فيض العليم ... سورة الأنعام، الآية: 33
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ ولكنّ الظالمين بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ. (33)
قولُه ـ سبحانه وتعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} بعد أنْ شَرَحَ الله ـ تبارك وتعالى ـ حالَ الكُفَّارِ وموقفَهم في
الآخِرَةِ حين يَقفون على النَّارِ، ويَقفون أمامَه ـ سبحانَه، وجَّهَ الحديث في هذه الآيةِ المباركةِ إلى رسوله ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ الذي تَقَعُ عليه مَشَقَّةُ تبليغِ الرسالة، وقد كان ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ حزينًا لأنَّ قومَه لا يَذوقون حلاوةَ الإيمان، وهو الذي قال عنه ربُّه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} التوبة: 128.
فقد كان ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ شديدَ الحرصِ على أنْ يؤمنَ الناسُ جميعًا، وكان يَتَأَلَّمُ عندما يعرضون عن دعوةِ الإيمان، على الرَّغْمِ مِنْ أنَّ مُهِمَّتَه كرسولٍ هي البلاغُ فقط، ولو شاءَ الحقُّ أنْ يَجعلَ الناسَ كلَّهم مؤمنين لَفعلَ ولذلك قال له في سورةٍ أخرى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السماء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} الشعراء: 3 ـ 4. إذاً لو شاء اللهُ لأنزلَ آية عظيمة واضحة الدَلالةِ بحيثُ لا يَسَعُ الناسُ إلَّا الإيمانُ، ولكن شاءت حكمتُه أنْ يترك مجالًا للتفكُّرِ والتدبُّرِ فأنزل من الآيات والمعجزات ما يُفْسِحُ في المجالِ أمامَ العقلِ لِيَعْقِلَها ويتدبّرها ويتوصَّلَ إلى الحقائقِ الإيمانية بتفكره وتدبره احترامًا للدور الذي أعطاه سبحانه لهذا المخلوق العجيب الذي هو العقل، وبذلك يظهر فضل الإيمان بالغيبِ، وتكون الإثابةُ عليه.
فالله ـ سبحانَه وتعالى ـ لا يُريدُ خُضوعَ أَعْناقِ، وإنَّما يُريدُ خُضوعَ القلوبِ والألباب. إنّه ـ سبحانَه ـ يُريد أنْ يَأتي الناسُ إليه طَواعِيةً واختيارًا لا قهرًا وإجبارًا؛ لذلك يَقول لرسولِه ـ صَلى الله عليه وسلَّمَ: "قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ". فإنَّ النبيَّ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّم ـ كان يُحْزِنُه أنَّ القومَ لَا يُؤمنون، ويَفتَرون الكَذِبَ عليْه، فنَهاهُ اللهُ تعالى عن أنْ يَلِجَ الحُزْنُ في نفسِه لِعَدَمِ إيمانِهم، فقال في سورة فاطر: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، وقال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمنِينَ} الآية: 8. ولقد كان يُحْزِنُ النبيَّ ـ صلّى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ كفرُهم، وما يقولون مِنْ رَمْيِهم لَهُ بالكَذِبِ والافْتِراءِ، وأَنَّه ساحِرٌ، وأنَّه مَجنونٌ، وأَنَّ كتابَ اللهِ تعالى أَساطيرُ الأوَّلين، ولقد ذَكَرَ اللهُ تَعالى أَنَّهم لَا يُكذِّبونَ النَبِيَّ ـ صلى الله عليْه وسَلَّمَ ـ و"الفاء" هنا تَكْشِفُ عَنْ مَحذوفٍ يُفيدُ السَبَبيَّةَ، تقديرُهُ مَثَلًا فلا تَحزنْ لأنَّهم لا يُكَذِّبونَكَ، "وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يجحدون"، وفي ذلك تطييبٌ لخاطره ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ وتسليةٌ له عما يعانيه، وتثبيتٌ لفؤاده، والجُحودُ نَفْيُ ما في القلبِ ثُبوتُه، وإثباتُ ما في القلبِ نَفْيُهُ أيْ عدمُ الإذْعانِ للحقِّ، وقد قامتْ أَدِلَّتُه، فكثيرٌ من العرب كانوا يعتقدون صدق محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكنَّهم يُمارونَ في الحقِّ، ولا يذعنون، ويجادلون في آياته، تعنُّتًا واستكبارًا. فقد رُويَ أنَّ طاغوتَ الشِرْكِ أبا جهلٍ عُوتِبَ في أنَّه صافحَ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ مرَّةً فقال: إني لأَعْلَمُ أنَّه النَبِيُّ، ولكنْ مَتى كُنَّا لِبني عبدِ مَنافٍ تَبَعًا؟!
