يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا
(22)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} اسْتِئْنَافٌ لِمَا سَبَقَ فِيهِ تَلْمِيحٌ إِلَى طَلَبِ الْمُشْرِكينَ السَّابِقِ بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ الْكِرامِ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ، فَإِنَّ ابْتِدَاءَهُ مُطَمِّعٌ بِالِاسْتِجَابَةِ إِلَى طَلَبِهِمْ ذَاكَ، وَآخِرَهُ مُؤَيَّسٌ لَهُمْ لِمَا فيهِ مِنَ تَهْديدٍ وَوَعِيدٍ بِالْعَذَابِ الشَّديدِ. وَلَذِلِكَ قِيلَ: "يَوْمَ يَرَونَ" وَلَمْ يُقَلْ يَوْمَ يَنْزِلُ الْمَلائكةُ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لَيْسَتْ لِإِجَابَتِهِمْ إِلَى مَا اقْتَرَحُوهُ، بَلْ لِعَذابِهِمْ، فإِنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ سَوْفَ تَسُوؤُهُمْ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلائِكَةَ الْكِرامَ الَّذينً سَوْفَ يَرَوْنَهُم هُمْ زَبَانِيَةُ الْعَذَابِ الَّذينَ سَوْفَ يَسُوقُونَهُمْ إِلَى النَّارِ.
وَالْمُرادُ بِـ "يَوْمَ" هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ لِيُحاسِبَهم عَلَى مَا قَدَّمُوا مِنْ عَمَلٍ ويَجْزِيَهُمْ بالحَسَنَةِ إِحسانًا، وبالسَّيِّئةِ عَذابًا في نارِ جَهَنَّمَ. أوْ عَفْوًا وصَفْحًا ـ إِنْ شاءَ، فَضْلَا وَجُودًا وَكَرَمًا.
فَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مٌجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، في قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ" قَالَ: يَوْمَ الْقِيامَةِ.
قولُهُ: {لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} قَوْلُهُ: "لِلْمُجْرِمِينَ" هو مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ وَذَلِكَ شَهَادَةً مِنْهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ.
فَإِنَّهُ فِي حِينِ أَنَّ الْمَلَائكةَ يَوْمَئِذٍ تَتَلَقَّى الْمُؤْمِنِينَ بالتَّحِيَّةِ والسَّلامِ، وَتُبَشِّرُهُمْ بجنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّمَواتِ والأَرضِ أُعِدَّتْ للمُتَّقينَ. فقد جاءَ في الآياتِ: (30 ـ 32) مِنْ سُورَةِ فُصِّلَتْ قَولُهُ ـ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ في تفسيرِهِ عَنْ عَطِيَّةَ العَوْفيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ: "لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ"، إِذَا كانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُلْقَى الْمُؤْمِنُ بِالْبُشْرَى، فَإِذَا رَأَى ذَلِكَ الْكُفَّارُ، قالُوا لِلْمَلَائكَةِ: بَشِّرونَا. قَالُوا: حِجْرًا مَحْجُورًا. حَرَامًا مُحَرَّمًا أَنْ نَتَلَقَّاكُمْ بِالْبُشْرَى.
قوْلُهُ: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} حِجْرًا: مِنَ الْمَصَادِرِ الْمُلْتَزَمِ إِضْمَارُ نَاصِبِهَا، وَلَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: أَتَفْعَلُ كَذَا؟ فَيَقُولُ: حِجْرًا. وَهِيَ مِنْ قولِهِم: حَجَرَهُ، إِذَا مَنَعَه؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيذَ بِاللهِ طَالِبٌ مِنْهُ أَنْ يَمْنَعَ الْمَكْرُوهَ مِنْ أنْ يَلْحَقَ بِهِ. وَكَأَنَّ الْمَعْنَى: أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَمْنَعَهُ مَنْعًا وَيَحْجُرَهُ حَجْرًا.
وَ "مَحْجُوراً" وَصَفٌ لِـ "حِجْرًا" مُشْتَقٌّ مِنْ مَادَّتِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْمَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ كَمَا قَالُوا: لَيْلٌ أَلْيَلُ، وَذَيْلٌ ذَائِلٌ، وَشِعْرٌ شَاعِر، وهكذا.
