وَاللَّاتِي
يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ
أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ
حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا. (15)
قولُهُ ـ سبحانه وتعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} خاصٌّ باكْتِفاءِ المرأةِ بالمَرأةِ. لأنَّ كلمةَ"اللاتي" اسمٌ موصولٌ لجماعةِ النِساءِ وكذلك نونُ اللنسوةِ بعدها " يَأْتِينَ
" والعقوبة الإمساكُ في البيوتِ حتَّى يَتوفاهُنَّ الموتُ، لأنَّ هذا
شَرٌّ ووباءٌ يَجِبُ أنْ يُحاصَرَ، ولأنَّ المَرأةَ ليستْ محجوبةً عنِ
المَرأةِ فإذا لم تحبسْ انطلقت إلى أخرياتٍ فأفسدتْهنَّ؛ فحَبْسُها حتَّى
تموتَ خيرٌ مِنْ أنْ تعتادَ الفاحشةِ وتنشرها في المجتمع. "أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا" بالزواجِ، فإذا أَتاها مَنْ يَتزَوَّجُها ويُعِفُّها عنِ الفاحشةِ أطلقَتْ وأُخليَ سَبيلُها.
فلَمَّا
ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْإِحْسَانَ إِلَى
النِّسَاءِ وَإِيصَالَ صَدُقَاتِهِنَّ إِلَيْهِنَّ، وَانْجَرَّ الْأَمْرُ
إِلَى ذِكْرِ مِيرَاثِهِنَّ مَعَ مَوَارِيثِ الرِّجَالِ، ذَكَرَ أَيْضًا
التَّغْلِيظَ عَلَيْهِنَّ فِيمَا يَأْتِينَ بِهِ مِنَ الْفَاحِشَةِ،
لِئَلَّا تَتَوَهَّمَ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ يَسُوغُ لَهَا تَرْكُ
التَّعَفُّفِ.
قَوْلُهُ: {يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ}
الْفَاحِشَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الزِّنَا، وَالْفَاحِشَةُ الْفِعْلَةُ
الْقَبِيحَةُ، وَهِيَ مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ.
قَوْلُهُ: {مِنْ نِسائِكُمْ}
إِضَافَةٌ فِي مَعْنَى الْإِسْلَامِ وَبَيَانُ حَالِ الْمُؤْمِنَاتِ،
كَمَا قَالَ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ} البقرة: 282.
لِأَنَّ الْكَافِرَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِنَسَبٍ
وَلَا يَلْحَقُهَا هَذَا الْحُكْمُ.
قَوْلُهُ: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}
أَيْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلَ اللَّهُ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا
خَاصَّةً أَرْبَعَةً تَغْلِيظًا عَلَى الْمُدَّعِي وَسَتْرًا عَلَى
الْعِبَادِ. وَتَعْدِيلُ الشُّهُودِ بِالْأَرْبَعَةِ فِي الزِّنَا حُكْمٌ
ثَابِتٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً} النور: 4.
وَقَالَ هُنَا: "فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ".
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَتِ
الْيَهُودُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ قَدْ زَنَيَا فَقَالَ:
النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ائْتُونِي بِأَعْلَمِ
رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ)). فَأَتَوْهُ بِابْنَيْ صُورِيَّا فَنَشَدَهُمَا:
((كَيْفَ تَجِدَانِ أَمْرَ هَذَيْنَ فِي التَّوْرَاةِ))؟ قَالَا: نَجِدُ في
التوراةِ إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي
فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا. قَالَ: ((فَمَا
يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا))، قَالَا: ذَهَبَ سُلْطَانُنَا
فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ـ بِالشُّهُودِ، فَجَاءُوا فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا
ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَأَمَرَ
رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِرَجْمِهِمَا.
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّمَا كَانَ الشُّهُودُ فِي الزِّنَا أَرْبَعَةً
لِيَتَرَتَّبَ شَاهِدَانِ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّانِيَيْنِ
كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، إِذْ هُوَ حَقٌّ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْيَمِينَ تَدْخُلُ فِي الْأَمْوَالِ
وَاللَّوْثَ فِي الْقَسَامَةِ وَلَا مَدْخَلَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا هُنَا.
وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ ذُكُورًا، لِقَوْلِهِ: "مِنْكُمْ"
وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ. وَأَنْ يَكُونُوا عُدُولًا،
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الْعَدَالَةَ فِي الْبُيُوعِ
وَالرَّجْعَةِ وَهَذَا أَعْظَمُ، وَهُوَ بِذَلِكَ أَوْلَى. وَهَذَا مِنْ
حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالدَّلِيلِ، عَلَى مَا هُوَ
مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. وَلَا يَكُونُونَ ذِمَّةً، وَإِنْ كَانَ
الْحُكْمُ عَلَى ذِمِّيَّةٍ. وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ: "أَرْبَعَةً مِنْكُمْ" فِي أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا كَانَ أَحَدَ الشُّهُودِ فِي الْقَذْفِ لَمْ يُلَاعِنْ، أي يقول بأنَّ لعنةَ اللهِ عليْه إنْ كانَ مِن الكاذبين، فإنَّ المُلاعَنَةَ تَكونُ عندما يَكون هو الشاهدَ الوحيدَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ}.
هَذِهِ أَوَّلُ عُقُوبَاتِ الزُّنَاةِ، وَكَانَ هَذَا فِي ابْتِدَاءِ
الْإِسْلَامِ، قَالَهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ
حَتَّى نُسِخَ بِالْأَذَى الَّذِي بَعْدَهُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ
(النُّورِ) وَبِالرَّجْمِ فِي الثَّيِّبِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ كَانَ
الْإِيذَاءُ هُوَ الْأَوَّلُ ثُمَّ نُسِخَ بِالْإِمْسَاكِ، وَلَكِنَّ
التِّلَاوَةَ أُخِّرَتْ وَقُدِّمَتْ، ذَكَرَهُ ابْنُ فُورَكَ، وَهَذَا
الْإِمْسَاكُ وَالْحَبْسُ فِي الْبُيُوتِ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ
قَبْلَ أَنْ يَكْثُرَ الْجُنَاةُ، فَلَمَّا كَثُرُوا وَخُشِيَ قُوَّتُهُمُ
اتُّخِذَ لَهُمْ سِجْنٌ، قَالَهُ ابنُ العربي.
وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ هَلْ كَانَ هَذَا السِّجْنُ حَدًّا أَوْ تَوَعُّدًا
بِالْحَدِّ، عَلَى قَوْلَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَوَعُّدٌ بِالْحَدِّ،
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَدٌّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ. زَادَ
ابْنُ زَيْدٍ: وَأَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنَ النِّكَاحِ حَتَّى يَمُوتُوا
عُقُوبَةً لَهُمْ حِينَ طَلَبُوا النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ. وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَدًّا بَلْ أَشَدُّ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ
الْحُكْمَ كَانَ مَمْدُودًا إِلَى غَايَةٍ وَهُوَ الْأَذَى فِي الْآيَةِ
الْأُخْرَى، عَلَى اخْتِلَافِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي أَيِّهِمَا قَبْلُ،
وَكِلَاهُمَا مَمْدُودٌ إِلَى غَايَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ
والسَّلَامُ ـ فِيما روى الإمامُ أحمدُ ومُسلِمٌ، وأهلُ السُنَنِ الأربعةِ،
من حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ: ((خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ
مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ
وَالرَّجْمُ)). وَهَذَا نَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} البقرة: 187. فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ
ارْتَفَعَ حُكْمُ الصِّيَامِ لِانْتِهَاءِ غَايَتِهِ لَا لِنَسْخِهِ هَذَا
قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، فَإِنَّ
النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَوْلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنَ مِنْ
كُلِّ وَجْهٍ اللَّذَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَالْجَمْعُ
مُمْكِنٌ بَيْنَ الْحَبْسِ وَالتَّعْيِيرِ وَالْجَلْدِ وَالرَّجْمِ،
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْأَذَى وَالتَّعْيِيرَ بَاقٍ
مَعَ الْجَلْدِ، لِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَارَضَانِ بَلْ يُحْمَلَانِ عَلَى
شَخْصٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا الْحَبْسُ فَمَنْسُوخٌ بِإِجْمَاعٍ، وَإِطْلَاقُ
الْمُتَقَدِّمِينَ النَّسْخَ عَلَى مِثْلِ هذا تَجَوُّزٌ. والله أعلم.
