إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} بَعدَ أَنْ ذَكَرَ سبحانَه في الآيةِ السابقَة صَدَّ المُشركين للمُسْلمين عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ مما يوجِبُ تَعذيبَهم، أعْقَبَ بِذِكْرِ محاولَتِهم، اسْتِئْصالَ المُسْلِمينَ، بإنفاقِ أَمْوالِهم، وهي أعَزُّ شيءٍ عليهم، على عَداوَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ، لِيَصْرِفوا النّاسَ عَنْ دِينِ اللهِ وطاعَتِهِ، وذلك بقِتَالِ المُسْلِمِينَ، لمَنْعِ النَّاسِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الإِسْلاَمِ. وعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أنَّهمُ المطعمونَ يَوْمَ بَدْرٍ، وهُمُ الذينَ كانُوا يُطْعِمونَ أَهْلَ بَدْرٍ حينَ خَرَجُوا. وكانوا خمسةَ عَشَرَ رَجُلاً هُمْ: أَبو جَهْلٍ وأَخوهُ الحارثُ ابْنا هِشامٍ، وعُتْبَةُ وشَيْبَةُ ابْنا رَبيعةَ بْنِ عَبْدِ شمسٍ، ومُنَبِّهٌ ونَبيه ابْنا الحَجّاجِ السهميِّ، وأَبو البختري وأخوه العاصي ابْنا هِشامٍ، وحَكيمُ بْنُ حزام، وأُبي بْنُ خَلَفٍ، والنضر بن الحارث، والعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، والحارث بْنُ عامرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وسُهيلُ بْنُ عَمْرٍو العامريّ. وطُعيْمْةُ بْنُ عَدِيٍّ بْنِ نَوْفَل، أَطْعَموا الناسَ في كلِّ يَوْمٍ عَشْرَ جُزُرٍ، فَكانَ عَلى كُلٍّ مِنْهم إطعامُ يومٍ.
قولُهُ: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} يَعني تَكونُ نَفَقاتُهم حسرةً عَليهم ونَدامَةً، لأنها تَكونُ لهم زيادةً في العذاب، فَتُكْوى بها جِباهُهم وجُنوبُهم وظُهورُهم، ولَنْ تُجْديَهمْ نَفْعاً.
قولُهُ: {ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} فَإِنَّكُمْ سَتُغْلَبُونَ مَرَّةً أُخْرَى، وَسَيَحْشُرُكُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ إلَى جَهنَّمَ، إِذَا مَا أَصْرَرْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ، وَعَلَى مُعَانَدَةِ الرَّسُولِ وَالمُؤْمِنِينَ.
وردَ في سببِ نزول هذه الآية المباركة أنَّ قريشاً لَمَّا أُصِيبَتْ يَوْمَ بَدْرٍ قادتُهم وَقُتِلَ زُعماؤهم، ورَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِالعِيرِ إلَى مَكَّةَ، وَهِيَ العِيرُ التِي أَنْقَذَتْهَا مَعْرَكَةُ بَدْرٍ، فَمَشَى أَبْنَاءُ مَنْ قُتِلُوا فِي بَدْرٍ وَإِخْوَتُهُمْ وَأَقْرِبَاؤُهُمْ إلى أَبِي سُفْيَانَ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُمْ فِي العِيرِ تِجَارَةٌ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ مُحَمَّداً قَدْ وَتَرَكُمْ فَأَعِينُونَا بِهَذَا المَالِ عَلَى حَرْبِهِ لَعَلَّنَا نُدْرِكُ مِنْهُ ثَأْراً، بِمَنْ أُصِيبَ مِنَّا. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ.
فقد أَخْرَجَ ابْنُ اسْحَقَ، وابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، والبَيْهَقِيُّ في الدَلائلِ، كلٌّ مِنْهم مِنْ طَريقِهِ، قال: حدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَيَّانَ، وَحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، قَالُوا: "لَمَّا أُصِيبَ أَصْحَابُ بَدْرٍ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بَعِيرِهِ إِلَى مَكَّةَ، مَشَى عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وعِكْرِمَةُ بْنُ أَبي جَهْلٍ، وصَفْوانُ بْنُ أَمَيَّةَ، في رِجالٍ مِنْ قُرَيْشٍ أُصيبَ آباؤهم، وأَبناؤهم وَإِخْوَانُهُمْ بِبَدْرٍ، فكلموا أبا سفيانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ كانتْ لَهُ في تِلكَ العِيرِ مِنْ قُرَْيشٍ تِجارةٌ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ، وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ، لَعَلَّنَا نُدْرِكُ مِنْهُ بَعْضَ مَا أَصَابَ مِنَّا، فَفَعَلُوا، وَفِيهِمْ كَما ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ"، الآيَةَ.
