وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً.
(156)
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً} وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى بِهِمْ غَضَبَهُ، "بِكُفْرِهِمْ" أي بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ أَيْ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، كَمَا قَالَ: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} البقرة: 88. أَيْ إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلًا أَيْ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ غَيْرُ نَافِعٍ لَهُمْ. ثُمَّ كَرَّرَ "وَبِكُفْرِهِمْ" لِيُخْبِرَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا كُفْرًا بَعْدَ كُفْرٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى "وَبِكُفْرِهِمْ" بِالْمَسِيحِ عيسى بنِ مريمَ ـ عليهِما السلامُ، فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ.
والمُرادُ بالكُفْرِ المَعطوفِ عليْه، إمَّا الكُفرُ المُطلَقُ أوِ الكُفرُ بمُحمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ لاقْتِرانِه بقولِه تعالى: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} النساء: 155، وقد حكى اللهُ تعالى عنهم هذه المَقالةَ في مُواجهتِهم له عليْه الصلاةُ والسَّلامُ في مَواضِعَ، ففي العطفِ إيذانٌ بصلاحيَةِ كلٍّ مِنَ الكُفريْنِ للسَببيَّةِ. وقد يُعتَبَرُ في جانبِ المَعطوفِ المجموعِ، ومغايَرَتُه للمُفرَدِ المَعطوفِ عليْه ظاهِرَةٌ، أو عَطْفٌ على {فَبِمَا نَقْضِهِم} النساء: 155. ويَجوزُ اعْتِبارُ عطفِ مجموعِ هذا وما عُطِفَ عليْه على مجموعِ ما قبلَه، ولا يُتوهَّمُ المَحذورُ، وإنْ قُلْنا باتِّحادِ الكُفرِ أيضًا لِمُغايَرَةِ المَجموعِ للمَجموعِ وإنْ لم يُغايِرْ بعضُ أجزائه بعضًا، وقد يُقالُ بمغايرَةِ الكُفرِ في المَواضِعِ الثلاثةِ بحملِه في الأَخيريْنِ على ما أَشَرْنا إليْه، وفي الأَوَّلِ على الكُفرِ بموسى ـ عليْه السلامُ ـ لاقتِرانِه بنقضِ الميثاقِ، وتقدَّمَ حديثُ العَدْوِ في السَّبتِ.
وما من كَلمةٍ واحدةٍ في القرآنِ مُكَرَّرَة مِنْ غيرِ داعٍ، لأنَّه كلامُ اللهِ ـ سبحانَه وتعالى ـ الذي لا يَنسى شيئًا، والكُفْرُ على درجاتٍ وألوانٍ شتّى، فمرَّةً يَكون الكفرُ باللهِ، ومرَّةً يكونُ الكُفرُ بآياتِ اللهِ، وأُخرى يَكونُ الكُفْرُ بالرُسُلِ، أو ببعضِ النَّبيين، أو ببعضِ الكُتُبِ السماويَّة.
قولُهم: {وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانًا عَظِيمُا} الْبُهْتَانُ الْعَظِيمُ رَمْيُهَا بِيُوسُفَ النَّجَّارِ وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ. وتَمادَوا على ذلك غيرَ مُكترثين بِقيامِ المُعجِزَةِ بالبَراءةِ، وَالْبُهْتَانُ الْكَذِبُ الْمُفْرِطُ الَّذِي يُتَعَجَّبُ مِنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وهنا نَجِدُ أنَّه ـ سبحانَه ـ قد ساوى بيْن قولِهِمُ البُهتانَ على مَرْيَمَ وبيْنَ كلِّ الأفعالِ السابِقَةِ؛ لأنَّهم اعْتَرضوا على رِسالةِ عيسى ونبوَّتِهِ ـ عليه السلام ـ وهو نبيٌّ مِنْ أُولي العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ بأشياءَ قدْ تَكونَ ضِمْنَ الأسبابِ التي فتَنَتْ بعضَ النّاسِ فيه، لَقَدْ خلَقَه اللهُ خَلْقًا خاصًّا. فقد خَلَقَ الناسَ جميعًا مِنْ آدَمَ ـ عليْه السلامُ ـ الذي صوَّرَه مِنْ طينٍ ثمَّ نَفَخَ فيه الرّوحَ، وجاءَ الخلقُ مِنَ التَزاوُجِ. أمَّا عيسى ـ عليه السلامُ ـ فقد خَلَقَهُ اللهُ بطريقةٍ خاصَّةٍ، فكفروا به واتَّهَموأ أُمَّه مريمَ ـ عليها السلامُ ـ وهي البتول.
ومِنَ الجائز أنْ تُتَّهَمَ المَرأةُ وتُرمى وتُوصَفَ بِكلِّ شيءٍإلَّا الاتِّهامَ في العِرْضِ. الذي عدَّه الحقُّ ـ سبحانَه هنا كفرًا به.