وًيَجُوزُ عَوْدُ وَاوُ الضَّمِيرُ فِي "يَقُولونَ" لِلْكُفَّارِ، كَمَا يجوزُ أَنْ يعودِ لِلْمَلائِكَةِ. و "حِجْر" ـ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ: مَصْدَرُ: حَجَرَهُ، إِذَا مَنَعَهُ، قَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الْأَنْعَام: {وَحَرْثٌ حِجْرٌ} الآيةَ: (138)، أَيْ: ممنوعةٌ، وَتُلْفظُ أَيْضًا "حُجْر" بِضَمِّ الْحَاءِ، كما تُلفظُ عَلَى النُّدْرَةِ "حَجْر" بِفَتْحِ الْحاءِ.
قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدٍ الْفَرَاهِيدِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ عُوذَةٌ كانَ الْعَرَبُ يَتَعوَّذونَ بها مِمَّا يَخافونَ، فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ إِذَا رَأَى رَجُلًا يَخَافُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَقْتُلَهُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، أَوْ يُؤْذِيَهُ، يَقُولُ لَهُ: حِجْرًا مَحْجُورًا، أَيْ حَرَامٌ عَلَيْكَ قَتْلِي أَوْ إِيذائي.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَولِهِ ـ تَعَالَى: "وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا" قالَ: هِيَ كَلِمَةٌ كانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُهَا. كَانَ الرَّجُلُ إِذَا نَزَلَتْ بِهِ شِدَّةٌ قَالَ: حِجْرًا مَحْجُورًا، حَرَامًا مُحَرَّمًا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا رَأَتِ الشَّيْءَ تَكْرَهُهُ تَقُولُ: حِجْرًا مِنْ هَذَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ: لَمَّا جَاءَتْ زَلَازِلُ السَّاعَةِ فَكَانَ مِنْ زَلازِلِهَا أَنَّ السَّمَاءَ انْشَقَّتْ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ، وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجائِهَا: عَلَى سَعَةِ كُلِّ شَيْءٍ تَشَقَّقَ. فَهِيَ مِنَ السَّمَاءِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ ـ تَبَركَتْ أَسْماؤهُ: "يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا" الآيةَ، أَيْ: حَرَامًا مُحَرَّمًا عَلَيْكُمْ، أَيُّها الْمُجْرِمُونَ، أَنْ تَكونَ لَكُمُ الْبُشْرَى الْيَوْمَ حِينَ رَأَيْتُمُونَا.
وَأَمَّا لَفْظُ "حُجْرٌ" ـ برَفْعِ الحاءِ، فِي غَيْرِ حَالَةِ اسْتِعْمَالِهِ لِلتَّعَوُّذِ فَلَا مَانِعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ.
قَالَ الضَّحَاكُ، وَالْفَرَّاءُ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَالزَّجَّاجُ ـ رحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى: وَالْقائِلُونَ لهَذِهِ الْمَقَالَةِ يومَئِذٍ هُمُ الْمَلائِكَةُ، يَقُولُونَ لِلْكُفَّارِ: حِجْرًا مَحْجُورًا، والْمَعْنَى: حَرَامًا مُحَرَّمًا عَلَيْكُمُ الْبُشْرَى. أَيْ: حَرَامٌ مُحَرَّمٌ أَنْ تَكونَ لَكُمُ الْبُشْرَى.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تَعَالَى، غنْهُ: أَنَّهُ قَالَ بِأَنَّهُ قَوْلُ الْمُشْرِكينَ إِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ، وَمَعْنَاهُ: الِاسْتِعَاذَةُ مِنَ الْمَلائِكَةِ.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بِأَنَّهُ قالَ: الْمَعْنَى: حَرامًا أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةُ.
قالَ ابْنُ فارِسٍ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا لَقِيَ مَنْ يَخافُهُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، قَالَ: حِجْرًا، أَيْ: حَرَامٌ عَلَيْكَ أَذَايَ، فَإِذَا رَأَى الْمُشْرِكُونَ الْمَلَائِكَةَ يَوْمَ الْقِيامَةِ، قَالُوا: حِجْرًا مَحْجُورًا، يَظُنُّونَ أَنَّهُ يَنْفَعُهُمْ كَمَا كَانَ يَنْفَعُهُمْ فِي الدُّنْيَا.
قوْلُهُ تَعَالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} يَوْمَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفٍ تَقْديرُهُ: اذْكُرْ لَهُمْ يا رَسولَ اللهِ أَهْوالَ يَوْمِ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ، فَيَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، أَوْ يُمْنَعُونَ الْبُشْرَى يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ، أَوْ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِـ "يُعَذَّبُونَ" مُقَدَّرًا. وَلَا يَجْوز أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ نَفْسُ "الْبُشْرَى" لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّها مَصْدَرٌ، وَالْمَصْدَرُ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ. وَالآخَرُ: أَنَّها مَنْفِيَّةٌ بِـ "لَا"، وَمَا بَعْدَ "لا" لَا يَعْمَلُ فِيما قَبْلَهَا. إِذًا فَلَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِالْبُشْرَى؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ. و "يَرَوْنَ" فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "الْمَلَائِكَةَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وَجُمْلَةُ "يرونَ" الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ بالْإِضافَةِ إِلَى "يَوْمَ".
