إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون
(24)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّه: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} هو بيان لجملة {مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الذي ذَكَرَهُ تعالى في الآية التي قبلها، وأَنَّ تمتُّعَهم بالدنيا ما هوَ إلاَّ مُدَّةً قصيرةً، فجاءت هذه الآية لتبيِّنَ أَنَّ التَمَتُّعَ صائرٌ إلى زَوالٍ، وقد شَبَّهَتْ التمتع بالدنيا بالزَرْعِ حالَ نَضَارَتِهِ ثم بمصيرِهِ حال حَصادِهِ. فقد ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلاً لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي جَمَالِهَا وَبَهْجَتِهَا، ثُمَّ فِي سُرْعَةِ فَنَائِهَا، بِالنَّبَاتِ الذِي أَخْرَجَهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الأَرْضِ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهَا مِنَ المَطَرِ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ مِنْ زُرُوعٍ وَثِمَارٍ عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهَا وَأَصْنَافِهَا، وَمِمَّا تَأْكُلُ الحَيَوَانَاتُ.
قولُهُ: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الأَرْضُ زِينَتَهَا الفَانِيَةَ, وَازَّيَّنَتْ بِمَا خَرَجَ فِي رُبَاهَا مِنْ زُهُورٍ نَضِرَةٍ مُخْتَلِفَةِ الأَشْكَالِ وَالأَلْوَانِ، كَمَا تَتَزَيَّنُ العَرُوسُ لَيْلَةَ زَفَافِهَا، وَظَنَّ أَهْلُهَا، الذِينَ زَرَعُوهَا وَغَرَسُوهَا، أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى جَزَازِهَا وَحَصَادِهَا، وَجَنْيِ ثِمَارِهَا، وَالتَّمَتُّعِ بِهَا، وهو غايةٌ شُبِّهَ بها بُلوغُ الانْتِفاعِ بخيراتِ الدُنيا إلى أَقْصاهُ، ونُضوجُهُ وتمامُهُ وتَكاثُرُ أَصْنافِهِ، وانْهِماكُ الناسِ في تَنَاوُلها ونِسْيانِهِمُ المَصيرَ إلى الفَناءِ. وفي معنى الغايةِ المُستفادِ مِنْ "حتى" ما يُؤْذِنُ بِأَنَّ بَينَ مَبْدَأِ ظُهورِ لَذَّاتِ الحياةِ وبَينَ مُنتهاها مَراتِبَ جمَّةً وأَطواراً كَثيرةً. والزُخْرُفُ: اسْمُ الذَهَبِ. وأُطْلِقَ على ما يُتَزَيَّنُ بِهِ ممَّا فيهِ ذَهَبٌ وتَلوينٌ مِنَ الثيابِ والحُلِيِّ.
قولُهُ: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} أُمْرُ اللهِ: تَقْديرُهُ وتَكْوينُهُ. وإتْيانُ أمرِ الله: إصابَةُ تلكَ الأرْضِ بالجوائحِ المُعَجِّلَةِ لها باليَبَسِ والفَناءِ. فَبَيْنَمَا هُمْ يَأْمُلُونَ ذَلِكَ إِذْ جَاءَتْهَا صَاعِقَةٌ، أَوْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بَارِدَةٌ فَأَيْبَسَتْ أَوْرَاقَها، وَأَتْلَفَتْ ثِمَارَها، فَأَصْبَحَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حِيناً قَبْلَ ذَلِكَ، و "لَيْلاً أَوْ نَهَاراً" تَرديدٌ في الوقْتِ لإثارَةِ التَوَقُّعِ مِنْ إمكانِ زَوالِ نَضارَةِ الحياةِ في جميعِ الأَزْمِنَةِ لأَنَّ الشيْءَ المُؤقَّتَ بتوقيتِ مُعَيَّنٍ يَكونُ الناسُ في أَمْنٍ مِنْ حُلولِهِ في غيرِ ذلك الوقت. وفيه تهديدٌ للكافرين مما يجعَلُ التَمْثيلَ أَعْلَقَ بحياتهم. لا سِيَّما وقد ضُرِبَ هذا المثلُ لِتَمَتُّعِ الكافرين بِبَغْيِهم وإمْهالهم عَلَيْهِ. ويزيد تلك الإشارة وضوحا قوله: "وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا" المُؤْذِنُ بأنَّ أَهْلَها مَقْصودونَ بِتِلْكَ الإصابةِ.