لقد ارتكبوا أربعةَ أفعالٍ جَسيمة: نَقضوا الميثاقَ، وكَفَروا بآياتِ اللهِ، وقَتَلوا الأنْبياءَ بغيرِ حَقٍّ، وادَّعوا أنَّ اللهَ طَبَعَ على قلوبِهم. فجعلَها اللهُ جريمةً واحدةً فضلًا منه ورحمةً.
قولُهُ تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ} معطوفٌ على "ما" في قولِه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} فيكونُ متعلِّقًا بما تَعَلَّقَ بِه الأوَّلُ. أو هو عطفٌ على "بكفرهم" الذي بعد "طبع".
قوله: {بُهْتَاناً} في نصبِه خمسةُ أوجُهٍ، أَظهرُها: أنَّه مفعولٌ به، فإنَّه مُضَمَّنٌ معنى "كلام" نحو: قلتُ خُطْبَةً وشعرًا. الثاني: أنَّه منصوبٌ على نوعِ المَصدرِ كقولِهم: "قَعَدَ القُرْفُصاءَ" يَعني أنَّ القولَ يَكون بُهتانًا وغيرَ بهتانٍ. الثالثُ: أنْ يَنْتَصِبَ نعتًا لِمَصْدَرٍ مَحذوفٍ، أي: قولًا بُهتانًا، وهو قريبٌ من معنى الأوَّلِ، الرابعُ: أنَّه منصوبٌ بفعلٍ مُقَدَّرٍ مِنْ لفظِه أي: بَهَتوا بُهْتانًا. الخامسُ: أنَّه حالٌ مِنَ الضَميرِ المَجرورِ في قولِهم، أي: مُباهتين، وجازَ مجيءُ الحالِ مِنَ المُضافِ إليْه لأنَّه فاعلٌ معنًى، والتقديرُ: وبأنْ قالوا ذلك مُباهتين.
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً. (157)
قَوْلُهُ ـ سبحانه وتَعَالَى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} جريمةٌ جديدةٌ ارْتَكَبَها اليهودُ ـ لَعَنَهمُ اللهُ ـ عَطَفَها الحقُّ ـ تبارَك وتعالى ـ معطوفةٌ على جرائمهمُ السابقة، و"رَسُولَ الله" لِيلفتَنا ـ سبحانه ـ إلى بَشاعةِ ما فعلوه، فعيسى بْنُ مريَمَ رَسولُ اللهِ على رغم أنوفهم، جاء ليبلِّغَهم رسالةِ اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ ومِنَ العرف عند أهل الشهامة أنَّ الرسولَ بينهم لايُقتَلُ حتى في حال الحرب والعداوات فهو إنَّما يأتي ناقلًا رسالةَ مَنْ أَرسَلَهُ وحسْب، والإساءة إليه تعتبر خلقاً ذميمًا مِنْ أحطِّ الأخلاقِ وأَخَسِّ الصفات ولو كان هذا الرسولُ يحمل رسالةَ إنذارٍ بالحَرْبِ مَضمونُها التهديدُ والوَعيدُ، كالرِسالةِ التي حمَلَها السفيرُ الفرنسيُّ إلى داي الجزائرِ في القرن قبل التاسع عشرَ مما حملَ حاكمَ الجَزائرِ حينَها على صفعِ السفيرِ الفرنسيِّ بِمِذَبَّةٍ كانتْ بِيَدِه لأنَّه لم يَستَطعْ تَحَمُّلَ ما في الرسالةِ مِنْ وَقاحةٍ وإهانةٍ، الأمرُ الذي أَدَّى إلى حَرْبٍ بينَ البَلَديْن دامتْ أكثرَ مِن مِئةِ سنةٍ وحَصَدَتْ أكثرَ مِنْ أَلفِ ألِفِ ضحيَّةٍ، فكيفَ إذا كان هذا الرَّسولُ يَحمِلُ رِسالةَ سَلامٍ وأمانٍ؟ وكيفَ إذا كانتْ هذه الرِّسالةُ مِنْ رَبِّ العالمين يَحْمِلُها نبيٌّ عظيمٌ ورسولٌ كريم؟ فقد نَجّى اللهُ ـ تَبارَكَ وتعالى ـ رسولَه مِنْ كيدِهم فرَفَعَه إليه، وأَدْخَلَ في نُفوسِهم الشُبْهَةَ فقَتَلوا مَنْ وشى بعيسى ـ عليه السلامُ ـ ودَلَّهم على مكانِ وُجودِه، فانْجِيلُ بِرْنَابَا يَقُولُ إنَّ الجُنُوَد أَخَذُوا يَهُوذَا الاسْخَرْيُوطِيَّ نَفْسَهُ ظَنًّا مِنْهُمْ أنَّهُ المَسِيحُ، لأنَّ اللهَ أَلْقَى عَلَيهِ شَبَهَهُ. وسَلَّطَ عليْهم مَنْ قتَّلَ الكثيرَ منهم وأذلهم، وهذا إضافةً إلى ما ينتظرهم في الآخرة مِنْ سَخَطِ اللهِ وعذابِه. لكفرِهم بآياتِ اللهِ، وامحاولتهم الإساءةَ إلى رسولِه وكأنَّ الحَقَّ ـ سبحانه ـ يَسخرُ منهم؛ لأنَّه ما كان اللهُ لِيُرسِلَ رَسولاً لِيُبَيِّنَ مِنهجَه للناسِ ثمَّ يُتخلّى عنه. وجاء بكلمة "رَسُولَ الله" هنا كمقدمة لِيَلتَفِتَ الذِّهنُ إلى أنَّ ما قالوهُ هو الكَذِبُ.
