وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
(34)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الصدُّ: الصرفُ، والمعنى: كيفَ لا يُعذِّبهمُ اللهُ وما يمنعُ مِنْ عَذابهم وهُمْ أَهْلٌ لأنْ يُعَذِّبَهُمُ لأنَّهُمْ يَصُدُّونَ المُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَنِ الصَّلاةِ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَالطَّوَافِ بِالكَعْبَةِ المُشرَّفةِ، ولَمْ يُنْزِلْ اللهُ تعالى بِهِِمُ العَذَابَ لِبَرَكَةِ مَقَامِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّم، بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، أَوْقَعَ اللهُ بَأْسَهُ فِيهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
قولُه: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} لأنَّ هَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ الذِينَ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ، من المسلمين المهاجرين الذين منعوهم من دخول مكة، وليسوا أَهْل المسجدِ وَلا هم أَوْلِيَاؤهُ كما زعموا، فقد جاء في صحيح البخاري عن عبدِ اللهِ بْنِ مسعودٍ، أنَّهُ حدَّثَ عَنْ سعدِ بْنِ معاذٍ ـ رضي اللهُ عنهما: أنَّهُ كانَ صديقاً لأميَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وكان أُمَيَّةُ إذا مَرَّ بالمدينةِ نَزَلَ على سعْد، وكان سعد إذا مَرَّ بمكَّةَ نَزَلَ على أُمَيَّةَ، فلمّا هاجَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، إلى المدينةِ انْطَلَقَ سعد مُعتمِراً فنَزَلَ على أُمَيَّةَ بمَكَّةَ، فقالَ لأمَيَّةَ انْظُرْ لي ساعةَ خَلْوةٍ لَعَلّي أَطوفُ بالبَيْتِ. فخَرَج َقريباً مِنْ نِصْفِ النَهارِ، فلَقِيَهُما أَبو جَهْلٍ، فقالَ: يا أَبا صَفوان (كُنْيَةِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفْ) مَنْ هَذا مَعَكَ؟ فقال: هذا سَعْد. فقالَ لَهُ أَبو جَهْلٍ: إلاَّ أَراكَ تَطوفُ بالبَيْتِ آمِناً وقدْ آوَيْتُمُ الصُباةَ، أَمَا واللهِ لولا أَنَّكَ مَعَ أَبي صَفْوانَ ما رَجَعْتَ إلى أهْلِكَ سالماً. ففي هذه الآية الكريمة رَدٌّ لِما كانوا يَقولونَ: نحنُ وُلاةُ البيتِ الحرامِ؛ فَنَصُدُّ مَنْ نّشاءُ ونُدْخِلُ مَنْ نَشاءُ. وقد دَنَّسُوا المسجدَ الحرامَ بِالشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الأصْنَامِ.
قولُهُ: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} وَإِنَّمَا أَهْلُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ، الذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الوَلاَيَةِ عَلَيهِ، هُمُ النَّبِيُّ وَالمُسْلِمُونَ، الذين يؤمنون بالله ويوحدونه ويخافونه، فلا يُبارِزونَه بمعصيتِهِ تعالى، والإساءةِ إلى المؤمنين من عِبادِهِ، النبيّ وصحبه، بِمَنْعِهم مِنَ العبادةِ في المَسْجِدِ الحَرامِ، وصَدِّهم عَنْهُ.
وفي هذِه الآيةِ الكريمةِ نَفيٌّ لوِلايَةِ الكُفَّارِ على المَسْجِدِ الحَرامِ، وإثْباتُها للمتَّقين، وقد أَوْضَحَ هذا المعنى جلياً في سورة التوبة بقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} الآيتان: 17 و 18.
قولُهُ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} وَلَكِنَّ أَكْثَرَ المُشْرِكِينَ لاَ يَعْلَمُونَ هَذِهِ الحَقِيقَةَ، ولا يقدرون هذا البيت الذي جعله الله مثابةً للناس وأمناً ومكاناً للعبادةِ ومنارة للهدى والصلاحِ، فعلى منْ يجاور هذا المكان الطاهر أنْ يقومَ بخدمته، وخِدْمَةِ العِبادِ والحَجيجِ الذين يقصدونهُ، أَمَّا أنْ يَتَصَرَّفوا وكأَنهم مالكونَ لَهُ فَيَتَحَكَّمونَ بالناسِ سماحاً أو مَنْعاً بحسبِ هَواهم، فإنَّ صاحبَ هذا البَيْتِ ـ جلَّ جلالُهُ، سوفَ يَنْتَقِمُ مِنْهمْ ويُذيقُهم أشدَّ العذابِ، وإنَّ الذي أكْرَمَهم بجوارِ هذا البيتِ المعَظَّمِ وأَعَزَّهم بِه سَوْفَ يُذِلُّهم، لأنهم ما أحَسَنُوا جِوارَه، ولا تَأَدَّبوا مَعَ صاحِبِهِ.