أَخرَج ابْنُ جَريرٍ عَنْ أَبيِّ بْنِ كَعْبٍ وابْنِ عَبّاسٍ ومَروانَ بْنِ الحَكمِ ـ رضي اللهُ عنهم، أَنَّهم كانوا يَقْرؤونَ {وازَّيَّنَتْ وظَنَّ أَهْلُها أَنَّهم قادرونَ عَلَيْها} وما كانَ اللهُ لِيُهْلِكَهم إلاَّ بِذنوبِ أَهْلِها. وأخرجَ هو وابنُ المنذِرِ عَنْ أَبي سَلَمَةَ بْنِ عبدِ الرحمنِ قال: في قراءَةِ أَبيٍّ "كأَنْ لم تَغْنَ بالأَمْسِ وما أَهْلَكناها إلاَّ بِذنوبِ أَهْلِها كذلكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرونَ". وأَخْرَجَ ابْنُ المُنذرِ وأَبو الشَيْخِ عَنْ أَبي مِجْلَزٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: مَكْتوبٌ في سورةِ يونُسَ ـ عليه السَّلامُ، إلى جَنْبِ هَذِهِ الآيَةِ "حتى إذا أخذت الأرضُ زخرفها" إلى "يتفكرون" ولَوْ أَنَّ لابْنِ آدَمَ وادِيَيْنِ مِنْ مالٍ لَتَمَنّى وادياً ثالثاً، ولا يُشْبِعُ نَفْسَ ابْنِ آدَمَ إلاَّ التُرابُ، ويَتوبُ اللهُ على مَنْ تابَ" فَمُحِيَتْ.
قولُهُ: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} تَذْييلٌ جامِعٌ، أَيْ: مثلُ هذا التَفْصيلِ نُفَصِّلُ، أَيْ: نُبَيِّنُ الدَلالاتِ كُلَّها الدَّالَّةِ على عُمومِ العِلْمِ والقُدْرَةِ وإتْقانِ الصُنْعِ. فهَذِهِ آيَةٌ مِنَ الآياتِ المُبَيِّنَةِ وهي واحدةٌ مِنْ عُمومِ الآياتِ. وَهَكَذا يُبَيَّنُ اللهُ الحُجَجَ وَالآيَاتِ، لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ، فَيَعْتَبِرُونَ بِهَذَا المَثَلِ، فِي زَوَالِ الدُّنْيَا عَنْ أَهْلِهَا سَرِيعاً، مَعَ اغْتِرَارِهِمْ بِهَا. والتَفَكُّرُ: التَأَمُّلُ والنَظَرُ، وهُوَ تَفَعُّلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الفِكْرِ، وفيهِ تَعْريضٌ بِأَنَّ الذينَ لمْ يَنْتَفِعوا بالآياتِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ التَفَكُّرِ، ولا كانَ تَفْصيلُ الآياتِ لأَجْلِهم. وتَتَّجِهُ بَعْضُ النَظَراتِ العِلْمِيَّةِ في هذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ إلى تَفْسيرِها تفسيراً عَصْرِيّاً في ضَوْءِ ما جَدَّ في العالَمِ، ويَقولُ هذا التَفْسيرُ أَنَّ الكُفَّارَ والأشْرارَ ممَّنْ سَكَنوا الأرضَ وظَنّوا أَنَّهم بمخترعاتهم قادرونَ عَلى إصلاحِ شأنها وعِمارَتِها، كما أَنَّهم قادرونَ على هدْمها وتخريبها بما اخترعوا من أسلحة الدمار الشاملِ، سَوْفَ يُسَلَّطُ بَعْضُهم على بعضٍ فيتحاربونَ ويكونُ ذلكِ سبباً في خرابِ الأرضِ وجعلِها حَصيداً. وتحمِلُ هذه الآية في طياتها رأياً آخر عِلْمِيّاً وهوَ أَنَّ الدمارَ عِنْدَما يُصيبُ الأرضَ يَوْمَ القيامَةِ يجئ لَيْلاً أَوْ نهاراً، والحقيقةُ أَنَّ الوَقْتَ واحِدٌ فهو نهارٌ في نِصْفِ الكُرَةِ الأرضيَّةِ وليلٌ في نِصْفِها الآخَرِ.