هذا على أساسِ أنَّ الجُحودَ في الآيةِ مُنْصَبٌّ على نُبُوَّتِهِ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ إذْ يَعرِفون صِدقَهُ، ولكنْ لَا يُذعِنونَ لَه، فيكونون جاحدين، وهُناك تَخريجٌ بيانيٌّ آخرُ، وهو أنَّ الجُحودَ مُنْصَبٌّ على آياتِ اللهِ تعالى وليسَ تَكذيبًا، فهو على كلا الوجهين تعزيةٌ للنَبِيِّ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ ـ كما أسلفنا.
قولُه تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ} قد: هنا حَرْفُ تحقيقٍ. وقد تأتي بمعنى ربَّما التي تَجيءُ لِزيادةِ الفِعلِ وكَثْرَتِه، لكنَّ التَكثيرَ لا يُفْهَمُ مِنْ "قد" هنا، فهو متعذِّرٌ في الآيةِ؛ لأنَّ عِلْمَهُ تعالى لا يَقبَلُ التَكْثيرَ، لأنَّ الذي يقبل التكثير هو في الأصل قليلٌ، وهو من صفة الحوادث، وهذا مُستَحيلٌ في حقِّه ـ سبحانه ـ فإنَّ علم الله ـ جلَّ شأنُه ـ قديمٌ ليس بحادث فلا يزيد ولا ينقص ولا يقل ولا يكثر. إلّا إذا كان التكثير في مُتَعَلَّقاتِ العِلْمِ لا في العِلْمِ، قال ابنُ مالكٍ "قد" ك "ربَّما" في التَقليلِ والصَّرْفِ إلى مَعنى المُضِيِّ، وتكون حينئذٍ للتَحقيقِ والتوكيدِ نحو: "قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ" و{وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله} الصف: 5. وكقولِ وَرَقةَ بْنِ نَوْفلٍ بْنِ أسدٍ مِنْ قصيدة يرثي فيها زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو بْنِ نُفَيْلٍ الذي عَدا عَليْه بَنو لَخْمٍ وهو في طريقِهِ إلى مَكَّةَ فقتلوه وكان راهبٌ قد أبلَغه بأنَّ زمَانَ بِعثةِ النّبِيِّ الخاتم ـ صلى الهُق عليه وسلَّم ـ في مَكَّةَ قدِ اقْتَرَبَ، فانطلقَ إليها مُسْرِعًا لكنَّ منيته قد أدركته قبل أن يدرك مكة:
وقد تُدْرِكُ الإِنسانَ رحمةُ ربِّه ......... ولو كان تحتَ الأرضِ سبعين واديا
وقد تخلُو من التقليل وهي صارفةٌ لمعنى المضيِّ نحو قولِهِ: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} البقرة: 144.
وعَبَّر هنا بالمُضارع إذا المُرادُ الاتِّصافُ بالعِلْمِ واسْتَمْرارِهِ، ولم يَلْحَظْ فيه الزمانَ كقولِهم: "هو يُعطي ويَمنع". فمعناه أنَه يَفعلَ ذلك باستمرارٍ، وأنَّه دائمُ العطاء والمنعِ.
وقولُه: {إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} سادٌّ مَسَدَّ المفعولين فإنَّها معلِّقة عن العملِ، وكُسِرتْ همزةُ "إنَّه" لِدُخولِ اللامِ في خَبَرِها. وتقدَّم الكلامُ في "لَيَحْزُنك" في آلِ عمران، وأنَّه قُرئ بفتحِ الياءِ وضَمِّها مِنْ حَزَنَه وأَحْزنَه.
قولُه: {الذي يقولون} فاعلٌ وعائدُه مَحذوفٌ، أي: الذي يقولونَهُ مِنْ نِسْبَتِهم له إلى ما لا يَليقُ به، والضميرُ في "إنه" ضميرُ الشأنِ والحديثِ، والجملةُ بعدَه خبرٌ مُفسِّرةً لَه، ولا يَجوزُ في هذا المُضارعِ أنْ يُقَدَّرَ باسْمِ فاعلٍ رافعٍ لِفاعلٍ كما يُقَدَّرُ في قولك: « إنَّ زيدًا يقومُ أبوهُ" لِئَلَّا يَلزَمَ تفسيرُ ضميرِ الشأنِ بِمُفرَدٍ، وقد تقدَّم أنَّه ممنوعٌ عِندَ البَصْريّين.
قولُه: {لاَ يُكَذِّبُونَكَ} قرأَ نافعٌ والكِسائيُّ: "لا يَكْذِبُونك" مُخَفَّفًا مِنْ أَكْذَبَ، وقرأ الباقون مثقَّلًا مِنْ كذَّب، وهي قراءةُ عليٍّ وابْنِ عَبَّاسٍ.
واختلفَ الناسُ في ذلك، فقيل: هما بمعنى واحد مثل: أَكْثَر وكَثَّرَ ونَزَّل وأَنزل، وقيل: بينَهما فرق، قال الكِسائي: العرب تقولُ "كذَّبْتَ الرجلَ" بالتشديد، إذا نَسَبْتَ الكذبَ إليه، و"أَكْذَبْتَه" إذا نسبْتَ الكذبَ إلى ما جاء به دون أنْ تَنْسِبَه إليه، ويقولون أيْضًا: أَكْذَبْتُ الرجل إذا وجدْتُه كاذبًا كأَحْمَدْتُه إذا وجَدْتُه مَحمودًا، فمَعنى "لا يُكْذِبونك" مخفَّفًا: لا يَنْسِبون الكذبَ إليك ولا يَجدونك كاذبًا، وهو واضحٌ. وأمَّا التشديدُ فيكونُ خبرًا محضًا عن عدمِ تكذيبِهم إيَّاه. فإنْ قيل: هذا مُحالٌ؛ لأنَّ بعضَهم قد وُجِدَ منْه تَكذيبٌ ضرورةً. فالجواب أنَّ هذا وإن كان منسوبًا إلى جميعِهم، أَعني عدمَ التكذيبِ فهو إنَّما يُرادُ به بعضُهم مَجازًا كقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} الشعراء: 105. {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} الشعراء: 16. وإنْ كان فيهم مَنْ لم يُكَذِّبْه فهو عامٌّ يُرادُ به الخاصّ. والثاني: أنَّه نفى التكذيبَ لانتقاءِ ما يَتَرَتَّبُ عليه مِنَ المَضَارِّ، فكأنَّه قيل: فإنَّهم لا يُكَذِّبونك تَكذيبًا يُبالى به ويَضُرَّك لأنَّك لستَ بكاذب، فتَكذيبُهم كَلا تَكْذيبٍ، فهو مِنْ نفيِ السَبَبِ لانتِفاءِ مُسَبِّبه. وقال الزمخشري: والمعنى أنَّ تَكْذيبَك أمرٌ راجعٌ إلى الله لأنَّك رسولُه المُصدَّقُ، فهم لا يكذِّبونك في الحقيقة، إنما يكذبون الله بجحود آياته فانْتَهِ عن حزنك كقول السيدِ لغلامِه: وقد أهانَه بعضُ الناسِ ـ لن يُهِينُوك وإنّما أهانوني، وعلى هذا قولُه ـ سبحانه وتعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ} الفتح: 10.
قولُه: {بِآيَاتِ الله} متعلِّقٌ بـ "يَجْحَدون"، وهو الظاهرُ الذي لا يَنبغي أنْ يُعْدَلَ عنْه، وجَوَّز أبو البقاء أنْ يتعلَّق بالظالمين، قال: كقولِه تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا} الإِسراء: 59. وهذا الذي قالَه ليس بجيد، لأنَّ الباءَ هناك سببيةٌ، أي ْ: ظَلموا بِسبِبها، والباء هنا معناها التعدية، وهنا شيءٌ يتعلَّق به تعلُّقاً واضحًا، فلا ضَرورةَ تَدعو إلى الخروج عنه. وفي هذه الآية إقامةُ الظاهرِ مُقامَ المضمر، إذِ الأصلُ: ولكنَّهم يَجْحدون بآيات الله، ولكنَّه نَبَّه على أنَّ الظلمَ هو الحاملُ لهم على الجُحود. والجُحودُ والجَحْدُ نَفْيُ ما في القلبِ إثَباتُه أو إثباتُ ما في القلب نفيُه. وقيل: الجَحْد: إنْكارُ المَعرفة فليس مُرادِفًا للنَفيِ مِنْ كلِّ وجْهٍ.