقْطَارِ الأَرْضِ وَالبِحَارِ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الخَلْقُ حِينَ يَبْعَثُهُمْ وَيَحْشُرُهُمْ لِلْحِسَابِ.
وفي قوَّةِ هذِه الآياتِ ما يَسْتَدْعي الإيمانَ وإجابَةَ دَعْوَةِ اللهِ تعالى، وفيها دَليلٌ على البَعْثِ والنُشُورِ على مَعْنى بما أَنَّهُ تَعالى يَفْعَلُ الإحياءِ والإماتَةَ في الدنيا، إذاً فهو قادرٌ علَيْهِما في العُقْبى لأنَّ القادرَ لذاتِهِ لا تَزُولُ قُدْرَتُهُ، والمادَّةُ التي في ذاتِها قابِلَيَّةُ الحياةِ والموتِ، قابِلَةٌ لهما أَبَداً. فمَنْ لمْ يَعْتَبِرْ بِأَمْرِ الإحياءِ؛ عَلَيْهِ أَنْ يَرْتَدِعَ بخوفِ الرَّجْعَةِ. والآيةُ تذييلٌ لما سَبَقَ.
قولُهُ تَعالى: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} هُوَ: مُبْتَدأٌ. وجملة "يُحْيِي": خبرُهُ والجملَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، و "وَيُمِيتُ" الواو حرف عطفٍ و "يُمِيتُ" معطوفٌ على "يُحْيِي".
قولُهُ: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وَإِلَيْهِ: الواوُ حرفُ عطفٍ، والجارُّ مُتَعَلِّقٌ ب "تُرْجَعُونَ" و "تُرْجَعُونَ" فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ وعلامةُ رَفْعِهِ ثبوتُ النونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ من الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ في محلِّ رفع نائبٍ للفاعِلٍ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ مَعْطوفةٌ على جُمْلة "هُوَ يحيي" الاسميَّةِ أعني: جملة {هُوَ يُحْيِي}. وقد قُدِّمَ الجارُّ للاخْتِصاصِ، أَيْ: إِلَيْهِ لا إلى غيرِهِ تُرْجَعون ولأَجْلِ الفَواصِلِ.
وقرأ العامَّةُ: {تُرْجَعون} بالخِطابِ. وقرأ عيسى بْنُ عُمَرَ "يُرْجَعُون" بياءِ الغَيْبَةِ. واخْتُلِفَ عَنِ الحَسَنِ.