وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
(64)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} المُرَادُ بِـ "الكِتَابِ" هُوَ القُرْآنُ الكريمُ، فإِنَّهُ الحَقيقُ بِهَذا الاسْمِ. وقالَ في الآية: 39، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ: {لِيُبَيّنَ لَهُمُ الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ}، وقَالَ أَيْضًا في الآيةِ: 44، مِنْهَا: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ}.
قولُهُ: {إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ الخالقِ المالِكِ المقتدِرِ وَحْدَهُ، والقَضَاءِ والقَدَرِ، وَأَحْوالِ البَعْثِ والمَعَادِ، وما اخْتَلَفُوا فِيِهِ أَيْضًا مِنْ أَحْكامِ الأَفْعَالِ. وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: "إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ"، يُريدُ مَا قَصَّ مِنْ أَخْبَارِ الأُمَمَ الخاليَةِ في القُرْآنِ، لاتِّخَاذِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، كَأَنَّ المَعْنَى: إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ مِنَ الدِّينِ والأَحْكامِ؛ فَيَذْهَبونَ فِيها إِلَى خِلافِ مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ المُسْلِمُونَ، فَتَقومُ الحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِدُعائِكَ وَبَيَانِكَ.
وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ العِلَلِ، أَيْ مَا أَنْزَلْنَاهُ عَلَيْكَ لِعِلَّةٍ مِنَ العِلَلِ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ البَعْثِ، وَقِدْ كانَ بعضٌ مِنْهُم يُؤْمِنُ بِهِ، كَمَا سَلَفَ بَيَانُهُ غَيْرَ بَعِيدٍ. وَالتَّبْيِينُ مُسْنَدٌ لِلْمُخَاطَبِ، وَهُوَ الرَّسُولُ محَمَّدٌ ـ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ وَسَلامُهُ.
قوْلُهُ: {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} هُدًى لِلْقُلُوبِ والعقولِ الضَّالَّةِ، وَرَحْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ مَنْ أَنْزَلَهُ هُوَ اللهُ، وَهُوَ الْهَادِي، وَهو الرَّحْمنُ الرَّحيمُ. فإِنَّما أُنْزِلَ الْقُرْآنُ الكريمُ لِإِتْمَامِ الْهِدَايَةِ، وَكَشْفِ الشُّبْهَاتِ الَّتِي عَرَضَتْ لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ، فَتُرِكَتْ أَمْثَالُهَا فِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ. فَلَمَّا ذُكِرَتْ ضَلَالَاتُهُمْ وَشُبْهَاتُهُمْ في الآياتِ السابقةِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِبَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي إِرْسَالِ سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ إِلَيْهِ، فَقد جَاءَ الْقُرْآنُ الكريمُ مُبَيِّنًا لِلْمُشْرِكِينَ ضَلَالَهُمْ بَيَانًا لَا يَتْرُكُ لِلْبَاطِلِ مَسْلَكًا إِلَى النُّفُوسِ، وَمُفْصِحًا عَنِ الْهُدَى إِفْصَاحًا لَا يَتْرُكُ لِلْحِيرَةِ مَجَالًا فِي الْعُقُولِ، وَرَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا جَازَاهُمْ عَنْ إِيمَانِهِمْ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. والقَصْرُ بـ "إِلَّا" للتَعْريضِ بأَقْوَالِ مَنْ حَسِبَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ لِذِكْرِ الْقَصَصِ لِتَعْلِيلِ الْأَنْفُسِ فِي الْأَسْمَارِ وَنَحْوِهَا وتَفْنِيدِهِ. وَقَدْ تقدَّمَ أنَّ أَحَدَ الضالِّينَ المُضِلِّين قال لِقريشٍ: أَنَا آتِيكُمْ بِأَحْسَنِ مِمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، آتِيكُمْ بِقِصَّةِ (رُسْتُمٍ) وَ (إِسْفِنْدِيار). وَقَدْ خَصَّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بالذِّكْرِ فقالَ: "لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" لِأَنَّهمْ هُمُ المُنْتَفِعِونَ بِهَذا الكِتَابِ الكَريمِ. وجاءَ بـ "لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" دُونَ "لِلْمُؤْمِنِينَ"، أَوْ "لِلَّذِينَ آمَنُوا"، لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ كَالسَّجِيَّةِ لَهُمْ وَهو الْعَادَةُ الرَّاسِخَةُ الَّتِي تَتَقَوَّمُ بِهَا قَوْمِيَّتُهُمْ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، و "مَا" نَافِيَةٌ لا عَمَلَ لَهَا. و "أَنْزَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ لاتِّصالِهِ بـ "نَا" المُعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هَذهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ على الفاعليَّةِ. و "عَلَيْكَ" عَلَى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْزَلْنَا". و "الْكِتَابَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} إِلَّا: أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مفرَّغٍ مِنْ أَعَمِّ العِلَلِ. و "لِتُبَيِّنَ" اللامُ: لامُ "كَيْ" للتعليلِ، و "تُبَيِّنَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بَعْدَ لامِ "كَيْ"، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ. و "لَهُمُ" اللَّامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُبَيِّنَ"، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "الَّذِي" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، والجُمْلَةُ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِاللَّامِ، والتَقْديرُ: وَمَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتَابَ لِعِلَّةٍ مِنَ العِلَلِ إِلَّا لِتَبْيِينِكَ لَهُمُ الذي اخْتَلَفُوا فِيهِ، و "اخْتَلَفُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلَى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِليَّةِ، والأَلِفُ فارقةٌ. والجملةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "فِيهِ" في: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ ""اخْتَلَفُوا" والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ.