قولُهُ تعالى: {إِنَّمَا مثلُ} إِنَّمَا: صِيغَةُ قَصْرٍ لِتَأْكِيدِ المقصودِ مِنَ التَشْبيهِ وهُوُ سُرْعَةُ الانْقِضاءِ. ولأنَّ التشبيه هنا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة. فقد عبر عن ذلك بلفظ ال "مثل" المستعمل في التشبيه المركب. ومن بديعِ هذا التشبيه تَضَمُّنُه تشبيهاتٍ متفرِّقةً مِنْ أَطْوارِ الحالينِ المُتَشابهين بحيث يَصلُحُ كلُّ جُزْءٍ مِنْ هذا التَشْبيهِ المُرَكَّبِ لِتَشْبيهِ جُزْءٍ مِنَ الحالينِ المُتَشابهيْنِ، ولِذلكَ أَطْنَبَ وَصْفَ الحالينِ مِنِ ابْتِدائهِ. فقولُهُ: "كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ" شُبِّهَ بِهِ ابتداءُ أَطوارِ الحياةِ وقتَ الصِبا إذْ ليسَ ثمَّةَ سِوى الأَمَلِ في نَعيمِ العَيْشِ ونَضارَتِهِ، فلِذلكَ الأَمَلُ يُشْبِهُ حالَ نًزولِ المَطَرِ مِنَ السَماءِ في كَوْنِهِ ما يُؤمَّلُ مِنْهُ مِنْ زُخْرُفِ الأَرْضِ ونَضَارَتِها. وقولُهُ: "فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ" شُبِّهَ بِهِ طَوْرُ ابتداءِ نَضارَةِ العَيْشِ وإقبالُ زَهْرَةِ الحياةِ، فذَلِكَ يُشْبِهُ خُروجَ الزُرعِ بُعَيْدَ المَطَرِ فيما يُشاهَدُ مِنْ بَوارِقِ المَأمولِ، ولِذلكَ عَطَفَ بِفاءِ التَعْقيبِ للإيذانِ بِسُرْعَةِ ظُهورِ النَباتِ عَقِبَ المَطَرِ فَيُؤْذِنُ بِسُرْعَةِ نماءِ الحياةِ في أَوَّلِ أَطْوارِها. وعَبَّرَ عَنْهُ بالاخْتِلاطِ بالماءِ بحيْثُ ظَهَرَ قبلَ جَفافِ الماءِ، أَيْ: فاخْتَلَطَ النَباتُ بالماءِ أَيْ جاوَرَهُ وقارَنَهُ. وإِطْلاقُ أَخْذِ الأَرْضِ زُخْرُفَها على حصولِ الزِينَةِ فيها اسْتِعارَةٌ مَكْنِيَّةٌ شَبَّهَتِ الأَرْضَ بالمَرْأَةِ حينَ تُريدُ التَزَيُّنَ فتُحْضِرُ فاخِرَ ثيابها وحُليِّها. وذِكْرُ: "ازَّيَّنَتْ" عَقِبَ "زُخْرُفَهَا" تَرْشيح للاسْتِعارَةِ، لأنَّ المرأةَ تَأْخُذُ زُخْرُفَها للتَزَيُّنِ به. والعَرَبُ تسمّي ذَلِكَ التَنَاوُلَ أَخْذاً، قالَ تعالى في سورة الأَعْرافِ: {يا بني آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الآية: 31، ومن ذلك قولُ بَشّارِ ابْنِ بُرْدٍ:
وخذي ملابس زينة ........................... ومصبغات وهي أفخر
والتشبيهُ المركب في اصطلاح البيانيين: إمَّا أن يكون طرفاه مركبين، أي: تشبيه مركب بمركب كقول بشار بن برد:
كان مُثَارَ النَّقْعِ فوقَ رؤوسنا ............. وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُهْ
وذلك أَنَّه يُشَبِّه الهيئةَ الحاصلةَ من هُوِيِّ أجرامٍ مَشْرِقَةٍ مُسْتَطِيلةٍ مُتَناسِبَةِ المِقدارِ مُتَفَرِّقَةٍ في جوانِبِ شيءٍ مُظلمٍ بليلٍ سَقَطَتْ كواكبُه، وإمَّا أَنْ يَكونَ طرفاه مختلفَيْن بالإِفرادِ والتَرْكيبِ.
وقوله: {كَمَاءٍ} هو خبرُ المبتدأ، و "أنزلناه" صفةٌ ل "ماء"، و "من السماء" متعلقٌ ب "أَنْزلناه" ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً من الضمير المنصوب.