وقال بعضُ الرُواةِ، مِنْهُمْ ابْنُ أَبزي، وابْنُ جُبيرٍ، والسُدِّيُ، ومُجاهد: سَبَبُ نُزولِ هذهِ الآيةِ أَنَّ أَبا سُفيانَ أَنْفَقَ في غَزْوَةِ أُحُدٍ على الأَحابيشِ وغَيرِهم أَرْبَعينَ أُوقيَّةً مِنَ الذَهَبِ أَوْ نحوَ هَذا. وأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وعبدُ بْنُ حميدٍ، وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، وابْنُ عَساكِرَ، عنْ سَعيدٍ بْنِ جُبيرٍ ـ رضي اللهِ عنهُ، في قولِهِ تعالى: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل .. " الآية. قال: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، اسْتَأْجَرَ يَوْمَ أُحُدٍ أَلْفَيْنِ مِنَ الأَحَابِيشِ مِنْ كِنَانَةَ، فَقَاتَلَ بِهِمُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سِوَى مَنِ اسْتَجَاشَ مِنَ الْعَرَبِ"، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
فَجِئْنَا إِلَى مَوْجٍ مِنَ الْبَحْرِ وَسْطُهُ ......... أَحَابِيشُ مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمُقَنَّعُ
ثَلاثَةُ آلافٍ وَنَحْنُ نَصِيَّةٌ .................. ثَلاثُ مِئِينَ إِنْ كَثُرْنَ فَأَرْبَعُ
قولُه: نَصِيَّةٌ، أيْ: خِيارٌ أَشْرافٌ، أَهْلُ جَلَدٍ وقِتالٌ. يُقالُ: انْتَصَى الشيءَ: اخْتارَ ناصِيَتَهُ، أَيْ أَكْرَمَ ما فِيه.
وعلى القولين فإنَّ المالَ إنّما أُنْفِقَ في غَزْوَةِ أُحُدٍ، وهذِهِ الآيةُ في الكُفَّارَ عامَّةً، وإنْ خُصَّ بِهِ مشركو قريشٍ الذين أَنْفَقوا أَمْوالهم بقصدِ الصَدِّ عَنْ سَبيلِ اللهِ في صَدْرِ الإسْلامِ، ثمَّ هو خَبرٌ يَخُصُّ المُشارَ إليْهم به أَنَّهم يُنْفِقونَها وتذهبُ باطِلاً ثمَّ تَكونُ عَليهم حَسْرَةً، إذْ لا يَتِم لهم ما أرادوا، والحَسْرةُ التَلَهُّفُ على الفائِتِ وهو الأظهرُ، ويُحْتَمَلُ أَنْ تَكونَ الحَسْرَةُ يَومَ القيامَةِ، ثمَّ أَخَبَرَ سبحانَه، أَنهم يُغلَبونَ بَعدَ ذَلك، بأنْ تَكونَ الدائرةُ عليهم، وهذا مِنْ إخْبارِ القُرآنِ بالغُيوبِ، فقد أَخْبرَ بما يَكُونُ قبلَ أنْ يَكونَ، فكانَ كما أَخَبَرَ. وقالَ آخرون منهمُ الضَحَّاكُ والنقّاشُ: إنَّ هذِهِ الآيةَ نَزَلَتْ في نَفَقَةِ المُشْرِكينَ الخارجين إلى بَدْرٍ، واللهُ أعلم.
قولُهُ تعالى: {إنَّ الذينَ كفروا} جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، ولم تأتِ معطوفةً، للاهْتِمامِ بها.
قولُهُ: {يُنْفِقُونَ} أتى بصيغة المضارعِ للإشارة إلى أَنَّ ذلك دَأبُهم وأَنَّ الإنْفاقَ مُسْتَمِرٌّ لإعْدادِ العُدَدِ لِغَزْوِ المُسْلِمينَ فإنَّ إنْفاقَهم حَصَلَ في الماضي ويَحْصلُ في الحالِ والاسْتِقْبال.
قولُهُ: {ليصدّوا} المصدرُ المُؤوَّلُ مِنْ "لِيَصدوا" مَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ ب "يُنفقون"، والجار متعلق بالفعلِ، وكذلك فقد أَشعَرَتْ لامُ التَعليلِ بِأَنَّ الإنْفاقَ مُسْتَمِرٌّ لأنَّه مَنُوطٌ عندهم بِعِلَّةٍ مُلازِمَةٍ لِنُفوسِهم، وهيَ بُغْضُ الإسْلامِ وصَدُّهم النَاسَ عَنْهُ.
قولُهُ: {فَسَيُنْفِقُونَهَا} الفاءُ للتَفْريعِ عَلى العِلَّةِ لأنَّهم لمَّا كانَ الإنْفاقُ دأبَهم لِتِلْكَ العِلَّةِ المَذكورةِ، كانَ ممّا يَتَفَرَّعُ على ذلكَ تَكَرارُهُ في المُسْتَقْبَلِ. وجملةُ "فسينفقونها" مستأنفةٌ أيضاً،
قولُهُ: {ثُمَّ} للتَراخِي الحَقيقيِّ والرُتَبيّ، أَيْ: وبَعْدَ ذَلِكَ تَكونُ تِلكَ الأَمْوالُ التي يُنْفِقونَها حَسْرَةً عَلَيْهِم، و كذلك {ثمَّ} الثانية لها نفسُ الإعراب.
قولُه: {عليهم} مُتَعَلِّقٌ بحالٍ مِنْ "حسرة". والجارُّ في {إلى جهنم} مُتَعَلِّقٌ بالفِعْلِ "يحشرون".