قولُهُ: {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الواوُ: للعطفِ، و "هُدًى" وَ "رَحْمَةً" مَعْطُوفانِ عَلَى مَحَلِّ "لِتُبَيِنَ"، وَيَجوزُ أَنَّ "هُدًى" و "وَرَحْمَةً" قَدِ انْتَصَبَا عَلَى أَنَّهُمَا مَفْعولانِ مِنْ أَجْلِهِما، والناصِبُ "أَنْزَلْنَا"، وذَلِكَ لَمَّا اتَّحَدَ الفاعلُ في العِلَّةِ والمَعْلولِ فقد وَصَلَ الفِعْلُ إِلَيْهِما بِنَفْسِهِ، ولَمَّا لَمْ يَتَّحْدْ في قولِهِ: "وَمَا أَنْزَلْنا" و "إِلاَّ لِتُبَيِّنَ"؛ لأَنَّ فاعِلَ الإِنْزالِ هوَ اللهُ تعالى، وفاعِلَ التَبْيِينِ هوَ الرَّسُولُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، وَصَلَ الفِعْلُ إِلى العِلَّةِ بالحَرْفِ، فَقِيلَ: "إِلَّا لِتُبَيِّنَ"، أَيْ: لأَنْ تُبَيِّنَ، عَلى أَنَّ هَذِهِ اللامَ لا تَلْزَمُ مِنْ جِهةٍ أُخرى: وهي كونُ مَجْرورِها "أَنْ". وَفيهِ خِلافٌ في خُصوصِيَّةِ هَذِهِ المَسْأَلَةِ. وَهَذا مَعنى قوْلِ الزَمَخشَريِّ فإِنَّهُ قالَ: مَعْطوفانِ عَلى مَحَلِّ "لِتُبَيِّنَ" إِلَّا أَنَّهُما انْتَصَبا عَلى أَنَّهُما مَفْعولٌ لَهُما، لأَنَّهُما فِعْلُ الذي أَنْزَلَ الكِتَابَ، ودَخَلَتِ اللَّامُ عَلى "لِتُبَيِّنَ" لأَنَّهُ فِعْلُ المُخَاطَبِ لا فِعْلُ المُنَزِّلِ، وإِنَّما يَنْتَصِبُ مَفعولًا لَهُ مَا كانَ فِعْلَ الفاعِلِ الفِعْلُ المُعَلَّلُ". قالَ أَبو حَيَّانٍ الأَنْدَلُسِيُّ: (قولُهُ: مَعْطوفانِ عَلَى مَحَلِّ "لِتُبَيِّنَ" لَيسَ بِصَحيحٍ؛ لأَنَّ مَحَلَّهُ لَيْسَ نَصْبًا فيُعْطَفَ مَنصْوبٌ عَلَيْهِ، أَلا تَرى أَنَّهُ لَوْ نَصَبَهُ لَمْ يَجُزْ لاخْتِلافِ الفاعِلِ). وقالَ السَّمينُ الحَلَبيُّ: لَمْ يَجْعَلِ الزَمَخْشَريُّ النَّصْبَ لأَجْلِ العَطْفِ عَلى المَحَلِّ، إِنَّما جَعَلَهُ بِوُصولِ الفعلِ إِلَيْهِما لاتِّحادِ الفاعِلِ كَما صَرَّحَ بِهِ فيما حَكَيْتُهُ عَنْهُ آنِفًا، وإِنَّما جَعَلَ العَطْفَ لأَجْلِ التَشْريكِ في العِلِّيَّةِ لا غَيْر، يَعْني أَنَّهُما عِلَّتانِ، كَمَا أَنَّ "لِتُبَيِّنَ" عِلَّةٌ. ولَئِنْ سَلَّمْنا أَنَّهُ نُصِبَ عَطْفًا عَلَى المَحْلِّ فَلا يَضُرُّ ذَلِكَ. وقولُ أبي حيَّانٍ: (لأَنَّ مَحَلَّهُ لَيْسَ نَصْبًا) مَمْنُوعٌ، وهذا ما لا خلافَ فِيهِ: مِنْ أَنَّ مَحَلَّ الجارِّ والمَجرورِ النَّصْبُ، لأَنَّهُ فَضْلَةٌ، إِلَّا أَنْ يَقومَ مَقامَ مَرْفُوعٍ، أَلَا تَرَى إِلَى تَخْريجِهمْ قَولَهَ تَعَالى مِنْ سورةِ المائدة: {وَأَرْجُلَكُمْ} الآية: 6، في قراءَةِ النَّصْبِ عَلى العَطْفِ عَلَى مَحَلِّ {بِرؤوسِكم}، ويُجيزونَ أيضًا (مَرَرْتُ بزيدٍ وعَمْرًا) عَلى خلافٍ في ذَلكَ، بالنِسْبَةِ إِلى القِياسِ وعَدَمِه لا فِي أَصْلِ المَسْأَلةِ. و "لِقَوْمٍ" اللامُ حرفُ جرٍّ تنازعَ في تعلُّقِهِ كلٌ مِنْ" "هُدًى" و "رحمة"، و "قومٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "يُؤْمِنُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ. والجُمْلَةُ صِفَةٌ لِـ "قَوْمٍ" في محلِّ الجَرِّ.