في احدى اليالي الباردة بثلجها ورياحها
والمشتعلة بقلوبٍ تنبض طلباً للحرية وحناجر تطلق كلماتها رصاصاً يخترق قلوب الجنود
فيملئها بالخوف ويخترق جسد الدبابة الفولاذي فترتعد فرائصها .
تلك الليلة كان عُدي مازال مستيقظاً فمعدته
الخاوية كانت تجأر بأعلى صوتها طلباً للطعام وكانت عظامه ترقص من شدة البرد على
موسيقى أسنانه التي كانت تصطدم بعضها بالبعض الآخر حائرة وكأنها تبحث عن أشلاء الطعام
المتبقية لتأخذ منها بعض الدفء , صيحات استغاثة معدته أجبرته على أن يسأل أمه للمرة
الألف : أين الطعام . فأجابته قائلة : انتظر قليلاً لقد ذهب أبوك ليحضر الطعام .
وأخيراً ماتت صيحات الإستغاثة في ظلمة اليأس والطاقة نفذت من جسده بالكامل فارتمى
في أحضان النوم عله يطعمه كسرة من الخبز يسد بها جوعه .
كان النوم
قد استولى على جسده بالكامل ولكن أصوات الصراخ أيقظته من سكرته وإذا بالأمن قد
داهم منزلهم الصغير فقد انتشر الجنود في البيت يكسرون ويخربون كل شيءٍ أمامهم ثم
أمسكوا أباه ودخل الضابط بجزمةٍ سوداء
كوجهه وبدلةٍ فضفاضة تخفي ورائها جسمه
الهزيل وصرخ بصوته العالي الذي يخفي بداخله صوت ضربات قلبه قائلاً : بدك حرية ما
هيك ؟! .(مخاطباً أباه) يحاولان أن يمسكا بساعديه المفتولين : نعم غصباً عنك أنت
ورئيسك اللعين . وهنا استشاط الضابط غضباً وراح ينهال عليه بالضرب فراحت أم عُدي تبكي
وصرخ عُدي بأعلى صوته : بابا..
فالتفت
إليه الضابط وقال : قلت بابا ها.. بتحبو . قال : نعم كثيراً فقال : ولكنني أنا لا
أحبه .ثم التفت إليه وضغط باصبعه على الزناد مطلقاً العنان لرصاصته الصماء التي
كانت تنتظر ذلك منذ زمن فخرجت من فُوَّهة المسدس واخترقت طبقات الهواء غير مصغية
لصيحات عُدي وأمه ثم اخترقت الصدر النابض بالحرية الذي لطالما حمل هموم الحي بداخله
ثم سكنت قلبه المليء بالإيمان وبدأت تبث سمومها فيه حتى شلت حركته .
مات أبوعُدي
ولكن لم يمت صوت عُدي الذي مازال يصرخ حتى أسكتته ركلة أحد الجنود على وجهه فبدأت
دمائه تعانق دموعه الزكية .
خرج الضابط
يزهو بكبريائه وقال : اقتلوا الولد وهاتوا الحلوة . فأخذوا يجرّون أمه رغماً عنها
أمام عينيه وهي تحاول أن تفلت منهم وأخذت تصرخ : عُدي ولدي.. . فهبّ الطفل يركض
وراءها مسرعاً ولكن ركلة أخرى تلقاها على وجهه قذفته بعيداً حتى اصطدم بالجدار
الخارجي لمنزلهم فغاب عن الوعي وما غاب ذلك المشهد عن رأسه الذي ما زال ممزوجاً بالدماء.
عاد الجندي لينفذ الأمر نظر إليه وقال : لقد مات سيدي . لا أدري هل هي الرأفة أم
عدم المبالاة أم أنه قدر السماء أراده أن ينتقم .
استفاق
عُدي من غيبوبته وجلس مستنداً إلى الجدار الذي بقيّ من منزله فلقد شهد الحي قصفاً بالطائرات
عندما كان غائباً عن الوعي ثم مر بيده على وجهه فعادت مبلولة بالدماء وأخذ يبكي
ولكنه لم يدر لماذا يبكي ؟ وعلى ماذا يبكي ؟ أيبكي على أبيه الذي مات ؟ أم يبكي
على أمه التي اختُطفت ؟ أم على منزله الذي تهدم ؟ أم على وجهه الملطخ بالدماء ؟
ونزلت عبراته
تداوي جراحه وتقبِّل خديه وأخذت السماء تبكي وتغسل عنه الحزن والأسى وتكبيرات
المساجد أخذت تدعوه إلى النهوض والانتقام . ركض مسرعاً ملبياً النداء فشاهد الجموع
الغفيرة تستعد للخروج في مظاهرة حاشدة فانضم إليهم وبدأ صوته الصغير يزاحم أصواتهم
كما كان جسمه النحيل الجموع حتى وصل إلى المقدمة .
واصلت
الجموع سيرها حتى اصطدمت بحاجزٍ للأمن يختبىء وراء الدروع الفولاذية خوفاً من
أصوات حناجرهم التي كانت تهز شاربي الضابط الذي كان مختبئاً في سيارته المدرعة
ينظر إلى هذه الجموع التي لا يوقفها شيء حتى الموت بل على العكس كانوا كلما قتلوا
أكثر ازدادت أعداد المنظاهرين أضعافاً مضاعفة .
قلب عُدي نظراته بين وجوه يبحث عن الوجه
الذي قتل فيه الطفولة وأحيا فيه البطولة , نزل الضابط من سيارته يهمس في أذن الجندي
: أطلقوا النار عليهم اقتلوهم جميعاً . هنا رصدته نظرات عُدي فركض مستغلاً الفوضى
واخترق الجميع وقفز كالأسد منقضاً ذلك الجندي وتمسك ببندقيته ووجهها إلى الضابط
ووضع اصبعه على الزناد مطلقاً رصاصات الانتقام التي اخترقت صدر ذلك الضابط المليء بالخبث
والسموم ومطلقاً صيحات : (الله أكبر) .