وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)
قوله تعالى شأنُه: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً} المَعْنَى وَإِنِ امْرَأَةٌ توقَّعتْ من زوجها تجافيًا عنْها وتَرَفُّعًا عن صحبَتِها كَراهَةً لها ومَنْعًا لِحُقوقِها الزوجيَّةِ. النُّشُوزُ التَّبَاعُدُ، وَالْإِعْرَاضُ أَلَّا يُكَلِّمَهَا وَلَا يَأْنَسَ بِهَا. وأَنْ يَنْفِرَ مِنْهَا، وَيُعْرِضَ عَنْهَا، فَلَهَا أَنْ تَتَّفِقَ مَعَهُ عَلَى أَنْ تُسْقِطَ عَنْهُ حَقَّهَا كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ: مِنْ نَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ أَوْ مَبِيتٍ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِها عَلَيهِ، لِتَبْقَى عِنْدَهُ عَزِيزَةً مُكَرَّمَةً، أَوْ تَسْمَحُ لَهُ بِبَعْضِ المَهْرِ، أوْ بِمُتْعَةِ الطَّلاقِ، أَوْ بِكُلِّ ذَلِكَ، لِيُطَلِّقَهَا كَمَا جَاءَ فِي آيَةٍ أُخْرَى. وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهَا ذَلِكَ، وَلاَ حَرَجَ عَلَيهَا فِي بَذْلِهِ، وَلاَ حَرَجَ عَلَيهِ فِي قُبُولِهِ مِنْهَا. وَالصُّلْحُ خَيْرٌ مِنَ الفِرَاقِ وَالتَّسْرِيحِ.
فقد روى الْبُخَارِيُّ عَنْ أمِّ المؤمنين عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ أنَّها قَالَتِ في هذِه الآية: الرَّجُلُ تَكُونُ عِنْدَهُ الْمَرْأَةُ لَيْسَ بِمُسْتَكْثِرٍ مِنْهَا يُرِيدُ أَنْ يُفَارِقَهَا فَتَقُولُ: أَجْعَلُكَ مِنْ شَأْنِي فِي حِلٍّ، فَنَزَلَتْ.
وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ كَانَتْ تحتَه خولةُ ابْنَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَكَرِهَ مِنْ أَمْرِهَا إِمَّا كِبَرًا وَإِمَّا غَيْرَهُ، فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَقَالَتْ: لَا تُطَلِّقْنِي وَاقْسِمْ لِي مَا شِئْتَ، فَجَرَتِ السُنَّةُ بذلك ونَزَلَتْ: "وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً". وكذلك روى مالك في مُوَطَّئه والواحديُّ في أسباب النزولِ والطبريُّ في تفسيرِهِ والحاكمُ في مُسْتَدْرَكِه والبَيهقيُّ في السُنَنِ الكُبْرى، واختلف في اسمها فقيلَ عَمْرةُ وقيل خَولةُ. و"آثَرَ الشَّابَّةَ" يُرِيدُ به الْمَيْلَ بِنَفْسِهِ إِلَيْهَا وَالنَّشَاطِ لَهَا، لَا أَنَّهُ آثَرَهَا عَلَيْهَا فِي مَطْعَمٍ وَمَلْبَسٍ وَمَبِيتٍ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُظَنَّ بِمِثْلِ رَافِعٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقال سعيدٌ بنُ جُبيْرٍ: كان رجلٌ له امرأةٌ قد كَبرت وله منها أولادٌ فأرادَ أنْ يُطلِّقَها ويَتزوَّجَ غيرها، فقالت: لا تُطلِّقْني ودَعْني أَقومُ على أَولادي واقْسِمْ لي مِنَ كلِّ شهريْن إنْ شئتَ، وإنْ شئتَ فلا تَقْسِم لي. فقال: إنْ كان يَصلُحُ ذلك فهو أَحَبُّ إليَّ، فأتى رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ فذَكَرَ له ذلك، فأنزل الله تعالى: "وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ".
ورَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَشِيتْ سَوْدَةُ بنتُ زَمَعَةَ ـ رضي اللهُ عنها ـ أَنْ يُطَلِّقَهَا رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَتْ: لَا تُطَلِّقْنِي وَأَمْسِكْنِي، وَاجْعَلْ يَوْمِي مِنْكَ لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ فَنَزَلَتْ: "فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ" فَمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ من شي فَهُوَ جَائِزٌ، قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ في مُصَنَّفِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: هِيَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ فَتَنْبُو عَيْنَاهُ عَنْهَا مِنْ دَمَامَتِهَا أَوْ فَقْرِهَا أَوْ كِبَرِهَا أَوْ سُوءِ خُلُقِهَا وَتَكْرَهُ فِرَاقَهُ، فَإِنْ وَضَعَتْ لَهُ مِنْ مَهْرِهَا شَيْئًا حَلَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَإِنْ جَعَلَتْ لَهُ مِنْ أَيَّامِهَا فَلَا حَرَجَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَنْقُصَهَا مِنْ حَقِّهَا إِذَا تَزَوَّجَ مَنْ هِيَ أَشَبُّ مِنْهَا وَأَعْجَبُ إِلَيْهِ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: هُوَ الرَّجُلُ تَكُونُ تَحْتَهُ الْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ فَيَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا الشَّابَّةَ، فَيَقُولُ لِهَذِهِ الْكَبِيرَةِ: أُعْطِيكِ مِنْ مَالِي عَلَى أَنْ أَقْسِمَ لِهَذِهِ الشَّابَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا أَقْسِمُ لَكِ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَتَرْضَى الْأُخْرَى بِمَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَبَتْ أَلَّا تَرْضَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ.
قَالَ العُلَمَاءُ: وَفِي هَذَا أَنَّ أَنْوَاعَ الصُّلْحِ كُلَّهَا مُبَاحَةٌ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ، بِأَنْ يُعْطِيَ الزَّوْجُ عَلَى أَنْ تَصْبِرَ هِيَ، أَوْ تُعْطِيَ هِيَ عَلَى أَنْ يُؤْثِرَ الزَّوْجُ، أَوْ عَلَى أَنْ يُؤْثِرَ وَيَتَمَسَّكَ بِالْعِصْمَةِ، أَوْ يَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى الصَّبْرِ وَالْأَثَرَةِ مِنْ غَيْرِ عَطَاءٍ، فَهَذَا كُلُّهُ مُبَاحٌ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تُصَالِحَ إِحْدَاهُنَّ صَاحِبَتَهَا عَنْ يَوْمِهَا بِشَيْءٍ تُعْطِيهَا، كَمَا فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ غَضِبَ عَلَى صَفِيَّةَ، فَقَالَتْ لِعَائِشَةَ: أَصْلِحِي بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ وَهَبْتُ يَوْمِي لَكِ. ذَكَرَهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ فِي أَحْكَامِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى صفيَّةَ في شيءٍ، فَقَالَتْ لِي صَفِيَّةُ: هَلْ لَكِ أَنْ تُرْضِينَ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنِّي وَلَكِ يَوْمِي؟ قَالَتْ: فَلَبِسْتُ خِمَارًا كَانَ عِنْدِي مَصْبُوغًا بِزَعْفَرَانٍ وَنَضَحْتُهُ، ثُمَّ جِئْتُ فَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: ((إِلَيْكِ عَنِّي فَإِنَّهُ لَيْسَ بِيَوْمِكِ)). فَقُلْتُ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، فَرَضِيَ عَنْهَا. وَفِيهِ أَنَّ تَرْكَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ وَتَفْضِيلِ بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِإِذْنِ الْمَفْضُولَةِ وَرِضَاهَا.
قَوْلُهُ: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} لَفْظٌ عَامٌّ مُطْلَقٌ يَقْتَضِي أَنَّ الصُّلْحَ الْحَقِيقِيَّ الَّذِي تَسْكُنُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ وَيَزُولُ بِهِ الْخِلَافُ خَيْرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى جَمِيعُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ في مالٍ أو وَطْءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. "خَيْرٌ" أَيْ خَيْرٌ مِنَ الْفُرْقَةِ، فَإِنَّ التَّمَادِيَ عَلَى الْخِلَافِ وَالشَّحْنَاءِ وَالْمُبَاغَضَةِ هِيَ قَوَاعِدُ الشَّرِّ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ فِي الْبِغْضَةِ: ((إِنَّهَا الْحَالِقَةُ)) يَعْنِي حَالِقَةَ الدِّينِ لَا حَالِقَةَ الشَّعْرِ.
قَوْلُهُ: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} إِخْبَارٌ بِأَنَّ الشُّحَّ فِي كُلِّ أَحَدٍ.
وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَشِحَّ بِحُكْمِ خِلْقَتِهِ وَجِبِلَّتِهِ حَتَّى يَحْمِلَ صَاحِبَهُ عَلَى بَعْضِ مَا يَكْرَهُ، يُقَالُ: شَحَّ يَشِحُّ (بِكَسْرِ الشِّينِ) قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ شُحُّ الْمَرْأَةِ بِالنَّفَقَةِ مِنْ زَوْجِهَا وَبِقَسْمِهِ لَهَا أَيَّامَهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الشُّحُّ هُنَا مِنْهُ وَمِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَحْسَنُ، فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْمَرْأَةِ الشُّحُّ بِنَصِيبِهَا مِنْ زَوْجِهَا، وَالْغَالِبُ عَلَى الزَّوْجِ الشُّحُّ بِنَصِيبِهِ مِنَ الشَّابَّةِ. وَالشُّحُّ الضَّبْطُ عَلَى الْمُعْتَقَدَاتِ وَالْإِرَادَةِ وَفِي الْهِمَمِ وَالْأَمْوَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَمَا أَفْرَطَ مِنْهُ عَلَى الدِّينِ فَهُوَ مَحْمُودٌ، وَمَا أَفْرَطَ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ فَفِيهِ بَعْضُ الْمَذَمَّةِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الحشر: 9. وَمَا صَارَ إِلَى حَيِّزِ مَنْعِ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ أَوِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْمُرُوءَةُ فَهُوَ الْبُخْلُ وَهِيَ رَذِيلَةٌ. وَإِذَا آلَ الْبُخْلُ إِلَى هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ وَالشِّيَمِ اللَّئِيمَةِ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ خَيْرٌ مَرْجُوٌّ وَلَا صَلَاحٌ مَأْمُولٌ. قُلْتُ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ لِلْأَنْصَارِ: ((مَنْ سَيِّدُكُمْ))؟ قَالُوا: الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بُخْلٍ فِيهِ. فَقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ))! قَالُوا: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((إِنَّ قَوْمًا نَزَلُوا بِسَاحِلِ الْبَحْرِ فَكَرِهُوا لِبُخْلِهِمْ نُزُولَ الْأَضْيَافِ بِهِمْ فَقَالُوا لِيَبْعُدِ الرِّجَالُ مِنَّا عَنِ النِّسَاءِ حَتَّى يَعْتَذِرَ الرِّجَالُ إِلَى الْأَضْيَافِ بِبُعْدِ النساء وتعتذر النِّسَاءُ بِبُعْدِ الرِّجَالِ، فَفَعَلُوا وَطَالَ ذَلِكَ بِهِمْ، فَاشْتَغَلَ الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ))، وقد تقدَّم.
قَوْلُهُ: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً} خِطَابٌ
لِلْأَزْوَاجِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَشِحَّ وَلَا يُحْسِنَ، أَيْ إِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فِي عِشْرَةِ النِّسَاءِ بِإِقَامَتِكُمْ عَلَيْهِنَّ مَعَ كَرَاهِيَتِكُمْ لِصُحْبَتِهِنَّ وَاتِّقَاءِ ظُلْمِهِنَّ فَهُوَ أفضلُ لكم.
قوله تعالى: {وَإِنِ امْرأةٌ} إن: أداةُ شَرْطٍ. امرأةٌ: فاعلٌ بفعلٍ مُضْمَرٍ واجبِ الإِضمارِ هو فعلُ الشرطِ، وهذه من بابِ الاشتغال، ولا يجوزُ رفعُها بالابتداءِ لأنَّ أداةَ الشرطِ لا يليها إلَّا الفعلُ عند جمهورِ البَصريّين خِلافاً للأخفشِ والكوفِيّين، والتقديرُ: "وإنْ خافتِ امرأةٌ خافت" ونحوهُ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك} التوبة: 6. واستدلَّ البَصريّون على مذهبِهم بأنَّ الفِعلَ قد جاء مَجزومًا بعد الاسْمِ الواقعِ أداةَ الشرطِ في قولِ عَدِيٍّ:
ومتى واغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو .................. هُ وتُعْطَفْ عليه كأسُ الساقي
وقولُه: {مِنْ بعلِها} يَجوزُ أنْ يَتَعلَّق بـ "خافت" وهو الظاهر، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِن "نُشوزاً" إذْ هو في الأَصلِ صِفةُ نَكِرَةٍ فلمَّا قُدِّمَ عليْها تَعَذَّرَ جَعْلُه صِفَةً فنُصِبَ حالاً. و"فلا" جوابُ الشَرْطِ.
قولُه: {أَن يُصْلِحَا} قرأ الكوفِيُّون: "يُصْلِحا" مِنْ أصلَحَ، وباقي السبعةِ "يَصَّالحا" بتشديدِ الصادِ بعدَها ألفٌ، وقرأ عثمانُ البَتّيُّ والجَحْدَرِيُّ: "يَصَّلِحا" بتشديدِ الصادِ مِن غيرِ ألفٍ، وقرأ عبيدةُ السَلمانيُّ: "يُصالِحا" بضمِّ الياءِ وتخفيفِ الصادِ وبعدَها ألفٌ مِنَ المُفاعَلَةِ، وقرأ ابْنُ مسعودٍ والأعمشُ: "أن اصَّالحا" فأمَّا قراءةُ الكوفِيّينَ فَواضِحَةٌ، وقراءةُ باقي السبعةِ أصلُهَا "يَتَصالحا" فأُريدَ الإِدْغامُ تَخفيفاً فَأُبْدِلتِ التاءُ صادًا وأُدْغِمتْ، وأمَّا قراءةُ عثمان فأصلُها: "يَصْطَلِحا" فَخُفِّفَ بإبدالِ الطاءِ المُبدَلَةِ من تاءِ الافْتِعالِ صادًا وإدْغامِهما فيما بعدَها. وأمَّا قراءةُ عُبيدةَ فواضِحَةٌ لأنَّها مِنَ المُصالَحَةِ. وأمَّا قِراءةُ "يصطلحا" فأوضحُ. ولم يُخْتَلَفْ في "صُلْحًا" مع اختلافِهم في فعلِه. وفي نصبِه أوجهٌ: فإنَّه على قراءةِ الكُوفيّين يَحْتملُ أنْ يَكونَ مَصدَراً، وناصبُه: إمَّا الفعلُ المتقدمُ وهو مصدرٌ على حذفِ الزوائد، وبعضُهم يعبِّرُ عنْه بأنَّه اسمُ مصدرٍ كالعطاءِ والنبات، وإمَّا فعلٌ مقدرٌ أي: فيُصْلِحُ حالَهما صُلحًا. وفي المفعولِ على هذين التقديرين وجهان، أحدُهما: أنَّه "بينهما" اتُسِّع في الظَرْفِ فجُعِلَ مَفعولاً بِه. والثاني: أنَّه محذوفٌ و"بينَهما" ظَرفٌ أو حالٌ مِنْ "صُلْحًا" فإنَّه صِفَةٌ لَه في الأَصلِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكونَ نَصْبُ "صلحاً" على المفعولِ بِه إنْ جعلتَه اسْمًا للشيءِ المُصطَلَحِ عليْه كالعَطاءِ بمعنى المُعْطَى، والنَباتِ بمعنى المُنْبَتِ. وأمَّا على بقيَّةِ القراءاتِ فيَجوزُ أَنْ يكونَ مصدرًا على أحَدِ التَقديريْنِ المُتقدِّميْن: أَعني كونَه اسْمَ المَصدَرِ، أوْ كونَه على حَذْفِ الزَّوائِدِ، فيَكونُ واقعاً موقعَ "تصالحا أو اصطلاحاً أو مصالحةً" حَسْبَ القراءات المتقدِّمة، ويَجوزُ أَنْ يكونَ منصوبًا على إسقاطِ حرفِ الجَرِّ، أيْ: بِصُلحٍ أيْ بشيءٍ يقعُ بسببِ المُصالَحةِ، إذا جَعَلْناه اسْمًا للشيءِ المُصْطَلَحِ عليْه.
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ
فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا.
(129)
قولُه سبحانه وتعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} وَلَنْ يَسْتَطِيعَ الرِّجَالُ أَنْ يُسَاوُوا فِي المُعَامَلَةِ مِنْ جَمِيعِ الوُجُوهِ بَيْنَ النِّسَاءِ، فِي النَفقة والتَعَهُّدِ والنَظَرِ والإقبالِ المَحَبَّةِ وَمَيْلِ القَلْبِ والمُمالَحَةِ والمُفاكَهَةِ والمُؤانَسَةِ وغيرها، فَإِنْ وَقَعَ القَسَمُ الصُّوَرِيُّ لَيْلَةً وَلَيْلَةً، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّفَاوُتِ فِي المَحَبَّةِ وَالرَّغْبَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ يَقُولُ فِي قِسْمَتِهِ بَيْنَ نِسَائِهِ: ((اللهمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا لاَ أَمْلِكُ))، وَيَعْنِي ميلَ القَلْبَ.
أخرجَ البَيْهَقِيُّ عن عُبيدةَ أنَّه قال: لن تَسْتَطيعوا ذلك في الحُبِّ والجِماعِ، وأخرجَ ابْنُ المُنذِرِ عنِ ابْنِ مَسعودٍ أنَّه قال: في الجِماعِ، وأَخرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عن الحَسَنِ وابنِ جَريرٍ عن مُجاهد أنَّهما قالا: في المحبَّةِ، وأَخرجَا عن أبي مُلَيْكَةَ أنَّ الآيةَ نَزَلَت في عائشةَ ـ رضي الله تعالى عنها ـ وكان رسول الله ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ يُحبُّها أكثرَ مِن غيرِها، وأخرجَ أحمدُ وأبو داوودَ والتِرْمِذِيُّ وغيرُهم عنها أنَّها قالت: (كان النبيُّ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ يَقْسِمُ بيْن نِسائه فيَعدِلُ ثمَّ يَقولُ: اللهمَّ هذا قَسْمِي فيما أَملكُ فلا تَلُمْني فيما تَمْلكُ ولا أَملك). "وَلَوْ حَرَصْتُمْ" على إقامةِ ذلك وبالَغْتُم فيه. وَاللهُ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفُ النَّاسَ إلاَّ العَدْلَ فِيمَا يَسْتَطِيعُونَ.
قُولُه: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} فَإِذَا مِلْتُمْ إلَى
وَاحِدَةٍ تُحِبُّونَها مِنْهُنَّ، فَلا تُبَالِغُوا فِي المَيْلِ إِلَيْهَا فَتَبْقَى الأُخْرَى مُعَلَّقَةً، لاَ هِيَ بِذَاتِ بَعْلٍ، وَلاَ هِيَ مُطَلَّقَةً،كما قال عبدُ الله بنُ عباسٍ، ـ رضي الله تعالى عنهما. وفي الآيةِ ضربٌ من التوبيخِ، وأخرجَ أَحمد وأبو داوودَ والتِرمِذِيُّ والنَّسائيُّ عن أبي هُريرَةَ ـ رضي اللهُ تعالى عنه ـ قال: قال رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسَلَمَ: ((مَنْ كانت لَه امرأتان فمالَ إلى إحداهُما جاءَ يومَ القِيامةِ وأَحَدُ شِقَّيْه ساقطٌ))، وأخرجَ غيرُ واحدٍ عن جابِرٍ بْنِ زيْدٍ أنَّه قال: كانتْ لي امرأتان فلقد كنتُ أعدِلُ بينَهما حتَّى أَعُدُّ القُبَلَ، وعن مُجاهدٍ قال: كانوا يَستَحِبُّون أنْ يُسَوُّوا بيْنَ الضَرائرِ حتَّى في الطِيبِ يَتطيَّبُ لِهذه كما يَتَطَيَّبُ لِهذِه، وعنِ ابْنِ سِيرينَ في الذي لَه امْرأتان يُكرَهُ أنْ يَتَوضَّأَ في بيتِ إحداهما دون الأُخْرى.
أخرج الشيخان عن أبي قُلابة عن أنسٍ رضيَ اللهُ عنْه قال: مِنَ السُنَّةِ إذا تزوّجَ البِكْرَ على الثَّيِّبِ أقامَ عندها سَبْعًا، ثمَّ قَسَمَ، وإذا تزوَّجَ الثَيِّبَ أقامَ عندَها ثلاثًا، ثمَّ قَسَمَ. قال أبو قلابة: ولو شئتُ لقلتُ: إنَّ أنَسًا رَفعَه إلى النبيِّ صلى اللهُ عليْه وسلَّم.
وإذا أرادَ الرجلُ سَفَرَ حاجَةٍ فيَجوزُ لَه أنْ يَحمِلَ بعضَ نِسائه معَ نفسِه بعدَ أنْ يُقرِعَ بينَهُنَّ فيه، ثمَّ لا يَجِبُ عليْه أنْ يَقضيَ للباقياتِ مُدَّةَ سَفَرِهِ، وإنْ طالت إذا لم يَزِدْ مُقامُه في بلدِه على مُدَّةِ المُسافرين، والدليلُ عليْه ما جاء عن عائشةَ زوجِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنَّها قالت: (كان رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ إذا أرادَ السَفَرَ أقرَعَ بَيْن نِسائهِ فأيَّتهُنَّ خرَجَ سهْمُها خَرَجَ بِها، أمَّا إذا أراد سَفَرَ نَقْلَةٍ فليْس لَه تخصيصُ بعضِهِنَّ لا بالقُرْعَةِ ولا بِغيرِها). أخرجه الشيخان.
قولُه: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} وَإِن أَصْلَحْتُمْ ماكنتم قد أَفسدتم في مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ، وَاتَّقَيْتُمْ ظُلْمَهُنَّ، وَتَفضِيلَ بَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ، وَعَدَلْتُمْ بَيْنَهُنَّ فِيما يَدْخُلُ فِي اخْتِيَارِكُمْ كَالقَسْمِ وَالنَّفَقَة وَاتَّقَيْتُمْ فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ، عَفَا اللهُ عنكم وغَفَرَ لَكُمْ مَا كَانَ مِنْ مَيْلٍ إلى بَعْضِ النِّسَاءِ دُونَ بَعْضٍ.
قولُه تَعالى: {كُلَّ المَيْلِ} نصبٌ على المَصْدَريّةِ، وقد تقرَّرَ أنَّ "كل" بحسَبِ ما تُضاف إليْه، إنْ أُضيفتْ إلى مصدرٍ كانت مصدرًا، أوْ ظَرْفٍ أو غيرِه فكَذلك.
قولُه: {فَتَذَرُوهَا} هو منصوبٌ بإضمارِ "أَنْ" في جوابِ النَهْيِ، أو
مجزومٌ عطفًا على الفِعلِ قبلَه أي: فلا تَذَروها، ففي الأَوَّلِ نَهْيٌ عَنِ الجَمْعِ بينَهما، وفي الثاني نَهْيٌ عن كلٍّ على حِدَتِه وهو أبلغُ، والضميرُ في "تَذَروها" يَعودُ على المَيْلِ عنْها لِدَلالةِ السِياقِ عليها.
قولُه: {كالمُعَلَّقةِ} حالٌ مِنْ "ها" في "تَذَروها" فيَتَعلَّقُ بِمحذوفٍ، أي: فتَذروها مُشْبِهَةً المُعَلِّقة، ويَجوزُ عِنْدي أنْ يَكونَ مفعولاً ثانياً لأنَّ قولَك: "تذر" بمعنى "تترك" وتَرَكَ يتعدَّى لاثْنَيْنِ إذا كان بمَعنى صَيَّر.
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا.
(130)
قولُه تبارك وتعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا} أي المرأةُ وبعلُها، وقرئ يتفارقا، أيْ إذَا آثَرَ الزَّوْجَانِ أَنْ يَتَفَرَّقَا، وإذا لم يَصْطلِحا ولم يقع بينهما وفاق بوجهٍ مّا من الصُلحِ وغيرِه ووقعتْ بينَهما الفُرقةُ بطلاق لأنَّهُمَا يَخَافَانِ ألَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ.
قولُه: {يُغْنِ اللهُ كُلاًّ} فَإِنَّ اللهَ يُغْنِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الآخَرِ، وَيُعَوِّضُهُ مِنْ هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ صَاحِبِهِ. ويَكفِيه ما أهَمَّه.
قولُه: {مِنْ سَعَتِهِ} أيْ مِنْ غِناهُ وقدرتِه، وفي ذلك تسليةٌ لِكلٍّ مِنَ الزَّوجيْن بعدَ الطَلاقِ، وقيل: زَجَرٌ لَهما عن المُفارَقَةِ، وكيفما كان فهو مُقيَّدٌ بِمَشيئةِ اللهِ تعالى.
قولُه: {وَكَانَ اللهُ واسعًا} أيْ غنيًّا وكافيًا للخلقِ، أو مُقتَدِرًا أو عالِمًا {حَكِيمًا} مُتْقِنًا في أفعالِه وأَحكامِه. وَلَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَدِيراً بِعِنَايةِ اللهِ، إلاَّ إذَا التَزَمَا حُدُودَ اللهِ، بِأنِ اجْتَهَدُا فِي الوِفَاقِ وَالصُّلْحِ، وَلَكِنْ ظَهَرَ لَهُمَا، بَعْدَ التَّفْكِيرِ وَالتَّرَوِّي فِي الأَسْبَابِ، أنَّ الحَيَاةَ الزَّوْجِيَّة أصْبَحَتْ غَيْرَ مُسْتَطَاعَةٍ فَافْتَرَقَا، وَاللهُ وَاسِعُ الفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، وَهُوَ عَليمٌ بِمَا فِي النُّفُوسِ، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ العَطَاءَ فَيُعْطِيهِ.
رُوِيَ عَنْ جَعْفَرٍ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَيْهِ الْفَقْرَ، فَأَمَرَهُ بِالنِّكَاحِ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ وَتَزَوَّجَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ وَشَكَا إِلَيْهِ الْفَقْرَ، فَأَمَرَهُ بِالطَّلَاقِ، فَسُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: أَمَرْتُهُ بِالنِّكَاحِ لَعَلَّهُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ: {إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْآيَةِ أَمَرْتُهُ بِالطَّلَاقِ فَقُلْتُ: فَلَعَلَّهُ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ {وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ}.
وبهذا تكون هذه الآياتُ الكريمةُ قد وضعتْ أَحكَمَ الأُسُسِ للحَياةِ الزَوْجِيَّةِ السَليمَةِ، وعالَجَتْ أَمراضَها بالعِلاجِ الشافي الحكيم، إذ أَمَرَتْ الرجالَ بأنْ يُؤدّوا للنِساءِ حُقوقَهُنَّ، وأنْ يُعاشِروهُنَّ بالمَعروفِ، وأنَّ على الزَّوجيْنِ إذا ما دَبَّ بينَهُما خِلافٌ أنْ يُعالِجاهُ فيما بينَها بالتَصالُحِ والتَسامُحِ، وإذا اقْتَضى الأمرُ أنْ يَتنازَلَ أحدُهُما للآخرِ عن جانبٍ مِنْ حُقوقِه فلْيَفْعَلْ مِنْ أجلِ الإِبْقاءِ على الحياةِ الزَوجيَّةِ. وأنَّ الرجلَ لا يَستَطيعُ أنْ يَعدِلَ عدْلًا مُطلَقًا كاملًا بيْن زوجاته، ولكنَّ هذا لا يَمنَعُه مِنَ العدلِ بَينَهُنَّ بالقَدْرِ الذي يَستطيعُه بدون تقصيرٍ أو مَيْلٍ معَ الهَوى، فإنَّ المَيْسورَ لا يَسْقُطُ بالمَعسورِ. وأنَّه إذا اسْتَحالَ الصُلْحُ وتَنَافَرَتِ الطِباعُ، وساءتِ العِشْرةُ كان الفراقُ بينَهما أجْدى، إذِ الفِراقُ مَعَ الإِحسانِ خيرٌ مِنَ الإِمْساكِ مَعَ المُعاشَرَةِ السَيِّئَةِ التي عَزَّ معَها الإِصلاحُ والوِفاقُ والتَقارُبُ بيْنَ القُلوبِ. قال تعالى: {فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ} قبل أن يَجيءَ يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خِلالٌ. قال ابْنُ مسعودٍ رضي اللهُ عنه يُؤخَذُ بِيَدِ العبدِ أوِ الأَمةِ فيُنصبُ على رؤوسِ الأوَّلين والآخرين، ثمَّ يُنادي مُنادٍ: هذا فلانٌ ابْنُ فُلانٍ فمَن كانَ لَه حَقٌّ فلْيأتِ إلى حقِّهِ فتَفرحُ المرأةُ أنْ يَكونَ لها الحقُّ على ابْنِها أو أخيها أو على أبيها أو على زوجِها، ثمَّ قرَأَ ابنُ مسعودٍ ـ رضي اللهُ عنه: {فلا أنسابَ بينَهم يومئذٍ ولا يَتساءلون} فيقولُ الربُّ تعالى للعبدِ آتِ هؤلاءِ حقوقَهم، فيقولُ رَبِّ لستُ في الدنيا، فمِنْ أين أوتيهم؟ فيقولُ للملائكةِ خُذوا مِن أعمالِه الصالِحَةِ فأعطوا كلَّ إنسانٍ منهم بقدرِ طِلْبَتِهِ فإنْ كان وَلِيًّا للهِ فَضلَتْ مِن حَسَناتِه مِثقالُ حبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ ضاعَفَها حتَّى يُدْخِلَه بِها الجَنَّةَ، ثمَّ قَرَأَ {إنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثقالَ ذَرَّةٍ وإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ويُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أجْرًا عَظيمًا} وإنْ كان عبدًا شَقيًّا قالتِ المَلائكةُ رَبِّ فَنِيَتْ حَسَناتُه وبَقيَ الطَالِبونَ، فيقولُ للملائَكةِ خُذوا مِنْ أعمالِهمُ السيئةِ فأضيفوها إلى سَيِّئاته وصُكّوا لَه صَكًّا إلى النارِ.
حُكِيَ أنَّ أبا منصورٍ بِنَ ذَكيرٍ كان رَجُلًا زاهدًا صالِحًا فلمَّا دَنَتْ وفاتُه أكثرَ البُكاءَ، فقيلَ لَه لِمَ تَبْكِ عندَ الموتِ قال: أسلُكُ طريقًا لم أسلُكْهُ قَطُّ، فلمَّا تُوفِيَ رآه ابْنُه في المَنامِ في الليلةِ الرابعةِ فقالَ يا أبَتِ ما فَعَلَ اللهُ بِكَ فقالَ يا بُنَيَ إنَّ الأمرَ أصعبُ مما تَعُدُّ، لَقيتُ مَلِكًا عادلًا أعدَلَ العادلين، ورَأيتُ خُصَماءَ مُناقِشين، فقالَ لي ربي يا أبا منصورٍ قد عَمَرْتُكَ سبعينَ سَنَةً فما مَعَكَ اليوم؟ فقلتُ يا رَبّ حَجَجْتُ ثلاثين حَجَّةً فقال اللهُ تعالى: لم أقبَلْ مِنك، فقلتُ: يا رَبّ تَصَدَّقتُ بأربعين ألف دِرْهَمٍ بيَدي، فقال: لم أقبلْ منكَ، فقلتُ سِتونَ سَنةً صُمْتُ نهارَها وقُمتُ لَيْلَها، فقال: لم أقبلْ منكَ، فقلت: إلهي غزوتُ أربعين غَزْوةً، فقال: لم أقبَلْ منكَ، فقُلتُ: إذًا قدْ هَلَكتُ، فقال اللهُ تعالى: ليسَ مِنْ كَرمي أنْ أعذِّبَ مثلَ هذا يا أبا مَنصورٍ، أمَا تَذكُرُ اليومَ الفُلانِيَّ نَحَّيْتَ الذَرَّةَ عنِ الطريقِ كَيْلا يَعثُرَ بِها مُسْلِمٌ؟ فإنّي قد رَحِمتُكَ بذلك، فإنّي لا أضيعُ أجرَ المُحسنين.