قوله ـ تعالى: {واللاتي} اللاتي: جمعُ "التي"
وَهُوَ اسْمٌ مُبْهَمٌ لِلْمُؤَنَّثِ، وَهِيَ مَعْرِفَةٌ وَلَا يَجُوزُ
نَزْعُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْهُ لِلتَّنْكِيرِ، وَلَا يَتِمُّ إِلَّا
بِصِلَتِهِ، وهي جمعٌ في المعنى لا في اللفظِ؛ لأنَّ هذِه صِيَغٌ مَوْضوعةٌ
للتَثْنِيَةِ والجَمعِ، وليستْ بِتَثنيَةٍ ولا جَمْعٍ حقيقةً. فـ "اللاتي"
جَمْعُ "التي" على غيرِ قياسٍ. ولها جُمُوعٌ كَثيرةٌ بلغتْ ثلاثَ عشرةَ
لفظةٍ، وهي: اللاتي واللواتي واللائي، وبلا ياءات فهذِه سِتٌّ، واللايِ
بالياء من غيرِ همزٍ، واللا مِنْ غيرِ ياءٍ ولا همزٍ، واللَّواءِ بالمَدِّ،
واللَّوا بالقصر، و"الأُلى" كقولِه:
فأمَّا الأُلى يَسْكُنَّ غَوْرَ تهامةٍ .............. فكلُّ فتاةٍ تترُكُ الحِجْلَ أَفْصَما
و"اللاءاتِ" مكسوراً مطلقاً أو معرباً إعرابَ جمعِ المؤنَّثِ السالم كقوله:
أولئك إخواني الذين عَرَفْتُهُمْ ............. وأخْدانُك اللاءاتُ زُيِّنَّ بالكَتَمْ
برفعِ "اللاءات".وَبَعْضُ
الشُّعَرَاءِ أَدْخَلَ عَلَى (الَّتِي) حَرْفَ النِّدَاءِ، وَحُرُوفُ
النِّدَاءِ لَا تَدْخُلُ عَلَى مَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ إِلَّا فِي
قَوْلِنَا: يَا اللَّهُ وَحْدَهُ، فَكَأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِهِ مِنْ حَيْثُ
كَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ غَيْرَ مُفَارِقَتَيْنِ لَهَا. وَقَالَ:
مِنْ أجلك يا لتي تَيَّمْتِ قَلْبِي ................... وَأَنْتِ بَخِيلَةٌ بِالْوُدِّ عَنِّي
وَيُقَالُ: وَقَعَ فِي اللَّتَيَّا وَالَّتِي، وَهُمَا اسْمَانِ مِنْ أَسْمَاءِ الدَّاهِيَةِ.
و"اللاتي" رفعٌ بالابْتِداءِ، وخبرُها إمّا جملةُ "فاسْتَشْهدوا"،
وجازَ دخولُ الفاءِ زائدةً في الخبرِ على رأي الجمهور، لأنَّ المبتدأ
أَشْبَهَ الشرطَ في كونِه موصولاً عامَّاً صِلَتُه فعلٌ مُسْتَقبَلٌ،
والخبرُ مُستَحِقٌ بالصلةِ.أو الخبرُ محذوفٌ، والتقديرُ:
"فيما يتلى عليكم حكُم اللاتي"، فحُذفَ الخبرُ والمضافُ إلى المبتدأ
للدَلالةِ عليهِما، وأُقيمَ المُضافُ إليْه مُقامَه، وهذا نَظيرُ ما فَعَله
سيبويه في نحو: {الزانية والزاني فاجلدوا..} النور: 2. و{السارقُ
والسارقةُ فاقْطَعوا..} المائدة: 38. أيْ: فيما يُتلى عليكم حكمُ الزاينة،
ويكونُ قولُه: "فاسْتَشْهِدوا" و"فاجْلدوا" و"فاقطعوا" دالاًّ على ذلكَ الحُكمِ المَحذوفِ لأنَّه بيانٌ له.
هذا وجه في إعراب "اللاتي"، وثَمَّةَ وجهٌ آخر في إعرابها وهو أنَّ محلَّها نصبٌ، بفعلٍ مقدَّرٍ لِدَلالةِ السياقِ عليه. والتقديرُ: اقصِدوا اللاتي يأتينَ، أو تعمَّدوا.
وقولُه: {مِن نِّسَائِكُمْ} في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِن الفاعل من "يِأْتِين"، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: يأتينَ كائناتٍ مِن نسائكم. وقولُهُ "منكم" متعلِّقٌ بقولِه: "فاستشهدوا". أو بمحذوفٍ على أنَّه صفةٌ لـ "أربعة"، فيكون في محلِّ نصبٍ تقديرُه: فاستشهدوا عليهنَّ أربعةً كائنةً منكم.
وقولُه: {حتى} بمعنى إلى، فالفعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمارِ "أن" وهي متعلِّقةٌ بقولِه: "فأمسكوهن" غايةً له.
