إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا
(60)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} قَالَ مُقَاتِل: أَيْ مَنْ تَابَ مِنَ الشِّرْكِ، وَآمَنَ بِرسُولِهِ مُحَمَّدٍ ـ صَلىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَالَ أَبُو حَيَّانٍ الأَنْدَلُسِيُّ في تَفْسِيرِهِ "البَحْرُ المُحيط": ظاهِرُهُ الاتِّصالُ، وَأَيَّدَ بِذِكْرِ الإِيمانِ كَوْنَ الآَيَةِ فِي الكَفَرَةِ، أَوْ عامَّةً لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، لِأَنَّ "مَنْ آمَنَ" لَا يُقالُ إِلِّا لِمَنْ كَانَ كافِرًا، إِلَّا بِحَسَبِ التَّغْلِيظِ، وَحَمْلُ الإِيمانِ عَلَى الكامِلِ خِلافُ الظاهِرِ، وَكَذَا كَوْنُ المُرَادِ: إِلَّا مَنْ جَمَعَ التَّوْبَةَ والإيمانَ. وَقِيلَ المُرادُ: تَابَ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي الصَّلاةِ، وَآمَنَ مِنَ اليَهُودِ والنَّصَارَى فهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ عِنْدَ الزَّجَّاجِ. وَقِيلَ: المُرادُ مِنَ الإِيمانِ الصَّلاةُ وحَسْبُ، كَمَا هوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سُورَةِ البَقَرةِ: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكم} الآيَةَ: 143. وَيَكونُ ذِكْرُهُ فِي مُقَابَلَةِ إِضَاعَةِ الصَّلاةِ وَذَكَرَ العَمْلَ الصَّالِحَ فِي مُقَابَلَةِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ. أَيْ: إِلَّا مَنْ تَدَارَكَ نَفْسَهُ بِالتَّوْبَةِ، وَصِدْقِ الإِيمَانِ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَرَجَعَ عَنْ تَرْكِ الصَّلاَةِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ، وَيُحْسِنُ عَاقِبَتَهُ، وَخِتَامَهُ، وَيُدْخِلُهُ الجَنَّةَ، لأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا، وَلاَ يُنْقِصُهُ اللهُ شَيْئًا مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ.
فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ ماجَةَ مِنْ حَديثِ عبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بسنَدٍ حَسَنٍ عنْ سيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، أَنَّهُ قالَ: ((التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ)). سُنَنُ ابْنِ ماجَةَ بِرَقَم: (4250)، وأَخْرَجَهُ الطَّبَرانِي ُّفِي معجَمِهِ الكَبيرِ، والبَيْهَقِيُّ فِي "شُعَبِ الإيمانِ"، وَأَخْرَجَهُ الحَكيمُ التِرْمِذِيُّ عَنْ أَبي سعيدٍ الخِدْرِيِّ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْله تَعَالَى: "إِلَّا من تَابَ" قَالَ: مِنْ ذَنْبِهِ، و "آمَنَ" قَالَ: بِرَبِّهِ، وَ "عمل صَالحًا" قَالَ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ، وللهُ أَعْلَمُ.
قوْلُهُ: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} فَأُوْلَئِكَ: أَيْ: المُوْصوفونَ بِالتَّوْبَةِ والإيمانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، "يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ"، ودُخولُهُمُ الجَنَّةَ لَيْسَ بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالحَةِ وَإِنَّما بِمُوجِبِ الوَعْدِ الإلَهِيِّ المَحْتُومِ الذي وَعَدَهُمْ عَلَيْها، وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَىِ الْحَالِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُمْطَلُونَ فِي الْجَزَاءِ. وَلا يَخْفَى مَا فِي تَرْكِ التَّسْويفِ مِنَ اللُّطْفِ الإلَهِيِّ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ: "سَيَدْخُلونَ"، مَعَ ذِكْرِ "أُولَئِكَ" لِمَا فِي اسْمِ الإشارَةِ للبَعِيدِ، مِنْ تَفْخِيمٍ لِمَقامِهِمْ، وتَعْظيمٍ لِشَأْنِهم. وإِشَادَةً بِهِمْ، وَتَنْبِيهًا لَهُمْ، لِتَرْغِيبِهم فِي التَوْبَةِ. وَ "الْجَنَّةُ" عَلَمٌ لِدَارِ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ. وَفِيهَا جَنَّاتٌ كَثِيرَةٌ كَمَا جاءَ فِي الحَدِيثِ الشَّريفِ قولُهُ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، لِأُمِّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لَمَّا أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَتَلَهُ، وَقَالَتْ أُمُّهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها، للنبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: (قد عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي فإِنْ يَكُ فِي الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ، وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى، تَرَى مَا أَصْنَعُ)، فَقَالَ لَهَا: ((وَيْحَكِ، أَهَبِلْتِ؟ أَوَ جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ؟ إِنَّهَا لَجِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ لَفِي الْفِرْدَوْسِ الأَعْلَى)). أَخْرَجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ (3/264، برقم: 13823)، والبُخَارِيُّ: (7/355، برقم: 3982)، والنَّسائيُّ، في "السُّنَنِ الكُبْرَى": (برقم" 8174)، مِنْ حَديثِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قولُهُ: {وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} أَيْ: لَا يُنْقَصُونَ شَيْئًا مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِم، أَوْ أَيْ شَيْءٍ آخَرَ مِنَ النَّقْصِ، لِقَولِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: يُريدُ: وَلَا يُنْقَصُونَ ثَوَابًا. فَالظُّلْمُ هُنَا بِمَعْنَىِ النَّقْصِ وَالْإِجْحَافِ وَالْمَطْلِ. كَما في قَوْلِهِ تعالى مِنْ سورةِ الكهفِ: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} الْآية: 33. أَيْ: ولمْ تُنْقِصْ مِنْهُ شيْئًا.
