فيض العليم ... سورة يونس، الآية: 40
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} إخبارٌ بالغيبِ منهُ تعالى إذِ المعنى أنَّهُ مِنْ هَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ مَنْ سَيُؤْمِنُ بِالقُرْآنِ حِينَ يَفْهَمُ مَا جَاءَ فِيهِ، وَيَتَنَبَّهُ لِمَعَانِيهِ، بَعْدَ أَنْ سَعَوْا فِي مُعَارَضَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سيُصِرُّ عَلَى كُفْرِهِ به وَيَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ، وقدْ حَدَثَ ما أخبرَ اللهُ عَنْهُ فإنَّ كثيرين ممن كذَّب وعانَدَ، وآذى رسولَ اللهِِ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ، وآذى المؤمنينَ بِهِ وعذَّبهم، وحاربَ المسلمين وقتلَ منهم. آمَنَ بعدَ ذلك وحسُنَ إيمانُهُ بل وكان من كبارِ قادةِ الفتحِ الذين فتحوا أصقاعَ واسعةً منَ الأرضِ ونَشَرَ الإسلامَ فيها. ومنهم منْ بقيَ على شركه واستمرَّ في حربِهِ للإسلامِ وماتَ على شركِه.
وقِيلَ: إنَّ مَعْناهُ مِنْ هؤلاءِ القَوْمِ مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ بهذا الرَّسُولِ إلاَّ أَنَّهُ يَكْتُمُ إيمانَهُ وعِلْمَهُ بِأَنَّ نُبُوَّةَ محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ، وإِعْجازَ القُرآنِ حَقٌّ، حِفْظاً لِرياسَتِهِ أَوْ خَوْفاً مِنْ قَوْمِهِ، أو بتكليفٍ مِنْ رسولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ليكونَ عيناً له على قريشٍ كعمِّه العبَّاسِ بْنِ عبد المطَّلِبِ، كما تقدَّم في تفسيرِ سُورَةِ التَوْبَةِ، وكالْفِتْيِةِ الذين خَرَجوا إلى بَدْرٍ مَعَ الكُفَّارِ فَقُتِلوا فَنَزَلَ فيهم قولُهُ تعالى: {إنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكةُ ظالمي أَنْفُسِهم} الآية: 97.
قولُهُ: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ هم مفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ، بِشِرْكِهم وَظُلْمِهم وَبَغْيِهم لِفَقْدِهِمُ الاسْتِعْدَادَ لِلإِيمَانِ، وَهَؤُلاَءِ سَيُعَذِّبُهُمُ اللهُُ فِي الدُّنْيا، وَيُخْزِيهُمْ وَيَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ، وَسيُصْلِيهِمْ فِي الآخِرَةِ نَارَ جَهَنَّمَ، وَيخْلُدونَ فيها أَبَداً. وهو تهديدٌ لهم ووعيدٌ.
قولُهُ تعالى: {وَمِنهُمْ} مِنْ: هِي هُنا التَبْعِيضِيَّةُ، وضَميرُ الجَمْعِ عائدٌ إلى مَا عادَتْ إليْهِ الضَمَائرُ في قولِهِ: {أَمْ يقولون افْتَراهُ} الآية: 38.
قولُهُ: {ورَبُّكَ أَعْلَمُ بالمُفْسِدينَ} الجارُّ مُتَعَلِّقٌ ب "أعلم"، والجُمْلةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ. وقيلَ مُعْتَرِضَةٌ، وهيَ تَعْريضٌ بالوَعيدِ والإنْذارِ، وبأنهم مِنَ المُفْسِدينَ، للعِلْمِ بِأَنَّهُ ما ذَكَرَ "المفسدين" هُنا إلاَّ لأَنَّ هؤلاءِ مِنْهم وإلاَّ لم يَكُنْ لِذِكْرِ "المفسدين" مُنَاسَبَةٌ، فالمَعْنى: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بهم لأَنَّهُ أَعْلَمُ بالمُفْسِدينَ الذينَ هُمْ مِنْ زُمْرَتهم.