قَوْلُهُ: {لَا بُشْرى يومَئِذٍ للمُجْرِمينَ} لا: نَافِيَةٌ لِلْجِنْسِ تَعْمَلُ عَمَلَ "إِنَّ". و "بُشْرَى" اسْمُهَا فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِها، وَعَلَامَةُ النَّصْبِ فتحةٌ مُقدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها عَلى الأَلِفِ. وَ "يَوْمَئِذٍ" يَوْمَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْتِقْرَارِ الَّذي تَعَلَّقَ بِهِ خَبَرُ "لَا"، أَوْ هُوَ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِـ "يَوْمَ" عَلَى التَّقْديرِ الثَّاني، وهْوَ مُضافٌ، وَ "ـئِذٍ" مَجْرُورٌ بِالْإِضافَةِ إِلَيْهِ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ العُكْبُريُّ أَنْ يَكونَ مَنْصوبًا بِـ "بُشْرَى"، قَالَ: "إِذَا قَدَّرْتَ أَنَّها مُنَوَّنَةٌ غَيْرُ مَبْنِيَّةٍ مَعَ "لَا" وَيَكونُ الْخَبَرُ "لِلْمُجْرِمِينَ". وجَوَّزَ أَيْضًا هُوَ وَأَبو القاسِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ ـ رَحِمَهُما اللهُ تَعَالَى، أَنْ يَكونَ "يَوْمَئِذٍ" تَكْريرًا لِـ "يَوْمَ يَرَوْنَ".
وَقَدْ رَدَّهُ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ سَوَاءً أُريدَ بِالتَّكْريرِ التَّوْكيدُ اللَّفْظِيُّ أَمْ أُريدَ بِهِ الْبَدَلُ. قالَ: "لِأَنَّهُ مَنْصوبٌ بِما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ "اذْكُرْ"، أَوْ مِنْ "يَعْدِمُونَ الْبُشْرَى". وَمَا بَعْدَ "لا" الْعَامِلَةِ فِي الِاسْمِ لِا يَعْمَل ُفِيهِ مَا قَبْلَهَا. وَعَلَى تَقْديرِ مَا ذَكَرَاهُ، يَكونُ الْعَامِلُ فِيهِ مَا قَبْلَ لَا.
قالَ السَّمينُ الحَلَبيُّ في الدُّرِ المَصونِ: "وَمَا رُدَّ بِهِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَنْفِيَّةَ مَعْمُولَةٌ للْقَوْلِ الْمُضْمَرِ الْوَاقِعِ حَالًا مِنَ "الْمَلَائِكَةِ"، وَالْمَلَائِكَةُ مَعْمُولَةٌ لِـ "يَرَوْن"، وَ "يَرَوْنَ" مَعْمُولٌ لِـ "يَوْمَ" خَفَضًا بِالْإِضَافَةَ، فَـ "لَا" وَمَا فِي حَيِّزِهَا مِنْ تَتَمَّةِ الظَّرْفِ الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّها مَعْمُولَةٌ لِبَعْضِ مَا فِي حَيِّزِهِ، فَلَيْسَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَلَا مَانِعَةٍ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ مَا قَبْلَهَا فِيمَا بَعْدَهَا. وَالْعَجَبُ لَهُ كَيْفَ تَخَيَّلَ هَذَا، وغَفَلَ عَمَّا قُلْتُهُ فَإِنَّهُ وَاضِحٌ مَعَ التَأَمُّلِ".
وَ "لِلْمُجْرِمِينَ" اللَّامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ خَبَرِ "لَا"، وَ "الْمُجْرِمِينَ"
مَجْرُورٌ بحَرْفِ الجَرِّ، وَعَلَامَةُ جَرِّهِ الْيَاءُ لأَنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ. وَجُمْلَةُ "لَا" مِنِ اسْمِها وخَبَرِها مَقُولٌ لِقَوْلٍ مُضْمَرٍ، والتَّقْديرُ: يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ يَقُولُونَ: "لَا بُشْرَى"، فَالْقَوْلُ حَالٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَهُذا نَظيرُ التَّقْديرِ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الرَّعْدِ: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} الآيَةَ: (23).