قولُه: {وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ} رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ. "إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ". فهو حالٌ أوِ اعْتِراضٌ.
قولُهُ: {وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} أَيْ أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي "آلِ عِمْرَانَ". وَقِيلَ: لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ شَخْصَهُ وَقَتَلُوا الَّذِي قَتَلُوهُ وَهُمْ شَاكُّونَ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ". وقِيلَ: إِنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ جَمِيعِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ إِلَّا عَوَامُّهُمْ، وَمَعْنَى اخْتِلَافِهِمْ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إِنَّهُ إِلَهٌ، وَبَعْضُهُمْ هُوَ ابْنُ اللَّهِ. وَقِيلَ اخْتِلَافُهُمْ أَنَّ عَوَامَّهُمْ قَالُوا قَتَلْنَا عِيسَى. وَقَالَ مَنْ عَايَنَ رَفْعَهُ إِلَى السَّمَاءِ: مَا قَتَلْنَاهُ. وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ أَنَّ النُّسْطُورِيَّةَ مِنَ النَّصَارَى قَالُوا: صُلِبَ عِيسَى مِنْ جِهَةِ نَاسُوتِهِ لَا مِنْ جِهَةِ لَاهُوتِهِ. وَقَالَتِ الْمَلْكَانِيَّةُ: وَقَعَ الصَّلْبُ وَالْقَتْلُ عَلَى الْمَسِيحِ بِكَمَالِ نَاسُوتِهِ وَلَاهُوتِهِ. وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ هُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ هَذَا صَاحِبَنَا فَأَيْنَ عِيسَى؟ وَإِنْ كَانَ هَذَا عِيسَى فَأَيْنَ صَاحِبُنَا؟ وَقِيلَ: اخْتِلَافُهُمْ هُوَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا: نَحْنُ قَتَلْنَاهُ، لِأَنَّ يَهُوذَا رَأْسَ الْيَهُودِ هُوَ الَّذِي سَعَى فِي قَتْلِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّصَارَى: بَلْ قَتَلْنَاهُ نَحْنُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَيْهِ.
قولُه: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ} مِنْ: زائدةٌ، وتمَّ الكلامُ. ثمَّ قال عَزَّ وجَلَّ: "إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً" استثناءً ليس من الْأَوَّلِ أَيْ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ. "وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً" قال ابنُ عباسٍ والسُدِّيُّ الْمَعْنَى مَا قَتَلُوا ظَنَّهُمْ يَقِينًا، كَقَوْلِكَ: قَتَلْتُهُ عِلْمًا إِذَا عَلِمْتَهُ عِلْمًا تَامًّا، فَالْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى الظَّنِّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى وَمَا قَتَلُوا عِيسَى يَقِينًا لَقَالَ: وَمَا قَتَلُوهُ فَقَطْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَمَا قَتَلُوا الَّذِي شُبِّهَ لَهُمْ أَنَّهُ عِيسَى يَقِينًا، فَالْوَقْفُ عَلَى هَذَا عَلَى "يَقِيناً". وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَمَا قَتَلُوا عِيسَى، وَالْوَقْفُ على "وَما قَتَلُوهُ" و"يَقِيناً" أَيْ قَالُوا هَذَا قَوْلًا يَقِينًا، أَوْ قَالَ اللَّهُ هَذَا قَوْلًا يَقِينًا. وقَوْلٌ آخَرُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَمَا عَلِمُوهُ عِلْمًا يَقِينًا. فإِنْ قَدَّرْتَ الْمَعْنَى بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَقِينًا فَهُوَ خَطَأٌ، لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ مَا بَعْدَ "بَلْ" فِيمَا قَبْلَهَا لِضَعْفِهَا.