وقوله: "فاختلطَ به" في هذه الباءِ وجهان، أحدهما: أنها سببيَّةٌ. قال الزمخشري: فاشتبك بسببه حتى خالط بعضُه بعضاً، وقال ابن عطية: وَصَلَتْ فِرْقَةٌ "النباتَ" بقوله: "فاختلط"، أي: اختلط النباتُ بعضُه ببعض بسبب الماء. والثاني: أنها للمصاحبة بمعنى أنَّ الماءَ يجري مجرى الغذاء له فهو مصاحبه. وزعم بعضُهم أن الوقفَ على قولِه: "فاختلط" على أنَّ الفعلَ ضميرٌ عائد على الماء، وتَبْتَدئ "بِهِ نَبَاتُ الأرض" على الابتداء والخبر. والضمير في "به" على هذا يجوز عَوْدُه على الماء، وأن يعود على الاختلاط الذي تضمنَّه الفعل، قاله ابن عطية. وقال الشيخ أبو حيَّان: الوقف على قوله: "فاختلط" لا يجوزُ، وخاصةً في القرآن لأنه تفكيكٌ للكلام المتصلِ الصحيح والمعنى الفصيحِ، وذهابٌ إلى اللُّغْز والتعقيد.
قولُه: {مِمَّا يَأْكُلُ} فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ ب "اختلط". والثاني: أَنَّهُ حالٌ مِنَ "النباتِ"، وهو الظاهرُ، والعاملُ فيه محذوفٌ، أَيْ: كائناً أوْ مُسْتَقِرّاً ممَّا يَأْكُلُ. ولو قِيلَ "مِنْ" لِبَيانِ الجِنْسِ لجازَ.
وقولُهُ: {حتى} ابتدائيَّةٌ، والجملة بعدَها مُسْتَأْنَفَةٌ، ومَفْعولا "جعل": الهاءُ وحَصيدًا، "حتى" غايةٌ فلا بُدَّ لها مِنْ شيءٍ مُغَيَّا، والفعلُ الذي قبلها وهو "اختلط" لا يَصْلُحُ أَنْ يَكون مُغَيَّا لِقَصْرِ زَمَنِهِ.
فقيل: ثَمَّ فعلٌ محذوفٌ، أي: لم يزلِ النباتُ يَنْمو حتّى كانَ كيت وكيت. وقيل: يُتَجَوَّزُ في "فاختلط" بمعنى: فدامَ اختلاطُه حتى كان كيت وكيت. و "إذا" بعد "حتى" هذه تقدَّم التنبيهُ عليها.
قولُه: {كأَنْ لم تَغْنَ} "كأَنْ" حَرْفٌ ناسِخٌ مخفَّفٌ واسمُهُ ضمير الشأن. وجملةُ "كأن لم تغن" حالٌ مِنْ مفعولِ "جعلناها"، وجملةُ "نُفصِّل" مستأنفة.
قولُهُ: {بِالأَمْسِ} للظَرْفِيَّةِ. واللامُ فيه مزيدةٌ لِتَمْلِيَةِ اللَّفظِ مثل التي في كلمة "الآن".
والأمْسُ: اليومُ الذي قبلَ يومِكَ. والمرادُ به هنا مُطْلَقُ الزَمَنِ الذي مَضى لأنَّ أَمْسِ يُسْتَعْمَلُ بمعنى ما مَضَى مِنَ الزَمانِ، كَما يُسْتَعْمَلُ الغَدُ في ما يأتي مِنَ المُسْتَقْبلِ، واليومُ للحالِ. وقد جمعَها زُهَيْرُ بْنُ أبي سلمى في قولِهِ:
وأعلمُ علمَ اليومِ والأمسِ قبلَه ......... ولكنني عن عِلْمِ ما في غدٍ عَمِ
لم يَقْصد بها حقائقَها، والفرقُ بين الأَمْسَيْن أنَّ الذي يُرادُ بِهِ قَبْلَ يومِكَ مَبْنيٌّ لِتَضَمُّنِهِ مَعنى الأَلِفِ واللامِ، وهذا مُعْرَبٌ تَدْخُلُ عليْهِ أَل التعريف، ويَضافُ.
وقولُه: {كذلك نُفَصِّلُ} الكاف في "كذلك" نائبُ مفعولٍ مُطْلَقٍ، نعتُ مصدرٍ محذوف، أيْ: مثل هذا التفصيل الذي فَصَّلْناه في الماضي نُفَصِّل في المستقبل. وجملةُ "يتفكرون" نعت لـ "قوم".
وقوله: {أَهْلُهَا}، أي: أهل نباتها. و "أتاها" هو جوابُ "إذا" فهو العاملُ فيها. وقيل: الضميرُ عائد على الزينة. وقيل: على الغَلَّة، أي: القُوت فلا حَذْفَ حينئذ.