قَالَ الشَّيْخُ أَبو حَيَّانَ الأنْدَلُسِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى، فِي تَفْسِيرِهِ "الْبَحْرُ الْمُحيطُ": وَاحْتَمَلَ "بُشْرَى" أَنْ يَكونَ مَبْنِيًّا مَعَ "لَا"، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكونَ فِي نِيَّةِ التَّنْوينِ مَنْصُوبَ اللَّفْظِ، وَمُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلتَّأْنيثِ اللَّازِمِ. فَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا مَعَ "لا" احْتَمَلَ أَنْ يكونَ "يَوْمَئِذٍ" خَبَرًا، و "لِلْمُجْرِمينَ" خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ نَعْتًا لِـ "بُشْرَى"، أَوْ مُتَعَلِّقًا بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْخَبَرُ، وَأَنْ يَكونَ "يَوْمَئِذٍ" صِفَةً لِـ "بُشْرَى"، وَالْخَبَرُ "لِلْمُجْرِمِينَ"، وَيَجيءُ خِلَافُ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ: هَلِ الْخَبَرُ لِنَفْسِ "لَا"، أَوِ الْخَبَرُ لِلْمُبْتَدَأِ الَّذي هُوَ مَجْمُوعُ "لا: وَمَا بُنِيَ مَعَهَا؟ وَإِنْ كَانَ فِي نِيَّةِ التَّنْوِينِ، وَهُوَ مُعْرَبٌ جَازَ أَنْ يَكونَ "يومئذٍ" و "لِلْمُجْرِمِينَ". خَبَرَيْنِ، وَجَازَ أَنْ يَكونَ "يَوْمَئِذٍ" خَبَرًا وَ "لِلْمُجْرِمِينَ" صِفَةً. وَالْخَبَرُ إِذَا كانَ الِاسْمُ لَيْسَ مَبْنِيًّا لِنَفْسِ "لَا" بِإِجْمَاعٍ.
قالَ السَّمينُ الحَلَبيُّ في تفسيرِهِ "الدُّرُّ المَصونُ": "قَوْلُهُ: (وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكونَ فِي نِيَّةِ التَّنْوينِ ...). إِلَى آخِرِهِ، لَا يَتَأَتَّى إِلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاج. وَهُوَ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ اسْمَ "لَا" النَّافِيَةِ لِلجِّنْسِ مُعْرَبٌ، وَيَعْتَذِرُ عَنْ حَذْفِ التَّنْوينِ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ فِي الضَّرُورَةِ. وَيُنْشِدُ قَوْلَ الشَّاعِرِ: عَمْرِو
بْنِ قَنْعَاسٍ الْمُراديِّ الْمِذْحَجِيِّ:
أَلَا رَجُلًا جَزَاهُ اللهُ خَيْرًا ................................ (يَدُلُّ عَلَى مُحَصِّلَةٍ تُبِيتُ)
(قولُهُ: "مُحَصِّلَةٍ": الْمُحَصِّلَةُ هِيَ الْمَرْأَةُ تُحَصِّلُ الذَّهَبَ مِنْ تُرَابِ الْمَعْدِنِ، وَتُخَلِّصُهُ مِنْهُ).
وَيَتَأَوَّلُهُ الْبَصْرِيُّونَ مِنَ النَّحْويينَ عَلَى إِضْمَارِ: أَلَا تَرَوْنَني رَجُلًا؟ وَكَانَ يُمْكِنُ الشَّيْخَ أَبا حيَّانَ الأنْدَلُسِيَّ أَنْ يَجْعَلَهُ مُعْرَبًا ـ كَمَا ادَّعَى، بِطَريقٍ أُخْرَى: وَهِيَ أَنْ يَجْعَلَ "بُشْرَى" عَامِلَةً فِي "يَوْمَئذٍ"، أَوْ فِي "لِلْمُجْرِمِينَ"، فَيَصِيرُ مِنْ قَبِيلِ الْمُطَوَّلِ، وَالْمُطَوَّلُ مُعْرَبٌ، لَكِنَّهُ لَمْ يُلِمَّ بِذَلِكَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ "بُشْرَى" مُعْرَبًا مَنْصُوبًا بِطَريقٍ أُخْرَى. وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: لَا يُبَشَّرُونَ بُشْرَى كَقَوْلِهِ ـ تَعَالى، في الآيةِ: (59) مِنْ سورةِ (ص): {لَاَ مَرْحَبًا بِهِمْ}، أَيْ: لَا أَهْلًا وَلَا سَهْلًا". إِلَّا أَنَّ كَلَامَ الشَّيْخِ أَبي حَيَّانَ لَا يُمْكِنُ تَنْزيلُهُ عَلَى هَذَا، لِقَوْلِهِ: (جَازَ أَنْ يَكونَ
"يومَئذٍ"، وَ "لِلْمٌجْرِمِينَ" خَبَرَيْنِ). فَقَدْ حَكَمَ أَنَّ لَهَا خَبَرًا. وإِذَا جُعِلَتْ مَنْصُوبَةً بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ لَا يَكونُ لِـ "لَا" حِينَئِذٍ خَبَرٌ، لِأَنَّها دَاخِلَةٌ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ.