قولُه تعالى: {وَقَوْلِهِمْ} عطفٌ على {وكفرهم} و"عيسى" بدلٌ من "المسيح" أو عطفُ بيانٍ، وكذلك "ابن مريم" ويجوزُ أنْ يكونَ صفةً أيضًا، وأَجاز أبو البقاء في "رسول الله" هذه الأوجهَ الثلاثةَ، إلَّا أنَّ البَدَلَ بالمُشتقاتِ قليلٌ. وقد يُقال: إنَّ "رسول الله" جَرى مَجْرى الجَوامِدِ وأجاز فيه أنْ يَنْتصِبَ بإضمارِ "أعني"، ولا حاجةَ إليه. قولُه: "شُبِّه لهم": "شُبِّه" مبني للمفعولِ وفيه وجْهانِ، أحدُهما: أنَّه مسندٌ للجارِّ بعدَه كقولِك: حِيلَ إليه، ولُبِس عليه. والثاني: أنَّه مسندٌ لِضميرِ المَقتولِ الذي دَلَّ عليه قولُهم: "إنَّا قتلْنا" أي: ولكنْ شُبِّهَ لَهم مَنْ قَتَلوه. فإنْ قيل: لِمَ لا يجوزُ أنْ يَعودَ على المسيحِ؟ فالجوابُ أنَّ المسيحَ مُشبَّهٌ بِه لا مُشبَّهٌ. وكُسِرَتْ "إِنَّ" لِأَنَّهَا مُبْتَدَأَةٌ بَعْدَ الْقَوْلِ وَفَتْحُهَا لُغَةٌ.
قوله: "لَفي شك منه": "منه" في محلِّ جرٍ صفةً لـ "شك" يتعلَّقُ بمحذوفٍ، ولا يَجوزُ أنْ تَتعلَّقَ فَضْله بنفس "شك"؛ لأنَّ الشكَّ إنَّما يتعدَّى بـ "في" لا بـ "من"، ولا يُقالُ: إنَّ "مِنْ" بمعنى "في" فإنَّ ذلك قولٌ مرجوحٌ، ولا ضرورةَ لنا بِه هنا.
وقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} يَجوزُ في "عِلْمٍ" وجهان، أحدُهما: أنَّه مرفوعٌ بالفاعِليَّةِ والعاملُ أحدُ الجارَّيْن: إمّا "لهم" وإما "به"، وإذا جُعِلَ أحدُهما رافعًا له تعلَّقَ الآخرُ بما تعلَّقَ بِه الرَّفعُ مِنَ الاسْتِقرارِ المُقدرِ. و"مِنْ" زائدةٌ لِوجودِ شرطَيْ الزِيادةِ. والوجهُ الثاني: أَنْ يَكونَ "من علمٍ" مُبتدأٌ زِيدتْ فيه "من" أيضًا، وفي الخبرِ احتمالان، أحدُهُما: أنْ يَكونَ "لهم" فيكون "به": إمَّا حالاً مِنَ الضميرِ المُسْتَكِنِّ في الخبر، والعاملُ فيها الاستقرارُ المُقدَّرُ، وإمَّا حالاً من "عِلْم" وإنْ كان نَكِرَةً لِتَقدُّمِها عليه ولاعْتِمادِه على نفيٍ. فإنْ قيلَ: يَلزَمُ تَقَدُّمُ حالِ المَجرورِ بالحرف عليه وهو ضرورةٌ لا يَجوزُ في سَعةِ الكَلامِ. فالجوابُ أنَّا لا نُسَلِّم ذلك، بل نَقَلَ أبو البقاءِ وغيرُه أنَّ مَذْهَبَ أَكثَرِ البَصْريّين جوازُ ذلك، ولئِنْ سلَّمْنا أنَّه لا يَجوزُ إلَّا ضَرورةً لكنَّ المَجرورِ هنا مَجرورٌ بحرفِ جَرٍّ زائدٍ، والزائدُ في حُكْمِ المُطَّرَحِ، وأَمَّا أنْ يَتَعلَّقَ بمحذوفٍ على سبيلِ البَيانِ أي: أَعْني بِه، ذَكَرَه أبو البقاءِ، ولا حاجةَ إليه، ولا يَجوزُ أنْ يَتعلَّقَ بنفسِ "علم" لأنَّ معمولَ المَصدرِ لا يَتَقدَّمَ عليه. والاحتمالُ الثاني: أنْ يَكونَ "به" هو الخبر، و"لهم" متعلِّقٌ بالاسْتِقرارِ كما تقدَّمَ، ويَجوزُ أنْ تَكون اللامُ مبيِّنَةً مُخصَّصَةً كالَّتي في قولِه: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} الإخلاص: 4. وهذه الجُملةُ المَنْفِيَّةُ تحتَمِلُ ثلاثةَ أَوْجُهٍ: الجَرَّ على أنَّها صِفَةٌ ثانيةٌ لـ "شك" أي: غيرِ معلوم. الثاني: النصبُ على الحالِ من "شك" وجازَ ذلك وإنْ كان نَكِرَةً لِتَخَصُّصِهِ بالوَصْفِ بقولِه "منه" الثالث: الاستئنافُ، وهو بعيد.
قولُه: {إِلاَّ اتباع الظن} في هذا الاستثناءِ قولان، أحدُهُما: وهو الصحيحُ الذي لم يَذكُرِ الجمهورُ غيرَه أنَّه مُنْقَطِعٌ؛ لأنَّ اتباعَ الظَنِّ ليس مِنْ جنسِ العِلمِ، ولم يُقْرأ إلَّا بِنَصْبِ "اتِّباعَ" على أصلِ الاسْتِثْناءِ المُنقطعِ، وهي لُغةُ الحِجازِ، ويَجوزُ في تميمِ الإِبدالُ مِنْ "علم" لفظًا فيجرُّ، أو على المَوضِعِ فيُرفَعُ لأنَّه مَرفوعُ المَحَلِّ كما قَدَّمَتْهُ لك، و"من" زائدةٌ فيه.
