الرابعة بعد منتصف الليل ، يد خفية أيقظتني ، صحوت من نومي ، جلست حائراً لا أدري ما أفعل ..
ارتديت معطفأً خفيفاً ، وخرجت هائماً على وجهي في شوارع مقفرة إلا من مرور هرٍّ خائفٍ أو كلبٍ جائعٍ .
مشيت أكثر من ساعة إلى غير وجهة...
أخيراً ساقتني قدماي إلى المقبرة التي تتربع على هضبة اعتلت ناصية البلدة ، السلام عليكم.........
تحية محفوفة بالمهابة والخوف المكبوت ,اتجهت نحو قبر أبي ، جلست بجانبه أقرأ الفاتحة وأصغي بحثا عن الصفاء ، كنت أتوق إلى من أَكُنُّ إليه علّي أجد الصدق والإخلاص فلم أجد إلاّ الأبوّة.
كانت تباشير الفجرقد دمغت وجه السماء بانشقاقها عن بعض من لحمتها الحمراء ، ونسمات عليلة تلامس جبيني لتضفي هدوءًا وسكينة .
صوّبت النظرَ لأجد أمامي سلسلة من الجبال والوديان رابضة لتلقي على المكان وحشة ورهبة .
رفةُ رمش واحدة ارتدّ نظري بعدها إلى البلدة التي أقف على ناصيتها .
كانت تبدو رزينة هادئة .... البيوت تصطف بعضها بجانب بعض ؛ وكأن القائمين عليها كان ما يهدفون إليه من اجتماعها هو التكاتف والتعاون على الحياة .
وديعة بمظهرها ، جميلة بمرآها ، كلّ شيء ساكن , الرتابة والخضرة تكللها , وتزيدها أناقة .
لبرهة انتابني هذا الشعور، وما لبث يغادرني عندما بدأت أحدق في ذلك الشبح الذي بدأت ظلاله تتحرك باتجاهي، وكأنه هائم مثلي يبحث عن خلٍ يكن إليه ؟
لوهلة تبدّى بسرواله القديم وتجاعيد وجهه الداكنة وقسماته البائسة .
كان هَرَماً أخذتْ منه السنينُ كلُّ مأخذ فانحنى ظهرُه وبدا تعبُه وهروبه منها .
السلام عليكم :
جلس قبالتي مسترخياً على الأرض التي آثرها مقعداً بدلاً من حجارة القبور .
قرأ الفاتحة بصوت خافت وما لبث أن أعقبها بسورة (يس) جهراً ، وكأن صوته أضفى على المقبرة شيئاً من حزن مفقود ... وبينما هو يتلو وأنا أتبيّن آيةً وأخرى بشعور مختلف وأحاسيس عجيبة ، انتهى ، صدق الله العظيم .
اقترب مني مددتُ يدي أبحثُ عن بضعة نقود في أحد جيوبي ظناً مني أنه من أولئك المقرئين ، إلاّ أن يدي تجلّدت عندما بدأ متحدثاً وهو ينظر باتجاه تلك الجبال قائلاً:
وهبتُه كلَّ ما أملك .... أرضي ومالي ، حتى منزلي- الذي لم يعد لي مأوى سواه - سجّلته باسمه .
توفيت أمُّه وهو صغير فكان وحيدي , بل كلَّ دنياي .
كنت أرقب عودَه وهو يشتدّ , كان كل يوم يكبر وتكبر سعادتي معه .........
أنهى تحصيله الجامعي .. تزوج من زميلته ، وما لبث أن فاجأني بأنه سيرحل إلى المدينة ... حزنت كثيراً ، لكنني تقبلّت شريطة ألاّ ينقطع عن زيارتي كل أسبوع ، إلاّ أنّ زيارته بدأتْ متقطّعةً في بادئ الأمر إلى أن أصبحت في المناسبات .
ومنذ أسبوع ، وبعد غياب طويل!!!. تلقيته بأحضاني عندما طرق بابي في ذلك الصباح ، ظننته أنه الشوق إلى أبيه . كابرتُ ، غالبت دموعي التي أصرّت أن تتناثر لرؤيته .
وبعد حين من وصوله طرح ما لم أتوقعه يوماً ... يريد أن يُسْكنني في المدينة قريباً منه ... غُصّ ذلك الشبح ، وسكت حيناً وكأن الكلمات علقت في حنجرته!! وأرخى اللجام لذكرياته التي قادته عنوة إلى الماضي . ثم ما لبث أن أردف قائلا: يريد أن يضعني في دار المسنين ؛ لهفة منه على شيخوختي ووحدتي ؛ ووفاء منه لرعايتي له . طبعاً رفضت ، وقاطعت ولدي ، وأول البارحة طرق بابي أحدهم !! ليبلغني بأنه علي أن أفرغ حاجياتي من الدار التي أقطنها لأن ولدي قد باعها ... وسكت العجوز طويلا!!! وما لبث أن تركني ومضى .........
وراح يتجول بين القبور , وكأنه يبحث عن مسكن جديد .............
وكأن السماء غضبت وهي تصغي لقصة هذا الطيب فسحبت غيومها السوداء المحملة بالخيرات ، وانبثق فجر جديد ....
فسارعت أناديها أرجوك دعيهم ... لا توقظيهم .
فكم أنت وديعة يا بلدي حين ينامون .