قالَ الزَّجَّاجُ: وَانْتَصَبَ "يَوْمَ" عَلَى مَعْنَى: لَا بُشْرَى لِلْمُجْرِمِينَ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ، (يَعْنِي أَنَّهُ انتَصَبَ عَلَى الظَّرْفيَّةِ)، وَ "يَوْمَئِذٍ" مُؤَكِّدٌ لِـ "يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ"؛ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ الْبُشْرَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ "يَوْمَ" مَنْصُوبًا عَلَى مَعْنَى: اذْكُرْ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ، أَيْ: عَلَى تَقْديرِ فِعْلٍ، ثُمَّ أَخْبَرَ فَقَالَ: "لَا بُشْرَى"، وَالمُرادُ بِـ "الْمُجْرِمُونَ" هَهُنَا: الْكُفَّارُ.
قَوْلُهُ: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} الوَاوُ: حَرْفٌ للعَطْفِ، وَ "يَقُولُونَ" فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَواوُ الْجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَيَجوزُ عَوْدُ هَذا الضَّميرِ لِلْكُفَّارِ الْمُجْرمينَ، كَمَا يَجُوزُ عَوْدُهُ عَلَى الملائكَةِ، وقد تَقَدَّمَ. وَ "حِجْرًا" مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمَطْلَقَةِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ وُجُوبًا تَقْديرُهُ: حُجِرْتُمْ أَيُّها الْمُجْرِمونَ مِنَ البُشْرى حِجْرًا، أَوْ: حُجِرْنَا مِنْ شَرِّكُمْ أَيُّها الْمَلَائِكَةُ وَمُنِعْنَا مِنْهُ حِجْرًا. وَ "مَحْجُورًا" صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِـ "حِجْرًا" منصوبةٌ مِثْلُهُ. والجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ بالْإِضافَةِ إِلَى "يَوْمَ" وَذَلِكَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "يَرَوْنً".
قَرَأَ الْعامَّةُ: {حِجْرًا} بِكَسْرِ الْحَاءِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، والْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ النَّقَّاشُ، وَمُعَاذٌ الْقارِئُ: "حُجْرًا" بِضَمِّ الْحاءِ. قَالَ الزَّجَّاجُ في تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: وَأَصْلُ الْحِجْر فِي اللُّغَةِ: مَا حَجَرْتَ عَلَيْهِ، أَيْ: مَنَعْتَ مِنْ أَنْ يَصِلَ أَحَدٌ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ حَجْرُ الْقَاضي عَلَى اليَتيمِ، أَوْ عَلَى مَالِهِ حَتَّى لَا يُبَدَّدَ أوْ تَطالُهُ أيْدِي الطَّامِعِينَ. وَهِيَ لُغَةٌ فِيهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَجيئُهُ عَلَى "فِعْل" أَوْ "فُعْل" فِي قِرَاءَةِ الْحَسَنِ تَصَرُّفٌ فِيهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَوْضِعٍ وَاحِدٍ، كَمَا كَانَ "قَعْدَكَ" وَ "عَمْرَكَ" كَذَلِكَ. قالَ الْحُطَيْئَةُ:
قالَتْ وفيها حَيْدَةٌ وذُعْرُ ................................ عَوْذٌ بربِّي منكُمُ وحُجْرُ
وَهَذَا يَقْتَضِي تَصَرُّفَ "حِجْرًا"، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ النَّصْبَ.
وَقد حَكَى أَبُو الْبَقَاءِ العُكْبُرِيُّ فيهِ لُغَةً ثَالِثَةً، وَهِيَ الْفَتْحُ فَقَالَ: وَقَدْ قُرِئَ بِها. وَعَليْهِ فقد اكْتَمَلَ فِيهِ ثَلاثُ لُغَاتٍ قُرِئَ بِهِنَّ.