والثاني ـ قال ابنُ عَطيَّةَ: أنَّه مُتَّصِلٌ، قال: "إذ العِلْمُ والظَنُّ يَضُمُّهُما جِنْسُ أنَّهُما مِنْ معتقداتِ اليَقين، يقولُ الظانُّ على طريقِ التَجَوُّزِ: علمي في هذا الأمرِ كَذا "إنَّما يُريدُ ظَنِّي. وهذا غيرُ موافَقٍ عليه لأنَّ الظَنَّ ما تَرَجَّحَ فيه أحدُ الطَرفيْن، واليقينُ ما جُزِمَ فيه بأحدِهِما، وعلى تقديرِ التَسليمِ فاتِّباعُ الظَنِّ ليس مِنْ جنسِ العِلْمِ، بل هو غيرُه، فهو مُنقَطِعُ أيْضًا أي: ولكنَّ اتِّباعَ الظَنِّ حاصلٌ لهم.
قوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} الضميرُ في "قتلوه" فيه أقوالٌ أظهرُها أنَّه لعيسى، وعليه جمهورُ المُفسِّرين. والثاني: ـ وبِه قالَ ابْنُ قُتيبَةَ والفَرَّاءُ ـ أنَّه يَعودُ على العِلمِ أيْ: ما قَتَلوا العِلْمَ يقينًا، على حَدِّ قولِهم: قتلتَ العلمَ والرأيَ يقينًا. و"قتلته علمًا" ووجه المَجازِ فيه أنَّ القتلَ للشيءِ يَكون عن قهرٍ واستِعلاءٍ، فكأنَّه قيلَ: وما كان عِلْمُهم عِلْمًا أُحيطَ به، إنَّما كان عن ظّنٍّ وتَخمينٍ. الثالث ـ وبِه قالَ ابْنُ عبَّاسٍ والسُدِّيُ وطائفةٌ كبيرةٌ ـ أنَّه يَعودُ للظَنِّ تقولُ: "قتلتُ هذا الأمرَ عِلْمًا ويَقينًا" أي: تحقَّقتُ، فكأنَّه قيلَ: وما صَحَّ ظنُّهم عندَهم وما تحقَّقوه يَقينًا ولا قَطَعوا الظَنَّ باليَقينِ.
قولُه: {يقينًا} فيه خمسةُ أَوْجُهٍ، أَحدُها: أنَّه نعتُ مصدرٍ مَحذوفٍ أيْ: قَتْلًا يَقينًا. الثاني: أنَّه مَصدَرٌ مِنْ مَعْنى العامِلِ قبلَه كما تقدَّمَ مَجازُه، لأنَّه في مَعناه أيْ: وما تَيقنوه يَقينًا. الثالث: أنَّه حالٌ مِنْ فاعلِ "قَتَلوه" أي وما قَتَلوه مُتَيَقِّنينَ لِقَتْلِهِ. الرابعُ: أنَّه مَنصوبٌ بِفعلٍ مِن لَفظِهِ حُذِفَ للدَلالةِ عليه. أي: ما تيقَّنوه يَقينا، ويكونُ مُؤكِّدًا لِمضْمونِ الجُملةِ المَنْفيَّةِ قبلَه. وقدّرَ أبو البَقاءِ العاملَ على هذا الوجهِ مُثْبَتًا فقال: تقديرُه: تَيَقَّنوا ذلك يَقنيًّا" وفيه نظر. الخامس: ـ ويُنْقلُ عنْ أبي بَكرٍ بْنِ الأنْباريِّ ـ أنَّه منصوبٌ بما بعد "بل" من قولِه: "رَّفَعَهُ اللهُ" وأنَّ في الكلامِ تقديمًا وتأخيرًا أيْ: بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إليْه يَقينًا، وهذا قد نَصَّ الخليلُ فمَنْ دونه على منعِه، أي: إن "بل" لا يعملُ ما بعدَها فيما قبلَها، فيَنبَغي ألَّا يَصِحَّ عنْه، وقولُه: {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} ردٌّ لِما ادَّعَوْه مِنْ قتلِه وصلبِه. والضميرُ في "إليه" عائدٌ على "الله" على حَذْفِ مضافٍ، أيْ: إلى سَمائِه ومَحلِّ أمرِهِ ونَهيِهِ.
