قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
حَفِظَ ـ صلوات الله عليه ـ الآدابَ حيث سكت بلسانه عن سؤال ما تمنَّاه من أمر القبلة بقلبه ، فَلاَحَظَ السماءَ لأنها طريق جبريل عليه السلام، فأنزل الله عزَّ وجل : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } أي علمنا سؤلك عمَّا لم تُفْصِحْ عنه بلسان الدعاء ، فلقد غيَّرنا القِبْلَةَ لأجلك ، وهذه غاية ما يفعل الحبيب لأجل الحبيب .
قوله تعالى : { قَدْ نرى } قد: هذه قالَ فيها بعضُهم : إنها تَصْرِفُ المضارعَ إلى معنى المضيِّ ، وجَعَلَ ، مِنْ ذلك هذه الآيةَ وأمثالَها وقولَ الشاعر :
لِقَوْمٍ لعَمْري قد نَرَى أمسِ فيهمُ ... مرابطَ للأمْهارِ والعَكَرِ الدَّهِرْ
قوله: {فِي السمآء} في: متعلَّق الجارِّ ثلاثةُ أقوال ، أحدُها: أنه المصدرُ وهو "تقلُّب" ، وفي "في" حينئذ وجهان ، أحدُهما: أنَّها على بابِها الظرفية وهو الواضحُ . والثاني: أنَّها بمعنى "إلى" أي: إلى السماء ، ولا حاجةَ لذلك ، فإنَّ هذا المصدرَ قد ثَبَتَ تعدّيه بـ "في" ، قال تعالى: { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد} آل عمران: 196 . والثاني من القولين: أنه "نرى" وحينئذ تكونُ "في" بمعنى "مِنْ" أي: قد نَرى مِن السماء ، وذكر السماء وإن كان تعالى لا يتحيَّزُ في جهة على سبيل التشريفِ . والثالث: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من "وجهِك" فيتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ ، والمصدرُ هنا مضافٌ إلى فاعِلِه ، ولا يجوزُ أن يكونَ مضافاً إلى منصوبهِ لأنَّ مصدرَ ذلك التقليب ، ولا حاجةَ إلى حَذْفِ مضافٍ من قولِه "وجهك" وهو بصرُ وجهِك لأنَّ ذلك لا يكادُ يُسْتَعملُ ، بل ذكر الوجهَ لأنه أشرَفُ الأعضاءِ وهو الذي يُقَلْبه السائلُ في حاجته وقيل : كَنَى بالوجهِ عن البصر لأنه مَحَلُّه .
قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} الفاءُ: فاء السببية وهو واضحُ ، وهذا جوابُ قسمٍ محذوفٍ ، أي: فوالله لَنُوَلينَّكَ ، و"نُوَلِّي" يتعدَّى لاثنين: الأول الكاف والثاني "قبلةً" ، و"ترضاها" الجملة في محل نصبٍ صفةً لقبلةً ، وهذا يعني أن "فلنولينك" يَدُلُّ على أَنَّ في الجملةِ السابقةِ حالاً محذوفةً تقديرُه: قد نرى تقلُّبَ وجهِك في السماءِ طالباً قبلةً غيرَ التي أنت مستقبلَها .
قوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد } : "وَلَّ" يتعدَّى لاثنين أحدُهما "وجهك" والثاني "شطرَ" ويجوز أن ينتصبَ "شطر" على الظرفِ المكاني فيتعدَّى الفعلُ لواحدٍ ، والأولُ أوضحُ، وقد يتعدَّى إلى ثانيهما بإلى .