وقولُه: {أو يجعلَ} أو: عاطفةٌ والجَعْلُ غايةٌ لإِمساكهن أيضاً، و"يجعلَ" منصوبٌ بالعطفِ على "يتوفَّاهن". ويمكن أنْ تكون "أو"
بمعنى "إلا" كالتي في قولهم "لألزَمَنَّك أو تَقضيَني حَقّي" على أحدِ
المعنيين، والفعلُ بعدَها منصوبٌ أيضاً بإضمار "أن"كقولِ أبي العطاء
السنديّ:
فَسِرْ في بلادِ اللهِ والتمسِ الغِنَى ......... تَعِشْ ذا يَسارٍ أو تموت فَتُعْذَرا
أي:
إلا أَنْ تموتَ. والبيتُ من قصيدة نُسِبَتْ لِأكثرَ مِن شاعرٍ، فمنهم مَن
نَسَبَها لِعُروةَ ابْنِ الوَرْدِ، ومنهم مَنْ نَسَبَها للنّابغةِ، ومنهم
مَنْ نَسَبَها لِرَبيعةَ الرَقيِّ. وفي مُناسَبَتِها جاء أنَّه كان للشاعرِ
امرأةٌ تُعجِبُه ويُعجِبُها، وكانتْ تَحولُ بينَه وبيْنَ طلبِ الرِّزقِ،
وكلُّ ذلك يَحتَمِلُه لِشِدَّةِ مَحبَّته إيّاها فلمَّا ساءتْ حالُه
وكَثُرَ دَيْنُه قال:
إِذا المَرْءُ لَمْ يَطْلُبُ مَعاشاً لِنَفْسِهِ ...... شَكا الفَقْرَ أَو لامَ الصَّدِيقَ فأَكْثَرا
وصارَ على الأَدْنَيْنَ كَلاِّ وأَوْشَكَتْ ....... قُلُوبُ ذَوِي القُرْبَى له أَنْ تَنَكَّرا
وما طالِبُ الحاجاتِ مِنْ حَيْثُ تُبْتَغَى ....... مِن النَّاسِ إلاَّ مَنْ أَبَرَّ وشَمَّرا
فسِرْ في بلادِ اللّهِ والتَمِسِ الغِنَى ......... تَعِشْ ذا يَسارٍ أَو تَمُوتَ فتُعْذَرا
ولا تَرْضَ مِنْ عَيْشٍ بدُونٍ ولا تَنَمْ ....... وكَيْف ينامُ الليلَ مَن كانَ مُعْسِرا
فلّما
أصبحَ قالَ لامرأتِه: أنَا، واللهِ أُحِبُّك، ولا صَبْرَ لي على ما نحنُ
فيه مِن ضيقِ العيشِ، فجَهِّزيني. فجَهَّزَتْه، فخَرَجَ حتَّى قَدِمَ على
مُعاويةَ بْنَ أبي سُفيانٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ فقامَ بيْن الصَّفَّيْنِ،
فأَخبرَه بحالِه، وأنَشَدَهُ الشِّعرَ. فرَقَّ لَه، وأَمَرَ لهُ بألفِ
دِينارٍ وقال له: لقد دَلَّني حالُك على مَحَبَّتِكَ لأهلِك وكراهِيِّتك
لِفِراقِهم فَخُذْ وانْصَرِفْ إليهم، فأَخَذَها وانْصرَفَ راجعاً. والفرقُ بيْنَ هذا الوجهِ والذي قبلَه أنَّ الجَعْلَ ليس غايةً لإِمساكِهِنَّ في البيوت.
قولُه: {لهن} متعلِّقٌ بـ "يَجْعَلَ". وهو الأظهر. أو متعلقٌ بمحذوفٍ لأنَّه حالٌ مِن "سبيل"،
إذْ هو في الأصلِ صفةُ نكرةِ قُدِّم عليها فَنُصِب حالاً، هذا إنْ جُعِل
الجَعْلُ بمعنى الشرع أو الخلق، وإنْ جُعِل بمعنى التصيير فيكون "لَهُنَّ"
مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأوَّلِ وهو "سبيل"، وتقديمُه هنا واجبٌ
لأنّهما لو انْحَلاَّ لِمبتَدَأٍ وخبرٍ وَجَبَ تقديمُ هذا الخبرِ لكونِهِ
جارَّاً، والمبتدأُ نَكِرةٌ لا مُسِّوِغَ لها غيرُ ذلك.