مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الكتاب} مِنْ: للتبعيضِ فهي ومجرورُها في محلِّ نصبٍ على الحال ويتعلَّقُ بمحذوف أي: ما يَوَدُّ الذين كفروا كائنين من أهلِ الكتابِ . أو لبيانِ الجنسِ .
قوله: {وَلاَ المشركين} عطفٌ على "أَهْلِ" المجرورِ بمِنْ و"لا" زائدةٌ للتوكيد لأنَّ المعنى: ما يَوَدُّ الذين كفروا مِنْ أهلِ الكتابِ والمشركين كقولِه: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} سورة البيِّنة: 1 بغيرِ زيادة "لا" . وزعَمَ بعضُهم أنه مخفوضٌ على الجِوار وأنَّ الأصلَ: ولا المشركون ، عطفاً على الذين وإنما خُفِض للمجاورة ، نحو: "برؤوسكم وأرجلكِم" في قراءة الجر .
قوله: {أَن يُنَزَّلَ} ناصبٌ ومنصوبٌ في تأويلِ مصدرٍ مفعولٌ بـ "يَوَدُّ" أي: ما يودُّ إنزالَ خيرٍ ، وبُني الفعلُ للمفعولِ للعلمِ بالفاعلِ وللتصريحِ به في قولِه: "من ربكم" ، وأتى بـ "ما" في النفي دونَ غيرِها لأنَّها لنفي الحالِ وهم كانوا متلبِّسين بذلك .
قولُه: {مِّنْ خَيْرٍ} هذا هو القائمُ مَقَامَ الفاعلِ ، و" مِنْ " زائدةٌ ، أي: أَنْ يُنَزَّل خيرٌ من ربكم . وحَسُنَ زيادتُها هنا وإنْ كان " يُنَزَّل " لم يباشِرْه حرفُ النفي لانسحابِ النفي عليه من حيث المعنى لأنه إذا نُفِيَتِ الوَدادَةُ انتفى مُتَعَلَّقُها . وهذا له نظائرُ في كلامِهم نحو: "ما أظنُّ أحداً يقولُ ذلك إلا زيدٌ " برفع "زيدٌ" بدلاً من فاعِل "يقول" وإنْ لم يباشر النفيَ ، لكنه في قوةِ: "ما يقولُ أحدٌ ذلك إلا زيدٌ في ظني" وقولِه تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} الأحقاف: 33 زيدت الباءُ لأنه في معنى: أَوَلَيس اللهُ بقادرٍ . وقيل: "مِنْ" للتبعيض أي: ما يَوَدُّون أَنْ يُنَزَّلُ من الخيرِ قليلٌ ولا كثيرٌ ، فعلى هذا يكونُ القائمُ مقامَ الفاعل: "عليكم" والمعنى: أَنْ يُنَزَّل عليكم بخير من الخُيور .
{مِّن رَّبِّكُمْ} مِنْ: لابتداءِ الغايةِ فتتعلَّقُ بِيُنَزَّل . أو للتبعيضِ، ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضاف تقديرُه: مِنْ خُيورِ ربِّكم، وتتعلَّقُ حينئذٍ بمحذوفٍ ، لأنَّها ومجرورَها صفةً لقولِه: "مِنْ خيرٍ" أي: مِنْ خيرٍ كائن من خيورِ ربِّكم ، ويكونُ في محلِّها وجهان: الجرُّ على اللفظِ ، والرفعُ على الموضعِ لأنَّ "مِنْ" زائدةٌ في "خير" فهو مرفوعٌ تقديراً لقيامهِ مَقامَ الفاعل كما تقدَّم .
وتلخَّصَ ممَّا تقدم أنَّ في كلِّ واحدةٍ من لفظِ "مِنْ" قولين ، الأولى: قيل إنها للتبعيض ، وقيل: لبيان الجنس ، وفي الثانيةِ قولان: زائدةٌ أو للتبعيضِ ، وفي الثالثة أيضاً قولان ابتداءُ الغايةِ أو التبعيضُ .
قوله: {والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} هذه جملةٌ ابتدائيةٌ تَضَمَّنَتْ رَدُّ ودَادَتِهم ذلك . و"يختصُّ" يَحْتملُ أن يكونَ هنا متعدِّياً وأن يكونَ لازماً ، فإنْ كان متعدِّياً كان فيه ضميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى، وتكون "مَنْ" مفعولاً به أي يختصُّ الله الذي يشاؤه برحمتِه ، ويكونُ معنى افْتَعَلَ هنا معنى المجرد نحو: كَسَب مالاً واكتسَبه ، وإنْ كان لازماً لم يكن فيه ضميرٌ ويكونَ فاعلُه "مَنْ" أي: واللهُ يختصُّ برحمتِه الشخصَ الذي يَشاؤُه ويكون افتعل بمعنى فعل الفاعل بنفسه نحو اضطرب ، والاختصاص ضد الاشتراك ، وبهذا تبين فساد قول مَنْ زعم أنه هنا متعدٍّ ليس إلاَّ . و"مَنْ" يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً ، وعلى كلا التقديرين فلا بُدُّ من تقديرِ عائدٍ ، أي: يشاءُ اختصاصَه ، ويجوزُ أَنْ يُضَمَّنَ "يشاء" معنى يَخْتار ، فيحنئذٍ لا حاجة إلى حَذْفِ مضاف بل تقدِّره ضميراً فقط أي: يَشاؤه ، و"يشاءُ" على القولِ الأولِ لا محلَّ له لكونِه صلةً ، وعلى الثاني محلُّه النصبُ أو الرفعُ على ما ذُكِرَ في موصوفِه من كونِه فاعلاً أو مفعولاً .