وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً.
(106)
قولُه تبارك وتعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} أَمَرٌ من اللهُ لرسوله ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ بِالِاسْتِغْفَارِ أي وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِلْمُذْنِبِينَ مِنْ أُمَّتِكَ وَالْمُتَخَاصِمِينَ بِالْبَاطِلِ، وَمَحِلُّكَ مِنَ النَّاسِ أَنْ تَسْمَعَ مِنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَتَقْضِيَ بِنَحْوِ مَا تَسْمَعُ، وَتَسْتَغْفِرَ لِلْمُذْنِبِ. وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ بِالِاسْتِغْفَارِ عَلَى طَرِيقِ التَّسْبِيحِ، كَالرَّجُلِ يَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، عَلَى وَجْهِ التَّسْبِيحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ تَوْبَةً مِنْ ذَنْبٍ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُرَادُ بَنُو أُبَيْرِقٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} الأحزاب: 1. تنبيهًا بالأعلى على الأدنى، ليأتَمِرَ مَنْ دونَه بذلك بطريقِ الأوْلى والأَحرى. وقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} يونس: 94. أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكَافِرِ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ. فالأَمرُ في ظاهره للنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم، وهو في عمومِه لِكُلِّ أُمَّتِه، ولِكُلِّ قاضٍ يَفصُلُ بيْن الناسِ. وطلبُ الاسْتِغْفارِ دائمٌ يُوَجِّهُهُ اللهُ تعالى إلى النَبِيِّ، وإلى كلِّ مؤمنٍ تَقيٍّ، لأنَّ الاستغفارَ إنابةٌ، وعبادة، وهي مطلوبة. وإذا كانت القِصَّةُ قد ذَكَرَتْ أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تبادر إلى ذِهنِه براءةُ خائنٍ، فإنَّ هذا ليس بذنبٍ، ولكنَّه يُوجِبُ الاستِغفارَ مِن الرسولِ، فإنَّ عُلوّ مقامِهِ يَجعلُ مثلَ هذهِ التي لَا تعتَبَرُ ذَنْبًا مِنَ الناسِ، مُوجِبَةٌ للاسْتِغفارِ، على حَدِّ قولِ العلماء: (حسناتُ الأبرارِ سيئاتُ المقربين). والهَمُّ بالشيءِ ـ خصوصاً إذْ يُظنّ أنَّه الحقُّ ليس بذنبٍ حتَّى يَستغفِر مِنه لكن ْلِعِظَمِ النبي ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ وعصمةُ اللهِ تعالى لَه وتنزيهُهُ عَمَّا يُوهِمُ النقصَ. أمَرَه بالاستغفارِ لزيادةِ الثوابِ وإرشادِه إلى التثبتِ وأنْ ما ليس بذنبٍ مما يَكادُ يُعَدُّ حَسَنَةً مِنْ غيرِهِ إذا صَدَرَ منْه عليْه الصلاةُ والسلامُ بالنسبَةِ لِعَظَمَتِهِ ومقامِه المَحمودِ يُوشِكُ أنْ يَكونَ كالذنْبِ.
وفوق ذلك فإنَّ طلبَ الاسْتِغفارِ، معَ ما فيه مِنَ القُنوتِ والطاعةِ، حثٌّ لِكلِّ قاضٍ يَفصُلُ بيْنَ الناسِ على الاسْتِغفارِ في كلِّ قضيَّةٍ، وقد بَيَّنَ ـ سبحانَه ـ أنَّ هذا الاستغفارَ الضارعَ يَقبلُه الله تعالى؛ لأنَّه ـ سبحانه ـ قد ثَبت له واستَقَرَّ أنَّ المَغفرةَ بأقصى دَرجاتِها، والرحمةَ بأوسَعِ مَعانيها، صفتان له ـ سبحانَه.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}. تأكيدٌ منه ـ سبحانَه ـ لاتِّصافِه بهاتين الصفتين بأربعةِ مؤكِّداتٍ أوّلُها: "إنَّ" التي تُفيدُ التوكيدَ، وثانيها: "كان" التي تُفيدُ الاستِمرارَ، وثالثها: صِيغةُ المُبالَغَةِ في غفورٍ ورحيمٍ، ورابعها: الجملةُ الاسمية.