قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ.
(102)
قَوْلُهُ: {قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ قَوْمًا مِنْ قَبْلِنَا قَدْ سَأَلُوا آيَاتٍ مِثْلَهَا، فَلَمَّا أُعْطُوهَا وَفُرِضَتْ عَلَيْهِمْ كَفَرُوا بِهَا، وَقَالُوا: لَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَذَلِكَ كَسُؤَالِ قَوْمِ صَالِحٍ النَّاقَةَ، وَأَصْحَابِ عِيسَى الْمَائِدَةَ، وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ مَنْ سَبَقَ مِنَ الْأُمَمِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وقد يُفهم أنَّ ثَمَّةَ تعارُضًا بين هذه الآية وقَوْله ـ تعالى ـ في آيةٍ أخرى: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} النحل: 43 فَالْجَوَابُ، أَنَّ هَذَا الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ عِبادَه أنْ يَسألوا عنه هناك هو عِدَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِذَاتِ قُرْءٍ وَلَا حَامِلٍ، وكان الله ـ سبحانه قد حدد عدَّتهما وَلَمْ يَجْرِ ذِكْرُ الأخرى فَسَأَلُوا عَنْهَا فَنَزَلَ {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} الطلاق: 4. فالنَهْي هنا إذًا في شيءٍ لَمْ يَكُنْ بِهِمْ حَاجَةٌ إِلَى السُّؤَالِ فِيهِ، فَأَمَّا مَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ فَلَا.
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرمًا مَنْ سألَ عن شيءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ: وَلَوْ لَمْ يَسْأَلِ الْعَجْلَانِيُّ عَنِ الزِّنَى لَمَا ثَبَتَ اللِّعَانُ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ سَأَلَ عَنِ الشَّيْءِ عَنَتًا وَعَبَثًا فَعُوقِبَ بِسُوءِ قَصْدِهِ بِتَحْرِيمِ مَا سَأَلَ عَنْهُ، وَالتَّحْرِيمُ يَعُمُّ. وقَالَ العُلَمَاءُ: لَا تَعَلُّقَ لِلْقَدَرِيَّةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى يفعلُ شيئًا مِنْ أَجْلِ شيْءٍ وَبِسَبَبِهِ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قدير، وهو بكلِّ شيءٍ عَلِيمٌ، بَلِ السَّبَبُ وَالدَّاعِي فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ، لَكِنْ سَبَقَ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ أَنْ يُحَرَّمَ الشَّيْءُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ إِذَا وَقَعَ السُّؤَالُ فِيهِ، لَا أَنَّ السُّؤَالَ مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَعِلَّةٌ لَهُ، وَمِثْلُهُ كثير {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} الأنبياء: 23.
قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا}: الضميرُ في "سألها" ظاهرُه يعود على "أشياءَ" لكن قال الزمخشري: فإنْ قلت: كيف قال: لا تَسْالوا عن أشياءَ، ثمَّ قالَ: "قد سَألَها" ولم يقل سَألَ عنها؟ قلت: الضميرُ في سألَها ليس يعودُ على أشياءَ حتى يَتَعدَّى إليها بـ "عن"، وإنَّما يَعودُ على المسألةِ المدلولِ عليْها بقولِه: "لا تَسْألوا" أي: قد سألَ المسألةَ قومٌ، ثمَّ أَصبَحوا بها ـ أي بمَرجوعِها ـ كافرين. ونَحَا ابْنُ عطيَّةَ مَنْحاهُ. قال الشيخ: ولا يتَّجُه قولُهما إلى حذفِ مُضافٍ، وقد صَرَّحَ بِه بعضُ المُفسِّرين، أيْ: قالَ سألَ أَمثالَها أيْ: أمثالَ هذه المسألةِ أو أمثالَ هذه السؤالات. وقال الحُوفيُّ في "سألها": الظاهرُ عَوْدُ الضميرِ على "أشياء" ولا يتَّجِهُ حَمْلُه على ظاهرِه لا مِنْ جِهَةِ اللَّفظِ العربيِّ ولا مِنْ جِهَةِ المَعنى، أمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفظِ فلأنَّه كان يَنبَغي أنْ يُعْدَّى بـ "عن" كما عُدِّي في الأوَّل، وأمَّا من جهةِ المعنى فلأنَّ المسؤولَ عنه مختلِفٌ قطعًا، فإنَّ سؤالّهم غيرُ سؤالِ مَنْ قبلَهم، فإنَّ سؤالَ هؤلاءِ مثلُ مَنْ سأل: أيْن ناقتي وما بَطْنُ ناقتي، وأينَ أَبي وأيْنَ مَدْخَلي؟ وسؤالُ أولئك غيرُ هذا نحو: {أَنزِلْ عَلَيْنَا مائِدَةً} المائدة: 114. و{أَرِنَا الله جَهْرَةً} النساء: 153. و{اجعل لَّنَا إلها} الأعراف: 138. ونحوه. وقال الواحدي: ـ ناقلًا عن الجُرجاني ـ وهذا السؤالُ في الآياتِ يُخالِفُ معنى السؤالِ في قولِه: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ} {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا} ألا ترى أنَّ السؤالَ في الآية الأولى قد عُدِّي بالجارِّ، وها هنا لم يُعَدَّ بالجار، لأنَّ السؤالَ ها هنا طَلَبٌ لِعَيْنِ الشيءِ نحو: "سَأَلْتُك درهمًا" أي طلبته منك، والسؤالُ في الآية الأولى سؤالٌ عن حالِ الشيءِ وكيفيتِه، وإنما عَطَفَ بقوله: "قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ} على ما قبلَها وليست بمثلِها في التأويل، لأنَّه إنَّما نَهاهم عن تكليف ما لم يُكَلَّفوا، وهو مرفوعٌ عنهم" ويجوزُ أنْ يعودَ على "أشياء" لفظًا لا معنًى كما قال النَّحْويّونَ في مسألةِ: "عندي درهمٌ ونصفُه" أيْ: ونصفُ درهمٍ آخرَ، ومنه قولُ الأَخْنَسِ بْنَ شِهابٍ التَغْلِبيِّ:
وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ .............. ونحنُ خَلَعْنا قيدَه فَهْوَ سارِبُ
قوله: {مِن قَبْلِكُم} متعلِّقٌ بقولِه: {سَأَلَهَا} فإنْ قيلَ: هل يَجوزُ أنْ يَكونَ صفةً لقومٍ؟ قلتُ: مَنَعَ مِنْ ذلك جماعةٌ مُعْتلِّين بأنَّ ظرفَ الزَمان لا يقعُ خبرًا ولا صفةً ولا حالًا عن الجُثَّةِ، وقد تقدَّمَ نحوٌ من هذا في أوَّلِ البَقَرَةِ عند قوله: {والذين مِن قَبْلِكُمْ} الآية: 21، فإنَّ الصلةَ كالصفة، و"بها" متعلق بـ "كافرين" وإنَّما قُدِّم لأجلِ الفواصلِ. وقرأ النُخَعيّ: "سالها" بالإمالةِ مِنْ غيرِ هَمْزٍ وهُما لُغتان، ومنه يَتَساولان فإمالتُه لـ "سأل" كإمالةِ حمزة "خاف" وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرةِ عند {فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} الآية : 61. و{سَلْ بني إِسْرَائِيلَ} الآية: 211.