وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ
دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ} إذ: معناها أذكر، والميثاق: هو العهدُ المُوَثَّقُ. و{لَا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ} الْمُرَادُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَدَخَلَ فِيهِ بِالْمَعْنَى مَنْ بَعْدَهُمْ. {وَلا تُخْرِجُونَ} مَعْطُوفٌ. {أَنْفُسَكُمْ} النَّفْسُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّفَاسَةِ، فَنَفْسُ الْإِنْسَانِ أَشْرَفُ مَا فِيهِ. وَالدَّارُ: الْمَنْزِلُ الَّذِي فِيهِ أَبْنِيَةُ الْمَقَامِ بِخِلَافِ مَنْزِلِ الِارْتِحَالِ. وقال الخليل: كلُّ موضعٍ حَلَّه الناس، وإنْ لم يَكنْ أَبْنِيَةً. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ دَارًا لِدَوْرِهَا عَلَى سُكَّانِهَا، كَمَا سُمِّيَ الْحَائِطُ حَائِطًا لِإِحَاطَتِهِ عَلَى مَا يحويه. و{أَقْرَرْتُمْ} مِنَ الْإِقْرَارِ، أَيْ بِهَذَا الْمِيثَاقِ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْكُمْ وَعَلَى أَوَائِلِكُمْ. {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} مِنَ الشَّهَادَةِ، أَيْ شُهَدَاءُ بِقُلُوبِكُمْ عَلَى هَذَا، وَقِيلَ: الشَّهَادَةُ بِمَعْنَى الْحُضُورِ، أَيْ تَحْضُرُونَ سَفْكَ دِمَائِكُمْ، وَإِخْرَاجَ أَنْفُسِكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ. فَإِنْ قِيلَ: وَهَلْ يَسْفِكُ أَحَدٌ دَمَهُ وَيُخْرِجُ نَفْسَهُ مِنْ دَارِهِ؟ قِيلَ لَهُ لَمَّا كَانَتْ مِلَّتُهُمْ وَاحِدَةً وَأَمْرُهُمْ واحدٌ وَكَانُوا فِي الْأُمَمِ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ جُعِلَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَإِخْرَاجُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا قَتْلًا لِأَنْفُسِهِمْ وَنَفْيًا لَهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْقِصَاصُ، أَيْ لَا يَقْتُلْ أَحَدٌ فَيُقْتَلَ قِصَاصًا، فَكَأَنَّهُ سَفَكَ دَمَهُ. وَكَذَلِكَ لَا يَزْنِي وَلَا يَرْتَدَّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُبِيحُ الدَّمَ. وَلَا يُفْسِدْ فَيُنْفَى، فَيَكُونُ قَدْ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ دِيَارِهِ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِيهِ بُعْدٌ وَإِنْ كَانَ صَحِيحَ الْمَعْنَى. وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمْرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخَذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ مِيثَاقًا أَلَّا يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَنْفِيَهُ وَلَا يَسْتَرِقَّهُ، وَلَا يَدَعَهُ يَسْرِقُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ.
قولُه تعالى: {مِّن دِيَارِكُمْ} متعلِّقٌ بتُخْرِجُون و"مِنْ" لابتداءِ الغايةِ. و"دِيار" جمع دَار والأصل: دَوَرَ، لأنها من دَار يدُور دَوَراناً، وأصلُ دِيار: دِوار، وإنَّما قُلِبت الواوُ ياءً لانْكِسارِ ما قبلَها، واعتلالِها في الواحدِ. وهذه قاعدةٌ مطَّرِدَةٌ في كلِّ جَمْعٍ على فِعال صحيحِ اللامِ، قد اعتلَّتْ عينُ مفردِه أو سَكَنَتْ حرفَ علّةٍ نحوُ:دار ودِيار وثِياب، ولذلك صَحًّ "رِواء" لاعتلال لامه و"طِوالُ" لتَحرُّكِ عينِ مُفردِه وهو طويلٍ، فأمَّا "طِيال" في طِوال فشاذٌّ. وحكمُ المصدرِ حكمُ هذا نحو: قامَ قِياماً وصامَ صِياماً، ولذلك صَحَّ "لِواذ" لِصحَّةِ فِعْلِه في قولِهم: لاوَذ، وأمَّا "دَيَّار" فهو من لفظة الدَّار، وأصلُه دَيْوار، فاجتمع الياءُ والواوُ فأُعِلاَّ على القاعدةِ المعروفةِ فوزنُه: فَيْعال لا فَعَّال، إذ لو كان فَعَّالاً لقيل: دَوَّار كصَوَّام وقَوَّام.
وقرئ: "تَسْفُكُون" بضم الفاء، و"تُسَفِّكون" من سَفَّك مضعفاً، "وتُسْفِكون" من أَسْفك الرباعي.
قولُه: {دِمَاءَكُمْ} يَحْتملُ الحقيقةَ وقد وُجِدَ مَنْ قَتَلَ نَفْسَه، ويَحْتمل المجازَ وذلك من أوجه، أحدها: إقامةُ السببِ مُقامَ المُسَبَّب، أي: إذا سَفَكْتُمْ دمَ غيرِكم فقد سُفِكَ دَمُكم، وهو قريبٌ من قولهم: "القتلُ أنْفى للقتل". قال:
سَقَيْناهُمُ كأساً سَقَوْنا بمثلِها ......... ولكنهم كانُوا على الموتِ أَصْبَرَا
وقيل المعنى: لا يَسْفِك بعضُكم دمَ بعضٍ. وقيل: لا تسفِكوها بارتكابكم ما يُوجِبُ سَفْكَها كالارتداد ونحوه.
قولُه: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} فيه وجهان، أحدُهما أنَّ "ثُمَّ" على بابِها في إفادَةِ العَطْفِ والتراخي. والمعطوفُ عليه محذوفٌ تقديرُه: فَقَبِلْتُم ثم أَقْررتم. والثاني: أن تكونَ "ثُمَّ" جاءَتْ لترتيبِ الخبرِ لا لترتيبِ المُخْبَر
عنه، كقوله تعالى: {ثُمَّ الله شَهِيدٌ} يونس: 46.
قولُه: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} كقولِه: {وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} الآية السابقة.