وَ "شَيْئًا" هوَ هنا اسْمٌ بِمَعْنَى "ذَاتٍ" أَوْ "مَوْجُودٍ" وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَصْدَرَ الظُّلْمِ. وَذِكْرُ "شَيْئًا" فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُفِيدُ نَفْيَ كُلِّ لونٍ مِنْ أَلْوانِ النَّقْصِ وَالْإِجْحَافِ وَالْإِبْطَاءِ، وكلَّ فَرْدٍ فيهِ، فَيُعَلَمُ انْتِفَاءُ النَّقْصِ الْقَوِيِّ بِالْفَحْوَى دَفَعًا لِمَا عَسَى أَنْ يُخَالِجَ نُفُوسَهُمْ مِنَ الِانْكِسَارِ بَعْدَ الْإِيمَانِ يُظَنُّ أَنَّ سَبْقَ الْكُفْرِ يَحُطُّ مِنْ حُسْنِ مَصِيرِهِمْ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ المُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ عَلَى أَنَّ العَمَلَ شَرْطٌ لِدُخُولِ الجَنَّةِ. وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ المُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: "يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ" بِلَا تَسْويفٍ بِقَرِينَةِ المُقَابَلَةِ مَعَ قوْلِهِ تَعَالَى مِنَ الآيةِ التي قبلَها: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}، وَذَلِكَ بِتَنْزيلِ الزَّمَانِ السَّابِقِ عَلَى الدُّخُولِ ـ لِحِفْظِهِمْ فِيهِ، عَمَّا يَنَالُ غَيْرَهُمْ مَنْزِلَةَ العَدَمِ، فَيَكونُ العَمَلُ شَرْطًا لِهَذَا الدُّخُولِ بالذَاتِ، وَلَيْسَ لِمُطْلَقِ الدُّخُولِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكونَ شَرْطًا لِدُخُولِ جَنَّةِ عَدْنٍ فَقَطْ، وَلَيْسَ لِدُخُولِ الجَنَّةِ مُطْلَقًا.
قوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} إِلَّا: أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُتَّصِلٍ عَلَى الأَرْجَحِ كما تقدَّمَ بيانُهُ في مَبْحَثِ التَّفْسيرِ. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الاسْتِثْنَاءِ مِنْ فَاعِلِ {يَلْقَوْنَ غَيًّا}. و "تَابَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَنْ"، وَالجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "آمَنَ" وَ "عَمِلَ" مِثْلُ "تَابَ" مَعْطوفانِ عَلَيْهِ، و "صَالِحًا" مَنْصوبٌ عَلَى المَفْعُوليَّةِ. أَوْ هو مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ؛ أَيْ: عَمَلًا صَالِحًا.
قوْلُهُ: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} الفاءُ: هِيَ الفَصيحَةُ، أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ والتَقديرُ: إِذَا عَرَفْتَ هَذَا وَأَرَدْتَ بَيَانَ عَاقِبَتِهِمْ، فَأَقولُ لَكَ.. "أُولَئِكَ" .. . و "أُولئِكَ" اسْمُ إِشارةٍ مبنيٌّ عَلى الكَسْرِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، والكافُ للخطابِ. و "يَدْخُلُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَ "الْجَنَّةَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ. و "وَلَا" الواوُ: للعَطْفِ، و "لا" نافيةٌ. و "يُظلمونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَبْنيٌّ للمجهولِ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ نائبًا عنْ فاعِلِهِ. و "شَيْئًا" منصوبٌ على أَنَّهُ مَفْعولٌ مُطْلَقٌ، أَوْ على أَنَّهُ مَفْعولٌ بهِ ثانٍ بِتَضْمينِ "يُظْلَمُونَ" مَعْنَى "يُنْقَصون"، والجُملَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقوْلِ لِجَوابِ "إِذا" المُقَدَّرَةِ، وَجُملَةُ "إذا" المُقدَّرَةُ: مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانيًّا لا محلَّ لها من الإعرابِ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو بَكْرٍ، وَيَعْقُوبُ: "يُدْخَلُونَ" بِالبِناءِ للمَفْعُولِ مِنْ الفعلِ الماضي "أَدْخَلَ". وَقَرَأَ ابْنُ غَزْوَانٍ عَنْ طَلْحَةَ "سَيَدْخُلون" بِسِينِ الاسْتِقْبالِ مَبْنِيًّا للفَاعِلِ. وَقَرَأَ الحَسَنُ البَصْريُّ هُنَا وجَميعَ مَا في القرآنِ "يُدْخَلونَ" بالبناءِ للمَفْعولِ. وَنَقَلَ الأَخْفَشُ أَنَّهُ قُرِئَ "يُلَقَّوْن"، بِضَمِّ الياءِ، وَفَتْحِ اللَّامِ، وَتَشْديدِ القافِ، أَيْ مِنْ الفِعْلِ المُضَعَّفِ: "لَقَّاهُ".