والشطر يكون بمعنى النصف من الشيء والجزء منه ، ويكون بمعنى الجهة والنحو ، قال:
ألا مَنْ مُبْلِغٌ عني رسولاً ... وما تُغْني الرسالةُ شطرَ عمروِ وقال :
أقولُ لأُمِّ زِنْباعٍ أَقيمي ... صدورَ العيسِ شَطْرَ بني تميمِ
وقال :
وقد أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمْ ... هَوْلٌ له ظُلَمٌ يَغْشاكُمُ قِطَعا
وقال ابن أحمر :
تَعْدُو بنا شَطْرَ نجدٍ وهيَ عاقِدَةٌ ... قد كارب العقدُ من إيقادها الحُقُبا
وقال :
إنَّ العَسِيرَ بها داءٌ مُخامِرُها ... وشَطْرَها نَظَرُ العينين مَحْسورُ
كل ذلك بمعنى : نحو وتِلْقاء . ويقال: شَطَرَ: بَعُد ومن : الشاطرُ وهو الشابُّ البعيدُ من الجيرانِ الغائبِ عن منزلِه ، يقال: شَطَر شُطوراً ، والشَّطيرُ: البعيدُ ومنه منزل شَطِير ، وشَطَر إليه أي أقبل. وصار يُعَبَّر بالشاطر عن البعيدِ وجمعه شَطْر ، والشاطر أيضاً لِمَنْ يتباعَدُ من الحقَّ وجمعُه شُطَّار .
وقوله: {حَيْثُ مَا كُنْتُمْ} حيثما: شرطيةٌ ، وشرطٌ كونِها كذلك زيادةُ "ما" بعدها بـ "كنتم" ، في محلِّ جزم بها ، و"فولُّوا" جوابُها وتكون هي منصوبةً على الظرفِ بكنتم ، فتكونُ هي عاملة فيه الجزمَ ، وهو عاملٌ فيها النصبَ نحو: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى} الإسراء: 110 واعلم أنَّ "حيث" من الأسماءِ اللازمةِ للإِضافةِ فالجملةُ التي بعدها كان القياسُ يقتضي أن تكونَ في محلِّ خفضٍ بها ، ولكنْ مَنَعَ من ذلك مانعٌ وهو كونُها صارَتْ من عوامل الأفعالِ . وحيث هي ظرفُ مكانٍ مضافةً إلى الجملةٍ فهي مقتضيةٌ للخفضِ بعدَها، وما اقتضى الخفضَ لا يقتضي الجزمَ ، لأنَّ عواملَ الأسماءِ لا تعملُ في الأفعالِ ، والإِضافةُ موضَّحةُ لِما أُضيف ، كما أنَّ الصلةَ موضِّحَةٌ فيُنافي اسمُ الشرط لأنَّ اسمَ الشرطِ مبهمٌ ، فإذا وُصِلَتْ ب "ما" زال منها معنى الإِضافةِ وضُمِّنَتْ معنى الشرطِ وجُوزي بها ، وصارَتْ من عواملِ الأفعالِ .
قوله: {أَنَّهُ الحق} أَنَّ واسمُها وخبرُها سادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْنِ لـ "يَعْلَموْن" عند الجمهور ، والثاني محذوفٌ على أنها تتعدَّى لاثنين ، وأن تكونَ سادَّةً مسدَّ مفعولٍ واحدٍ على أنها بمعنى العرفان .
وفي الضميرِ ثلاثةُ أقوالٍ أحدُها: يعودُ على التوليِّ المدلولِ عليه بقولِه: "فولُّوا" . والثاني: على الشطر . والثالث: على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكونُ على هذا التفاتاً من خطابه بقوله "فَلَنُوَلِّينَّكَ" إلى الغَيْبة .
قوله: {مِن رَّبِّهِمْ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الحق أي: الحقُّ كائناً مِنْ ربهم . وقرىء: "عمَّا يعملون" بالغَيْبة ردَّاً على الذين أوتوا الكتاب أو رَدَّاً على المؤمنين ويكون التفاتاً من خطابِهم بقولِه: "وجوهكم ـ كنتم" . وبالخطاب على ردِّه للمؤمنين وهو الظاهرُ ، أو للذين على الالتفات تحريكاً لهم وتَنْشِيطاً .