قوله تعالى: {وما لهم أنْ لا يُعَذِّبَهُمُ} مَا: اسْتِفْهامِيَّةٌ، والاسْتِفْهامُ هنا إنكاريٌّ، وهيَ في محلِّ رفعِ مُبْتَدأٍ، و "لَهُمْ" اللامُ حرفُ جرٍّ للاسْتِحقاقِ والهاءُ في محلِّ جرٍّ به والميم للمذكر والجارُّ متعلقٌ بخبرٍ محذوفٍ والتَقديرُ: ما الذي ثَبَتَ لهم لأنْ يَنْتَفي عَنْهُمْ عَذابُ اللهِ؟ و "أنْ" الظاهرُ أَنَّها مَصْدَرِيَّةٌ، ومَوْضِعُها: نَصْبٌ بنزع الخافضِ في محلِّ جَرٌّ بحرفِ الجرِّ المحذوف؛ إذِ التَقْديرُ: في أَنْ لا يُعَذِّبَهم. وهذا الجارُّ مُتَعلِّقٌ بما تَعَلَّقَ بِهِ "لهم" مِنَ الاسْتِقْرارِ. والتَقديرُ: أَيُّ شَيْءٍ اسْتَقَرَّ لهم في عَدَمِ تَعذيبِ اللهِ إيَّاهم، بمعنى لا حَظَّ لهم في انْتِفاءِ العذاب. وجَوَّزوا أَنْ تَكونَ "مَا" هنا نافيةً فيَكون "أن لا يعذبهم" اسمَها و "لَهُمْ" خبرَها والتَقديرُ: وما عَدَمُ التَعذيبِ كائناً لهم. و على التَقديرين فجملةُ: "وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" في موضعِ نصبٍ على الحالِ.
وقال الأخفشُ إنها زائدةٌ. فردَّ أبو جعفر النَحّاسُ في (معاني القرآن) له، بأنَّها لَوْ كانَتْ كَما قالَ لَكان يَنْبَغي أَنْ يَرْتَفِعَ الفعلُ على أنَّه واقعٌ مَوْقِعَ الحالِ كقوله تعالى في سورة المائدة: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله} الآية: 84، ولكنْ لا يَلزَمُ مِنَ الزيادَةِ عَدَمُ العَمَلِ، أَلا تَرى أَنَّ "مِنْ" والباء تَعملان وهما مَزيدَتان. وقالَ العُكبُريُّ أَبو البَقاءِ في (التبيان في إعراب القرآن): وقيل: هُوَ حالٌ وهُوَ بَعيدٌ؛ لأنَّ "أَنْ" تُخَلِّصُ الفِعْلَ للاسْتِقْبالِ. والظاهر أنَّ "ما" في قولِهِ: "وما لهم" استئنافيَّةٌ، وهوَ اسْتِفهامٌ مَعْناهُ التَقريرُ، أيْ: كيف لا يُعَذَّبون وهُم مُتَّصِفونَ بهذِهِ الحال؟ وقيلَ: "ما" نافية فهي إخبارٌ بِذلِكَ، أَيْ: ليس عَدمُ التَعذيبِ، أي: لا يَنْتَفي عَنْهمُ التَعذيبُ مَعَ تَلَبُّسِهم بهذِهِ الحالِ.
قولُهُ: {وَمَا كانوا أَوْلِيَاءَهُ} هي إمّا اسْتِئْنافيَّةٌ، والهاءُ تَعودُ على المَسْجِدِ، أَيْ: وما كانوا أَوْلِياءَ المَسْجِدِ. أو نَسَقٌ على الجملةِ الحالِيَّةِ قَبْلَها وهي "وهم يَصُدُّون" والمعنى: كيف لا يُعَذِّبُهم اللهُ وهُمْ مُتَّصِفون بهذين الوَصْفَيْن: صَدِّهم عَنِ المَسْجِدِ الحرامِ، وانْتِفاءِ كونِهم أَوْلِياءَه؟ ويَجوزُ أَنْ يَعودَ الضَميرُ على اللهِ تعالى، أيْ: لم يَكونوا أَوْلِياءَ اللهِ. ومَفعولُ "يَصُدُّونَ" محذوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِياقُ، أَيْ: يَصُدُّونَ المُؤمنينَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ بِقَرينَةِ قولِهِ: "إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ".