وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112)
قولُهُ تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أو يرتكبْ إثمًا} خطيئة: أي يرتكب صغيرةً، وهي من الخَطَأِ وهو العُدولُ عنِ الجِهَة. فهي ـ كما قيلَ ـ الذَّنْبُ غيرُ المُتَعَمَّدِ. و"الإثمُ": هو الكبيرةُ أو هو الذنْبُ المُتَعَمَّدُ. وقِيلَ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وقد كُرِّرَ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ تَأْكِيدًا.
قولُه: {ثمَّ يَرْمِ بِه بريئًا} أي يَتَّهِمُ بِه "بريئاً" مِنْه، وقد وحَّدَ الضميرَ لكونِ العَطْفِ بأوْ، أو لِتَغليبِ الإثْمِ على الخطيئةِ وقيلَ إنَّه يَرجِعُ إلى الكَسْبِ.
قولُه: {فقدِ احْتَمَلَ بُهْتانًا وإثمًا مُبينًا} لمّا كانتِ الذُنوبُ لازمةً لِفاعِلِها كانتْ كالثِقَلِ الذي يُحْمَلُ، ومثلُ ذلك قولُه: {ولَيَحِمِلُنَّ أثقالَهم وأثقالًا مع أثقالِهم} والبُهتانُ مأخوذٌ مِن البُهْتِ وهو الكَذِبُ على البَريء بِما يَتَبَهَّتُ لَهُ ويَتَحَيَّرُ منه. يُقالُ بَهَتَهُ بُهْتًا وبُهتانًا إذا قال عليْه ما لمْ يَقُلْ، ويُقالُ بُهِتَ الرجلُ بالكَسْرِ إذا دُهِشَ وتَحَيَّرَ، وبُهِتَ بالضَمِّ ومنْه {فبُهِتَ الذي كَفَرَ} البقرة: 258. وقد رُوي عنه ـ عليْه الصلاةُ والسلامُ ـ أنَّه قال: ((الغَيْبةُ ذِكرُكَ أخاكَ بما يَكْرَهُ)) فقيل أفرأيتَ إنْ كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إنْ كان فيه ما تقولُ فقد اغْتَبْتَهُ، وإن لم يَكُنْ فيه فقد بَهَتَّهُ)). أَخرجَه أحمدُ، ومسلم، وأبو داود، والترمذى عن أبي هريرة.
قال ابنُ المُنذِرِ في قولِه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ في تفسيرِ الغيبةِ: ((ذكرُكَ أخاك بما يَكرَهُ)) فيه دليلٌ على أنَّ مَنْ ليس أَخًا لَكَ مِنْ اليَهودِ والنَّصارى وسائرِ أهلِ المِلَلِ ومَنْ أَخْرَجَتْهُ بِدْعَتُهُ إلى غيرِ دينِ الإسلامِ لا غِيبَةَ لَه ويَجْري نحوُه في الآيةُ، والوَجْهُ تحريمُ غِيبَةِ الذمي كمَا تقرَّرَ وهو وإنْ لم يَعلمْ مِن الآيةِ ولا مِنَ الخَبَرِ المذكورِ معلومٌ بدليلٍ آخَرَ ولا مُعارَضَةَ بيْن ما ذُكِرَ، وذلِكَ الدليلُ كما لا يَخفى، وقد تَجِبُ الغِيبةُ لِغَرَضٍ صحيحٍ شَرْعيٍّ لا يُتَوَصَّلُ إليْه إلَّا بها وتَنْحَصِرُ في سِتَّةِ أسبابٍ، هي:
الأول: التَظَلُّمُ فلِمن ظُلِمَ أنْ يَشكوَ مَنْ ظَلمَه لِمَنْ يُظَنُّ لَه قدرةٌ على إزالةِ ظُلْمِهِ أوْ تخفيفِه.
الثاني: الاسْتِعانةُ على تغييرِ المُنكرِ بذِكرِه لِمَنْ يُظَنُّ قدرتُه على إزالتِه.
الثالث: الاسْتِفتاءُ فيَجوزُ للمُسْتِفتي أنْ يَقولَ للمُفتي: ظلمني فلانٌ بكذا فهلْ يَجوزُ لَه، أوْ ما طَريقُ تحصيلِ حَقِّي، أوْ نحو ذلك؛ والأفضلُ أنْ يُبْهِمَهُ.
الرابع: تحذيرُ المُسْلمين مِنَ الشَرِّ كَجَرْحِ الشُهودِ والرُّواةِ والمُصنِّفين والمُتَصَدِّين لإفتاءٍ أوْ إقراءٍ مَعَ عَدَمِ أَهْلِيَّةٍ، فتَجوزُ إجماعًا بَلْ تَجِبُ، وكأنْ يُشيرَ وإنْ لمْ يُسْتَشَرْ على مُريدِ تَزَوُّجٍ أوْ مُخالَطَةٍ لِغيرِه في أمرٍ دِينيٍّ أوْ دُنْيَوِيٍّ، ويَقتَصِرُ على ما يَكْفي، فإنْ كَفَى نحوَ لا يَصلْحُ لَكَ، فذاكَ وإنْ احتاجَ إلى ذِكْرِ عَيْبٍ ذَكَرَهُ أوْ عَيْبَيْنِ فَكَذلِكَ وهكذا ،ولا يَجوزُ الزِيادةُ على ما يكفي، ومِنْ ذلك أنْ يُعْلِمَ مَنْ ذي وِلايَةٍ قادحاً فيها كَفِسْقٍ أوْ تَغَفُّلٍ، فيَجِبُ ذِكْرُ ذلكَ لِمَنْ لَه قدرةٌ على عَزْلِه وتَولِيَةِ غيرِه الخالي مِنْ ذلك أوْ على نُصْحِه وحَثِّهِ للاسْتِقامةِ.
والخامسُ: أنْ يَتَجاهَرَ بِفِسْقِهِ، كالمَكَّاسينَ وشَرَبَةِ الخَمْرِ عَلَنًا، فيَجُوزُ ذِكرُهم بِما تَجاهَروا فيهِ دون غيرِه إلَّا أنْ يَكونَ لَه سَبَبٌ آخَرُ ممّا مَرَّ.
السادسُ: للتَعريفِ بِنَحْوِ لَقَبٍ كالأَعْوَرِ، والأَعْمَشِ، فيَجوزُ وإنْ أَمْكَنَ تعريفُه بغيرِه. نَعم الأَوْلى ذلكَ إنْ سَهُلَ، ويَقْصُدُ التعريفَ لا التَنقيصَ.
وقولُه: {مُبينًا} أيْ واضحًا بَيِّنَ الفُحْشِ، لأنَّه آثمٌ بِكَسْبِ الإثمِ وباهتٌ برميِ البريءِ بِه فهو جامعٌ بيْن الأمريْنِ.
قولُه تعالى: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} في هاءِ بِهِ أَقوالٌ، أحدُها: أنَّها تَعودُ على "إثماً"، والمُتعاطِفان بـ "أو": يَجوزُ أنْ يَعودَ الضَميرُ على المَعْطوفِ كَهذِهِ الآيةِ، وعلى المعطوفِ عليْه كقولِهِ: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} الجمعة: 11. والثاني: أنَّها تَعودُ على الكَسْبِ المَدلولِ عليْه بالفِعْلِ، نحوَ: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} المائدة: 8. الثالث: أنَّها تعودُ على أَحَدِ المَذكورين الدالِّ عليه العطفُ بـ "أو" فإنَّه في قوَّةِ "ثم يَرْمِ بأحد المذكورين". الرابع: أنَّ في الكلامِ حَذْفًا، والأصلُ: "ومَنْ يكسِبْ خطيئةً ثمَّ يَرْمِ بها، وهذا كما قيل في قوله: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا} التوبة: 34. أيْ: يَكْنِزون الذَّهَبَ ولا يُنفقونَه. و"أو" هنا لتفصيلِ المُبْهَمِ، وتقدَّم له نظائرُ.
وقرأ معاذ بنُ جبل: "يَكِسِّبْ" بِكسْرِ الكافِ وتشديدِ السينِ،
وأصلُها: يَكْتَسِبْ فأُدغِمَتْ تاءُ الافْتِعالِ في السينِ وكُسِرتِ الكافُ إتْباعاً، وهذا شبيهٌ بـ {يَخْطَفُ} البقرة: 20، وقد تقدَّمَ توجيهُه في البقرةِ.
وقرأ الزُهْرِيُّ: "خَطِيَّة" بالتشديدِ وهو قياسُ تخفيفِها.