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)
قولُه: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} أَيْ إِلَى السَّمَاءِ، تأكيدٌ لِنَجاةِ سيدنا عيسى ـ عليه السلامُ ـ مما يَزعمونَه مِن قَتْلِهم لَه، وبيانٌ لِما أَكرَمَهُ اللهُ بِه مِنْ رِعايةٍ وتَشريفٍ. وَقِيلَ فِي مَعْنَى: رَفَعَهُ اللهُ إلَيْهِ: إنَّهُ تَوَفَّاهُ وَطَهَّرَهُ مِنَ الذِينَ كَفَرُوا. وَقِيلَ أَيْضاً بَلِ المَعْنَى هُوَ أنَّ اللهَ تَعَالَى رَفَعَهُ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ إلى السَّمَاءِ. وَقِيلَ أَيْضاً إنَّ اللهَ رَفَعَهُ إلَى مَحَلِّ كَرَامَتِهِ. وقد وَرَدَ في حديثِ الإسراءِ أنَّه في السماءِ الثانيةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنِ الْمَكَانِ، وجُمهورُ العُلَماءِ على أنَّ اللهَ ـ تعالى ـ رفعَ عيسى إليْه بِجَسَدِه ورُوحِه لا بِروحِه فقط مِن غيرِ موتٍ ولا غَفْوَةٍ. والخُصوصيَّةُ له ـ عليه السلامُ ـ هي في رفعِهِ بجسَدِهِ وبقائهِ في السماءِ إلى الأمْرِ المُقَدَّرِ له. وَقَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ رَفْعِهِ فِي "آلِ عِمْرَانَ". وهو هنالِك مُقيمٌ حتّى يَنزِلَ إلى الأرْضِ فيَقتُل الدجّالَ ويَملؤها عَدْلًا كما مُلِئتْ جَوْرًا ثمَّ يَحيا فيها أَرْبعينَ سنةً، أو تَمامَها مِنْ سِنِّ رفعِه، وكان إذْ ذاكَ ابْنَ ثلاثٍ وثلاثين سنَة، ويَموتُ كما تَموتُ البَشَرُ، ويُدفَنُ في حُجْرَةِ النَبِيِّ ـ عليْه الصلاةُ والسلامُ، أوْ في بيتِ المَقدِسِ، وقال قَتادةُ: رَفَعَ اللهُ تعالى عيسى ـ عليه السلامُ ـ إليه فَكَساهُ الريشَ، وأَلبَسَهُ النورَ، وقَطَعَ عنه لَذَّةَ المَطْعَمِ والمَشْربِ، فطارَ مَعَ الملائكةِ، فهو معهم حولَ العرشِ، فصار إنْسِيًّا مَلَكِيًّا سماويًّا أرضيًّا، وهذا الرفعُ ـ على المُختارِ ـ كان قبلَ صَلْبِ الشَبيهِ، وفي إنجيلِ لُوقا ما يُؤيِّدُه؛ وأمَّا رُؤْيَةُ بعضِ الحَواريّينَ له ـ عليه السلامُ ـ بعدَ الصَلبِ فهو من بابِ تَطَوُّرِ الرُّوحِ، فإنَّ للقِدِّسيينَ قُوَّةُ التَطَوُّرِ في هذا العالَمِ، وإن رُفِعتْ أَرواحُهم إلى المَحَلِّ الأسْنى.
قال الحسنُ البَصرِيُ أي إلى السماءِ التي هي محلُّ كَرامةِ اللهِ تعالى ومَقَرُّ ملائكتِه ولا يَجري فيها حُكمُ أحدٍ سِواهُ فكان رَفعُه إلى ذلك المَوضِعِ رَفعًا إليه تعالى لأنَّه رفعٌ عن أن يَجريَ عليه حُكمُ العِبادِ ومِنْ هذا القَبيلِ قولُه تعالى {ومن يَخرجْ مِن بيتِه مُهاجِرًا إلى اللهِ} وكانت الهجرةُ إلى المدينةِ، وقولُه {إني ذاهبٌ إلى ربي} أي إلى مَوضِعٍ لا يَمنَعُني أحدٌ مِنْ عبادةِ ربي والحِكمةُ في الرَّفعِ أنَّه تعالى أرادَ به صُحبةَ الملائكة لِيَحصُلَ لَهم بركتُه لأنَّه كلمةُ اللهِ ورُوحُهُ، كما حَصل للملائكةِ بَرَكةُ صحبةِ آدمَ أبي البَشَرِ مِنْ تَعَلُّمِ الأسماءِ والعِلمِ، وإنَّ مَثَلَ عيسى عندَ اللهِ كَمَثَلِ آدمَ، كما ذُكِرَ في الآيةِ.
قولُه: {وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} وَاللهُ سَبْحَانَهُ عَزِيزُ الجَانِبِ، لاَ يُرَامُ جنابُهُ، وَلا يُضَامُ مَنْ لاَذَ بِبَابِهِ الكَرِيمِ. وقَوِيٌّ بِالنِّقْمَةِ مِنْ الْيَهُودِ فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ بُطْرُسَ بْنَ أَسْتِيسَانُوسَ الرُّومِيَّ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً. "حَكِيماً" وَهُوَ حَكِيمٌ فِي جَمِيعِ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيهِ مِنَ الأُمُورِ، حَكَمَ عَلَيْهِمْ باللعنة والغضب.
