إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} يُذْهِبْكم: يَعْنِي بِالْمَوْتِ "أَيُّهَا النَّاسُ". يُرِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. "وَيَأْتِ بِآخَرِينَ" يَعْنِي بِغَيْرِكُمْ. فمَن اسْتَغْنى عنه في آزالِهِ فلا حاجةَ لَه إليْه في آبادِه. فهو ـ سبحانه ـ لا يَحتاجُ إلى أحدٍ أمّا العبدُ فلا يَستَغني عنْه في نَفَسٍ.
والْآيَةُ عَامَّةٌ، أَيْ وَإِنْ تَكْفُرُوا يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ أَطْوَعَ لِلَّهِ مِنْكُمْ. وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ}. وَفِي الْآيَةِ تَخْوِيفٌ وَتَنْبِيهٌ لجميع مَن كانتْ له وِلايةٌ وإمارةٌ ورِئاسةٌ فَلَا يَعْدِلُ فِي رَعِيَّتِهِ، أَوْ كَانَ عَالِمًا فَلَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ وَلَا يَنْصَحُ النَّاسَ، أَنْ يُذْهِبَهُ وَيَأْتِيَ بِغَيْرِهِ.
قولُه: {وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً} وَالْقُدْرَةُ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ، لَا تَتَنَاهَى مَقْدُورَاتُهُ، كَمَا لَا تَتَنَاهَى مَعْلُومَاتُهُ، وَالْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ فِي صِفَاتِهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْمَاضِي بِالذِّكْرِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَحْدُثُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. وَالْقُدْرَةُ هِيَ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْفِعْلُ وَلَا يَجوزُ وُجودُ العَجْزِ معها.
قولُه تعالى: {بِآخَرِينَ}: آخرين صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ مِنْ جنسِ ما تَقَدَّمَه تقديرُه: بناسٍ آخرين يَعبدون اللهَ، ويَجوزُ أنْ يكونَ المَحذوفُ مِنْ غيرِ جنسِ ما تقدَّمَه. وقيل يُحتَمَلُ أن يكون وعيدًا لجميعِ بني آدم، ويكونُ الآخرون مِنْ غيرِ نوعِهم، كما رُوي أنَّه كان ملائكةٌ في الأرضِ يَعبُدونَ اللهَ. أو خلقاً آخرين غيرَ الإِنس. لكنَّ مدلولَ "آخَرَ" و"أخرى" وتثنيتَهما وجمعَهما نحو مدلول "غير" إلّا أنَّه خاصُّ بجنسِ ما تقدَّمَه، فإذا قلت: اشتريتُ فرسًا وآخرَ، أو: ثوباً وآخر، أو: جاريةً وأُخرى، أو: جاريتين وأُخْريين، أو جواريَ وأُخَرَ، لم يَكن ذلك كلُّه إلّا مِنْ جِنسِ ما تَقَدَّمَ، حتّى لو عَنَيْتَ غير ذلك في الأمثلةِ السابقةِ لم يَجُزْ، وهذا بخلافِ "غير" فإنَّها تكون مِنْ جنسِ ما تَقدَّمَ ومِنْ غيرِه، تقول: اشتريت ثوبًا وغيرَه ولو عنيتَ: وفرسًا غيرَه جاز. ثم إنَّ "آخرين" صفةٌ لِمَوْصوفٍ محذوفٍ، والصفةُ لا تقومُ مَقامَ مَوصوفِها إلَّا إذا كانتْ خاصَّةً بالمَوصوفِ نحوَ: "مررتُ بكاتبٍ" أو يَدُلُّ عليْه دليلٌ، وهنا لَيْستْ بخاصَّةٍ، فلا بُدَّ وأنْ تَكونَ مِن جِنْسِ الأوَّلِ لِتَحصُلَ بذلك الدَّلالةُ على المَوصوفِ المَحذوفِ.