قولُه: {ليلاً ونهاراً} ظرفان للإِتيان أو للأمر. والجَعْل هنا تصيير. وحصيد: فعيل بمعنى مفعول؛ ولذلك لم يؤنَّثْ بالتاء وإن كان عبارة عن مؤنث كقولهم: امرأة جريح.
قوله: {كَأَن لَّمْ تَغْنَ} هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً مِنْ مفعول "جَعَلْناها" الأول، وأن تكون مستأنفةً جواباً لسؤال مقدر.
قرأ الجمهورُ: {وازَّيَّنت} بوصل الهمزة وتشديد الزاي والياء، والأصلُ "وتَزَيَّنت" فلمَّا أريد إدغامُ التاء في الزاي بعدها قُلبت زاياً وسَكَنَتْ فاجتلبت همزة الوصل لتعذُّر الابتداء بالساكن فصار "ازَّيَّنت" كما ترى، وقد تقدَّم تحريرُ هذا عند قولِه تعالى: {فادارأتم فِيهَا} البقرة: 72. وقرأ أُبَيّ بن كعب وعبد الله وزيدٌ بن علي والأعمش "وتَزَيَّنَتْ" على تَفَعَّلَتْ، وهو الأصلُ المشار إليه. وقرأ سعد ابن أبي وقاص والسلمي وابن يعمر والحسن والشعبي وأبو العالية ونصر بن عاصم وابن هرمز وعيسى الثقفي: وأَزْيَنَتْ على وزن أَفْعلَتْ وأفْعَل هنا بمعنى صار ذا كذا ك "أَحُصَدَ الزرعُ" و "أَغَدَّ البعيرُ"، والمعنى: صارت ذا زينة، أي: حَضَرت زينتها وحانَتْ وكان مِنْ حَقِّ الياءِ على هذه القراءة أن تُقْلَبَ ألفاً فيقال: أَزَانَتْ، ك "أَنَابت" فَتُعَلُّ بنقلِ حركتِها إلى الساكن قبلها فتتحرك حينئذ، وينفتح ما قبلَها فتقلب ألفاً كما تقدَّم ذلك في نحو: أقام وأناب، إلا أنها صَحَّتْ شذوذاً كقولِه: أَغْيَمت السماء، وأَغْيَلَت المرأة، وقد وَرَدَ ذلك في القرآن نحو: {استحوذ} المجادلة: 19. وقياسُه استحاذَ كاستقام.
وقرأ أبو عثمان النهدي وعزاه ابن عطية لفرقةٍ غيرِ معينة "وازْيَأَنَّتْ" بهمزة وصل بعدها زايٌ ساكنة، بعدها ياءٌ مفتوحة خفيفة، بعدها همزةٌ مفتوحة، بعدها نون مشددة. قالوا: وأصلها: وازيانَّتْ بوزن احَمَارَّت بألف صريحة، ولكنهم كَرِهُوا الجمعَ بين الساكنين فقلبت الألفُ همزةً كقراءة "الضألّين" و "جَأَنْ". وعليه قولهم: "احمأرَّت" بالهمز وأنشد:
...................................... إذا ما الهَواديْ بالعَبيطِ احمأرَّتِ
وقد تقدم لك هذا مشبعاً في أواخر الفاتحة. وقرأ أشياخ عوف ابن أبي جميلة: "وازْيأنَّتْ" بالأصل المشار إليه، وعزاها ابن عطية لأبي عثمان النهدي. وقرئ "وازَّايَنَتْ" والأصلُ: تزاينت فأدغم.
قرأ الجمهورُ: {كأن لم تَغْنَ بالأمسِ} وقرأ الحسن وقتادة "كأن لم يَغْنَ" بياء الغيبة، وفي هذا الضميرِ عندها ثلاثةُ أوجهٍ، أجودُها: أنْ يعودَ على الحصيد لأنه أقرب مذكور. وقيلَ: يعودُ على الزخرف، أي: كأن لم يَقُم الزخرف. وقيلَ: يَعود على النبات أو الزرع الذي قدَّرته مضافاً، أي: كأن لم يَغْنَ زَرْعُها ونباتها.
وقرأَ مَرْوانُ بْنُ الحَكَمِ: "تتغَنَّ" بتاءَين بِزِنَةِ تَتفَعَّل، ومِثْلُه قولُ الأَعْشى:
........................................... طويلَ الثَّواءِ طويلَ التَّغَنّ