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)
قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}. أي
اليهودُ خاصَّةً كما أَخرجَ ابْنُ جريرٍ الطبريُّ عن ابنِ عبَّاسٍ ـ رضيَ الله تعالى عنهما، أو هُمْ والنَصارى كما ذهبَ إليْه كثيرٌ من المفسرين، وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: الْمَعْنَى لَيُؤْمِنَنَّ بِالْمَسِيحِ "قَبْلَ مَوْتِهِ" أَيِ الْكِتَابِيِّ، فَالْهَاءُ الْأُولَى عَائِدَةٌ عَلَى عِيسَى، وَالثَّانِيةُ عَلَى الْكِتَابِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ أحد من أهل الكتاب الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِلَّا وَيُؤْمِنُ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا عَايَنَ الْمَلَكَ، وَلَكِنَّهُ إِيمَانٌ لَا يَنْفَعُ، لِأَنَّهُ إِيمَانٌ عِنْدَ الْيَأْسِ وَحِينَ التَّلَبُّسِ بِحَالَةِ الْمَوْتِ، فلمَّا حَكَمَ بأنْ لا أمَانَ لهم في وقتِ اليأسِ لمْ يَنْفَعْهُمُ الإيمانُ في تِلكَ الحالةِ، فعُلِمَ أنَّ العِبْرَةَ بأمانِ الحَقِّ لا بإيمانِ العبدِ. فَالْيَهُودِيُّ يُقِرُّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَالنَّصْرَانِيُّ يُقِرُّ بِأَنَّهُ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ سَأَلَ شَهْرَ بْنَ حَوْشَبٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنِّي لَأُوتَى بِالْأَسِيرِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَآمُرُ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، وَأَنْظُرُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا أَرَى مِنْهُ الْإِيمَانَ، فَقَالَ لَهُ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: إِنَّهُ حِينَ عَايَنَ أَمْرَ الْآخِرَةِ يُقِرُّ بِأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُؤْمِنُ بِهِ وَلَا يَنْفَعُهُ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ هَذَا؟ قَالَ: أَخَذْتُهُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: أَخَذْتَ مِنْ عَيْنٍ صَافِيَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا يُؤْمِنُ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ غَرِقَ أَوِ احْتَرَقَ أَوْ أَكَلَهُ السَّبُعُ يُؤْمِنُ بِعِيسَى؟ فَقَالَ: نَعَمْ! وَقِيلَ: إِنَّ الْهَاءَيْنِ جَمِيعًا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَعْنَى لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ مَنْ كَانَ حَيًّا حين نزولِه يومَ القيامَةِ، قالَه قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ. وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ رَجُلٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ" قَالَ: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَحَيٌّ عِنْدَ اللَّهِ الْآنَ، وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ آمَنُوا بِهِ أَجْمَعُونَ، وَنَحْوَهُ عَنِ الضَّحَّاكِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: "لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ" أَيْ بِمُحَمَّدٍ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَقَاصِيصَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَالْمَقْصُودُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَالْإِيمَانُ بِعِيسَى يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ أَيْضًا، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الأنبياءِ ـ عليهم الصلاةُ والسلام. وَقِيلَ: "لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ" أَيْ بِاللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَلَا يَنْفَعُهُ الْإِيمَانُ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ. وَالتَّأْوِيلَانِ الْأَوَّلَانِ أَظْهَرُ. وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ: ((لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا فَلَيَقْتُلَنَّ الدَّجَّالَ وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ وَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ وَتَكُونُ السَّجْدَةُ وَاحِدَةً لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))، ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ "وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، يُعِيدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ. وَتَقْدِيرُ الْكُوفِيِّينَ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا مَنْ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ، وَفِيهِ قُبْحٌ، لِأَنَّ فِيهِ حَذْفَ الْمَوْصُولِ، وَالصِّلَةُ بَعْضُ المَوصولِ فكأنَّه حَذَفَ بعضَ الاسْمِ.
وفي روايةٍ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم: ((واللهِ لَيَنْزِلَنَّ فيكمُ ابْنُ مريمَ حَكَمًا عادلًا فَلَيَكْسُرَنَّ الصَّليبَ، ولَيَقْتُلَنَّ الخِنْزيرَ، ولَيَضَعَنَّ الجِزْيةَ، ولَيَتْرُكَنَّ القِلاصَ فلا يُسعى عليها، ولَيُذْهِبَنَّ الشَحْناءَ والتَباغُضَ والتَحاسُدَ ولَيَدْعُوَنَّ إلى المالِ فلا يَقْبَلْهُ أحدٌ)). أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين. ففي هذا الحديثِ دليلٌ على أنَّ عيسى يَنْزِلُ في آخرِ الزَمانِ في هذه الأُمَّةِ ويَحكمُ بِشريعةِ مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم ـ وأنَّه لا يَنزِلُ نَبيًّا بِرِسالةٍ مُستقِلَّةٍ وشريعةٍ ناسِخةٍ، بَلْ يَكونُ حاكِمًا مِنْ حُكَّامِ هذِه الأُمَّةِ، وإمامًا مِنْ أَئمَّتِهم، لِقولِه ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ فيَكسُرُ الصَليبَ، يعني يَكسُرُهُ حقيقةً ويُبطِلُ ما تَزْعَمُه النَّصارى مِنْ تعظيمِه. وكذلك قتلُه الخِنزيرَ، وقولُه ويَضَعُ الجِزْيَةَ، يَعني لا يَقبلُها ممَّن بَذَلَها مِنَ اليَهودِ والنَّصارى. ولا يَقبَلُ مِن أَحدٍ إلّا الإسلامَ أوِ القَتْلَ، وعلى هذا قد يُقالُ هذا خلافٌ مما هو حكمُ الشرعِ اليومَ فإنَّ الكِتابيَّ إذا بَذَلَ الجِزْيَةَ وَجَبَ قَبولُها مِنْه ولمْ يَجُزْ قتْلُه، ولا إجْبارُه على الإسلامِ، والجوابُ أنَّ هذا الحُكمَ ليس مُستَمِرًا إلى يومِ القيامةِ، بلْ هو مُقيَّدٌ بما قبلَ نُزولِ عيسى ـ عليه السلام ـ وقد أَخْبَرَ النبيُّ ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بنسخِه، وليس الناسخُ هو عيسى ـ عليه السلامُ، واللهُ أعلم.
وقولُه تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} يَعني يَكونُ عيسى ـ عليه السلامُ ـ شاهدًا على اليهودِ أنَّهم كَذَّبوه، وطَعَنوا فيه، وعلى النصارى أنَّهم اتَّخَذوهُ ربًّا، وأَشرَكوا بِه، ويَشهَدُ على تَصديقِ مَن صَدَّقَه منهم وآمَنَ بِه، قال قَتادةُ: معناه إنَّه يَكون شهيدًا يومَ القِيامةِ، إنَّه قد بَلَّغَ رسالةَ ربِّه، وأَقرَّ على نفسِه بالعُبوديَّةِ.
قوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب} إنْ: هنا نافيةٌ بمعنى
"ما" و"من أهل" صفةٌ لِمُبتَدَأٍ محذوفٍ، والخبرُ الجملةُ القَسَمِيَّةُ المَحذوفَةُ وجوابُها، والتقديرُ: وما أَحَدٌ مِنْ أهلِ الكتابِ إلَّا واللّهِ لَيُؤمِنَنَّ بِه، فهوَ كقولِه: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} الصافات: 164. أي: ما أحدٌ منَّا، وكقولِه: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} مريم: 71. أي: ما أَحَدٌ منكم إلَّا ورادُها، هذا هو الظاهر، ويمكن أنْ يكون "من أهل" في محلِّ الخبر، وجملةُ "ليؤمِنَنَّ به" جُملةٌ قَسَمِيَّةٌ واقعةٌ صفةً لِموصوفٍ مَحذوفٍ تقديرُه: وإنْ منْ أهلِ الكتابِ أحدٌ إلَّا لَيُؤمِنَنَّ بِه، ونحوه: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} الصافات: 164. وكذلك {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} مريم: 71. والمعنى: وما مِنَ اليَهودِ أحَدٌ إلَّا لَيُؤمِن.
واللام في "ليؤمِنَنَّ" جوابُ قسمٍ محذوفٍ كما تقدَّم. وقال أبو البقاء: ليؤمِنَنَّ جوابُ قَسَمٍ محذوف، وقيل: أكَّد بها في غير القسم كما جاء في النفي والاستفهام. فقولُه: "وقيل إلى آخره" إنَّما يَستقيمُ ذلك إذا أعَدْنا الخلاف إلى نونِ التوكيد؛ لأنَّ نون التوكيد قد عُهِد التأكيدُ بها في الاستفهام باطَّراد، وفي النفي على خلافٍ فيه، وأمَّا التأكيدُ بلامِ الابتداءِ في النفيِ والاسْتفهامِ فلم يُعْهَدْ البَتَّةَ.
وقال أيضًا قبلَ ذلك: "وما مِنْ أهلِ الكِتابِ أحدٌ، وقيلَ: المَحذوفُ "مَنْ" وقد مرَّ نظيرُه، إلَّا أنَّ تقديرَ "مَنْ" هنا بعيدٌ، لأنَّ الاسْتِثناءَ يكون بعدَ تمامِ الاسْمِ، و"مَنْ" الموصولةُ والمَوصوفةُ غيرُ تامَّةٍ" يَعني أنَّ بعضَهم جَعَلَ ذلك المحذوفَ لفظَ "مَنْ" فيُقدِّرُ: وإنْ مِنْ أهلِ مَنْ إلا لِيؤمِنَنَّ، فجعلَ مَوضِعَ "أحد" لفظَ "مَنْ" وقولُه: "وقد مَرَّ نظيرُه" يَعني قولَه تعالى: {وَإ